فى كتابه القيم «فجر الضمير» يقول برستد: «إن أثمن ممتلكات الروح الإنسانية، إصرارنا الشديد على التمسك بشعور حب الاستقامة، والعمل على التقدم نحو فتوحات جديدة فى الأخلاق». والتصوف كما تُعرفه الرسالة القشيرية هو خُلق، فمن زاد عليك فى الخلق، فقد زاد عليك فى الصفاء. فطريق التصوف هو طريق الترقى الخلقى، والصفاء النفسى، والسمو الروحى. ومن ثم يرى الغزالى أن التصوف له خصلتان: الاستقامة والسكون عن الخلق، فمن استقام وأحسن خلقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو صوفى. وفى كتاب «اللمع» للسراج الطوسى، يقول: إن أكبر الكرامات أن تبدل بخلق مذموم من أخلاق نفسك خلقا محمودا. فالغاية هى الأخلاق، وجوهر الدين هو الأخلاق، والطريق الروحى لا يؤتى ثماره إلا من خلال تزكية النفس، وتطهير القلب، والذى يظهر أثرهما فى تهذيب الأخلاق. إذ إن العلم وحده -مع أهميته- غير كاف لاستكمال الشخص لإنسانيته، فدراسات الإنسان العلمية للكون من حوله، ودراساته النظرية المختلفة، لا تكفى وحدها لبناء الإنسان الكامل، ومن ثم لا بد من مجاهدات شاقة، وعمليات تهذيب متتابعة يقوم بها الإنسان لإصلاح دخيلة نفسه، من أجل الوصول إلى الرقى الخلقى الجدير بخلافة الله فى الأرض. ولقد نشأ التصوف الإسلامى -كغيره من نزعات التصوف فى الديانات جميعا- معبرا عن المثل الدينى الأعلى، وظل طوال تاريخه وعبر العصور، يعبر عن ذلك المثل مخالفا ما عليه العامة، مخالفا القراء، والفقهاء، وأهل السنة، والمتكلمين، والمتفلسفين، متعرضا لعداواتهم واضطهاداتهم من غير أن تخرجه العداوات والاضطهادات عن حدود الحب والتسامح، وهذا المستوى الأرقى من مستويات الوعى الإنسانى، لا يتأتى للعاديين من البشر. وأحب أن أذكر هنا ما قاله أستاذنا الدكتور زكى نجيب محمود فى كتابه المهم «المعقول واللا معقول»، إذ كتب عن التصوف: «أن الدنيا لن تتقدم به قيد إصبع واحدة»، وهذا الرأى قائم على تصور التقدم البشرى باعتبار أنه إنجازات مادية وتكنولوجية فحسب، ولكن الحقيقة أن التقدم المادى، إذا لم يواكبه تقدم روحى، يتعرض هذا التقدم نفسه للخطر، وهذه واحدة من المشكلات الكبرى التى يقابلها الإنسان المعاصر، ولا سيما أن الإنسان لا يتجه بفكره إلى العالم الخارجى فحسب، إذ هو مشغول -أيضا- بالتأمل فى ذاته، وفى وحدته، وهو قلق على نفسه، ويسأل عن معنى حياته ونهايتها، ودون إشباع لهذا الجانب العميق فى الإنسان يفقد التقدم العلمى معناه، وتتعرض حضارة الإنسان كلها للزوال والفناء. ولكن ليس من المطلوب أن تكون عامة الناس صوفية، ولا علماء، ولا شعراء، ولا فنانين، وإلا لاختل نظام الحياة الإنسانية. وإنما كل إنسان ميسر لما خلق له، والحكمة تقتضى شمول الغفلة لعمارة الدنيا!. والتأمل فى هذه المعانى الروحية، يخلق التوازن الضرورى بين مطالب الجسد، ومطالب الروح، كما أن السبل إلى الله تعالى لا أول لها ولا آخر، إذ إن لكل مخلوق من مخلوقاته، طريقه الخاص إلى خالقه جل جلاله .