ليس مأزق أمتنا العربية الاسلامية إلا فطرة تاريخية ضمن ماتتعرض له كل أمة, وإن كان لهذا المأزق وبشكل خاص دواعيه وأسبابه التي لاتدعو للاستسلام والغفلة قدر ماتدعو للمواجهة واليقظة! فهل ظلت أمتنا مجدبة العطاء في إطار ماأحيطت بها من أزمات جعلت دورها يتضاءل إلي جانب دور اليد الطولي التي لها الدور الأكبر في صناعة هذه الأزمات واختلافها! الحقيقة إنها قد أفرزت تبعا لطبيعتها الكثير والكثير من الذهنيات الراقية الحية التي استطاعت أن تشق ظلام الساحة وتخترق ضباب الأفق وتتحدي المخطط المرسوم وتكشفه وتفضحه وتقف علي أسراره وتعمل علي إشاعتها من أجل بث روح التضامن والتآزر معها ضد الحضارة الأخري التي لاتلغي المسافات بين الأمم بل تعمل علي زيادتها ولعل عبء هذه الصفوة أو النخبة هو عبء مضاعف لأنها جاءت وقت أزمة ودائما ما يكون للأزمة طبيعتها وظروفها ومنطقها الخاص وأسلوب التعامل معها والتعبير عنها, وبالتالي فدور الصفوة يكون له طابع الإصرار والتحدي والوقفة الجادة النبيلة التي تنتظرها أمة بلغها الضعف والوهن لكن لم تبلغها الشيخوخة والهرم!أقول إنه دائما ماتكون الأزمات مسرحا رائعا من قبل الخصوم للوي الأعناق وتضليل العقول والانجذاب نحو الوصولية والانتهازية وفتح الأبواب لكل من يريد الارتزاق من الأباطرة والأسياد في جو متشبع بضباب التعتيم. وأقول أيضا إن هذه الصفوة تقع عليها مسئولية تألق مستقبل الأمة ونهضتها وإقالتها من عثرتها نحو تغيير الواقع وخلق رؤية جديدة مستنيرة واستلهام أبجدية جديدة وطرائق خاصة للتفكير وإعادة الثقة بدور الأمة ورسالتها, وكيف السبيل لموقف متوازن حين التواجه مع الآخر وتأكيد الإيمان المطلق والموضوعي بالأرضية التاريخية للأمة حتي يأخذ التفكير منحي جديدا نحو الانطلاق والإقلاع وتأكيد الذات بتمايزها وتفردها وضرورة استعراض حاضرها ممثلا في إسهامات رموزها ونخبتها ثم التواصل مع الثقافات الأخري بما يؤكد ضرورة التفاعل والاحتواء الذي هو جوهر نسيج الثقافة الانسانية بأسرها. لكن كم يؤسف أن تنطلق الآن صيحات التكفير في وجه الكاتب والمفكر عباس محمود العقاد الذي لانكرر إنه أحد شوامخ الفكر العربي والمشعل المضيء للباحثين شرقا وغربا عن أصول الحضارة ومنبع التاريخ وأصول الثقافة والأديان وصاحب الحضور القوي الواعي في دفع مسيرة أمتنا سياسيا وفكريا حضاريا وروحيا, ولاتزال كتاباته وأطروحاته تثير جدالا واسعا وقلقا نبيلا أمام الأجيال القادمة, حول ماتموج به حياتها من مغالطات وأضاليل وتأرجح بين ماهو زائف مشوش وماهو حقيقي أصيل في إطار أسرار حبكة اللعبة العالمية التي استقصي العقاد مؤشراتها ووقف علي مغزاها وفضحها منذ البداية ونبه إلي خطورتها علي الشعوب العربية والاسلامية في غير رفق ولا هوادة, هاجم الحضارة الغربية ليس كحضارة إنسانية ولكن ما وراءها من بواعث وأسباب تربطها بالشرق العربي كبؤرة ومحراب لمصالحها وأطماعها وسياستها, فند نظرياتها ومذاهبها كالماركسية والنازية والفاشية والصهيونية التي أطلقت عليه الرصاص ذات يوم في منزله لكنه لطمها لطمة مازالت تدوي أصواتها, دافع عن القيم الانسانية العليا وعالم الكمالات الرفيعة, ونادي بحرية الفكر وغاص في حقائق الكون وتأمل أغوار النفس. وأقلام أخري كم هو جدير بنا أن نعاود استلهامها علي مستوي النخبة والعامة مثل الأديب يحيي حقي صاحب الروح المصرية الأصيلة والخصوبة الداخلية النادرة وراء عباراته وأفكاره وإحساساته, وعي المعادلة الحضارية القائمة بين الشرق والغرب وتفاءل بأن مستقبل الثقافة الانسانية هو مستقبل صائر إلي التوحد, ارتبط بجذوره الحقيقية وعشق الشخصية القومية وبحث أسباب نهضتها وربما كانت أخص ميزة بالنسبة لأديبنا هي الإيقاع الصوفي الذي يأسر قارئه عربي كان أو غير عربيا, كما إنه أنشودة إنسانية رقيقة صافية تحمل معاني الروعة الأخلاقية والقيم الجمالية والسمو النفسي وعبقرية الإحساس, ولو جاز أن نخطيء أعمال يحيي حقي لما جاز لنا أن نخطئ حياته التي كانت سيمفونية كونية من العبق الروحي العلوي!!أما مفكرنا العربي العملاق زكي نجيب محمود فإن مشواره مع الثقافة العربية هو مشوار تاريخي بمقاييس الفكر المنصف فمنذ أن اعتبرها قضيته الأولي وإشكاليته الكبري وهو لايكف عن طرح البدائل والاحتمالات المستقبلية لمسيرة هذه الثقافة محاولا أن يخلق لها أرضية قوية في المحيط العالمي كما كانت لها من قبل, فنراه وقد استعرض مضمون هذه الثقافة بمنتهي الشمولية ليؤكد إنها ثقافة صالحة للبقاء إذا سايرت الثقافات العالمية واستطاعت أن تخلق لنفسها مركبا جديدا يجمع بين عبقريتها القديمة وظروف وحقائق العصر المتمثلة في الثقافات الأخري. أقول إنه بعد أن قضي الشطر الأول من عمره في دراسات المذاهب والمدارس الغربية وتيارات الفكر العالمي استطاع أن يستخلص لنفسه منهجا أصيلا استهدف به تحليل مضمونات ثقافتنا في تاريخها الطويل ليوقن بضرورة التواجه والوجود للكيان الثقافي العربي علي الساحة, ولن يكون هذا كما استشعر مفكرنا إلا من خلال سريان روح العقلانية في أصلاب الحياة الاجتماعية وضرورة التمسك بقواعد الفكر الحر ومعاداة الخرافة والتسامي علي الواقع المتردي لخلق واقع جديد. إن مصر ما أحوجها الآن وفي كل تلك اللحظات العصيبة من تاريخها المعاصر أن تتقدم نخبها وكوادرها الفكرية بمشروع ثقافي إحيائي يدعم ثورة الوعي بنموذج معرفي تقدمي يفكك الطلسمات السياسية والمغالطات الدينية ويحول دون الانجراف نحو المجهولات. باحث وكاتب