لعل أوروبا بشرقها وغربها وأمريكا كمركز للحضارة السائدة الآن لا أحد يجهل فيها ولو مثقال ذرة من مسيرة أمتنا العربية والإسلامية في تاريخها القديم والحديث علي السواء كمسيرة حضارية متطاولة علي الأزمان, لأنه يدخل ضمن إطار التكنيك والاستراتيجية وأبواق الخداع أن يكون ميدان العلم بهذه المسيرة هو أحد الأسلحة والركائز في إصابة أو خدش هذه المسيرة ذاتها, لأن استحضار عظمة هذه المسيرة والحكي عن الأمجاد والمآثر والأيادي البيضاء لأصحابها بالموضوعية المطلوبة يثير فيهم ألحان الأسي وخواطر الشجن, بل يغرس ويقوي لديهم إحساسا مرفوضا بأنهم قشور لا لباب, أعراض لاجواهر, فروع لاجذور.. أقول إنهم لايجهلون أن أمتنا هي أمة ممتدة الجذور في التاريخ قديمة العهد بالحضارة انصهرت فيها شعوب منطقة الوطن العربي التي شيدت الحضارات الإنسانية الأولي في وادي النيل أولا ثم في بقية أنحاء المنطقة وفيه ظهرت الأديان السماوية وشيد العرب منذ القرن الهجري الأول( السابع الميلادي) بعد انطلاقهم بالإسلام حضارة رائدة شاركت معهم في تشييدها أمم أخري وبلغت هذه الحضارة العربية الإسلامية شأوا عظيما في العصر الوسيط لم تلبث ان اعتراها ما اعتري الحضارات السابقة من ضعف وفتور, لكنها كانت طيلة زمن وجودها هي الحضارة العطاءة المناحة التي تسامت بالإنسان وربطته بإنسانيته وارتقت بها, ولم تكتف بأنها شغلت حيزا طويلا من الزمن أو حيزا عريضا من الرقعة, كما كانت أساسا من أسس الحضارة الغربية المعاصرة, انفتحت علي مجالات العلوم كلها وأسست أرضية غير مسبوقة وفتوحات وكشوفا وشواهد يعتد بها, فماذا لو لم تكن هذه الحضارة العربية الإسلامية بأبعادها العقلية والروحية والخلقية والعلمية؟؟! إنه بصفة عامة لم تكن حضارة أمتنا إلا طاقة إشراقية اتسمت بالشمول الكوني وإن عانت كثيرا من موجات الجحود والنكران! والتاريخ حين يوزع أدواره فلا لوم ولا لائم ولاسائد ولامسود ولا فضيلة لمن كان له فيه دور التشييد علي من كان له دور التأسيس إن لم يكن العكس هو الصحيح, وإذا كانت فلسفة التاريخ تترجم لنا أزمات وكبوات الواقع الإسلامي الآن فإنها أيضا تعطينا في ذات الوقت مؤشرات السقوط والزوال بالنسبة للحضارة المعاصرة. ولسنا هنا بصدد تقييم الموقف الحضاري الراهن بصياغاته المتعددة وتفسيراته وشروحه الكثيرة وإنما نحن أمام إشكالية تطرح نفسها بشكل متجدد علي هذا النحو وهو لماذا لم يكن لمسيرة عطاء أمتنا موقع واعتبار في هذا المنعطق التاريخي وسط ما تحظي به أمم أخري هي خلو من أية مقومات أو دعائم تجعل لها قدما ثابتة في المحيط الإنساني الآن؟؟ وتضعنا هذه الإشكالية أمام طريقين فهو إما إننا أمة لاطاقة لنا ولاجهد علي المثابرة والصمود والتواجه في هذا الخضم العالمي وبالتالي لابد أن نكون بعيدين عن ميدان السباق والمنافسة وإما أن هناك من يحول بيننا وبين أن نسجل بصمتنا فيضع العراقيل ويضيف الحواجز ويكثف الضباب. والحقيقة التي لايمكن الحياد عنها هي أن أمتنا كانت ومازالت قادرة علي الاحتفاظ بأصالتها وتراثها وإشعاعها الفكري والروحي فقد أذهلت العالم بفتوحاتها وأطاحت بامبراطوريات عملاقة وضربت أروع الأمثلة والنماذج رغم صراعاتها المتعددة في كل اتجاه ورغم محاولات استنزافها والتكالب عليها وتدمير هياكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. نقول إذا كانت أمتنا طوال تاريخها لم تنج من براثن الاستعمار قديما فكيف لها أن تنجو منه الآن؟؟ ولم تختلف الظروف كثيرا.. وقد جاء وقت تصفية الحسابات التاريخية المترسبة والعالقة في الذاكرة حيث هذا العصر الحديث والمعاصر مع شعوب هي وريثه لأعرق حضارة إنسانية عرفتها البشرية... يحدث هذا تحت راية تحضر مزعوم لشعوب متخلفة باسم التنوير والتقدم العلمي والتكنولوجي التقني!! نقول أن الغرب قد جاء لتصفية حسابات صليبية والاستحواذ علي الخبرات واستجلاب المنافع تحت مسميات كثيرة وشعارات براقة ينطوي تحتها ملايين من البشر ويتم التعامل معهم كنفايات ومستنقعات يلقي إليها بفائض الإستهلاك في مقابل مزيد من السيطرة والاستحواذ ولو عنوة علي موادها الخام وعلي القدرة المسيطرة والمسيرة لحركة الكون في القرن العشرين حيث اعتماد العلم والتكنولوجيا والتطبيق الصناعي علي المحرك الذي إعتمدت الحضارة في تفوقها عليه وهو الطاقة ومن ثم الاستحواذ علي مصادر القرارات المتحكمة فيها وتوجيهها الوجهة السياسية المطلوبة. ومن هنا فأمتنا بحزامها الإسلامي هي أمة مستهدفة محكوم عليها عالميا لتحقير عقولها بغية امتصاص خيراتها والتحكم في مصيرها وشل دورها الرائد كونيا لتتحول إلي بؤرة للتوتر والصراعات ومستنقع استهلاكي يلقي فيه فائض الموائد وبقايا نفايات الإنتاج بعد امتصاص خيراتها الطبيعية ومواردها الطاقوية المتحكمة لحقبة مستقبلية طويلة. نقول أن أمتنا أمة معطاءة بكل المقاييس ماضيا وحاضرا لكنهم يريدونها أن تتحول إلي محيط التعاسة والقنوط.. يريدن أن تتوحل قيادتها فيما فرض عليها من إشكالات وافتعل في طريقها من حواجز... يريدون نخبة مستلبة تلوك مااصطنع لها من اختيارات مزيفة وجماهير ممزقة تعاني وتلهث تحت خط الفقير ومستوي الضرورات في غالبيتها. وقوي خفية ومراكز ضغط تمسك بجميع خيوط لعبة التسلط علي مصائر الشعوب ومقدراتها وعلي توجيهها عبر نخبها وصفواتها تلك المولعة بالقفز الأجوف في بحرالظلمات. نقول أن هدف هذه القوي هو تجميد النخبة وشل حركة فكرها الخلاق في محاولة لإجداب مناطق إبداعها وإلهائها بصغائر الأمور وأهونها من أجل جرها إلي حيز التهميش واستهوائها واستمالتها بطرق وحيل شيطانية. وإذا كانت التقنية قد أصبحت عقيدة وعبادة عالمية تستهدف تهيئة الأمم والشعوب للخضوع بلا نفور نحو مقتضياتها فإننا نجد( رينيه بيرو) يؤكد ذلك حين يقول( عندما يكون المرء قادرا علي صنع الصاروخ تكون له حقوق علي الذين لم يخترعوا العجلة!!). والحقيقة أن ماتمر به أمتنا هو أزمة جيل لاأزمة مصير, أزمة نخبة لا أزمة أزمة, أزمة جيل لنخبة ارهقها الاستعمار بمشتقاته ورواسبه, استولي علي ارضها وخيراتها عنوة توطئة لأن يستحوذ في النهاية علي عقلها, ولكن هيهات لأن الأمة التي أنتجت في سائر ضروب المعرفة وأبدعت في مختلف مناحي الإبداع لايمكن استئناس عقلها بسهولة فهو عقل واع عصي لم يألف الطاعة والخنوع لأنه كان في أغلب أحيانه ثائرا متوهجا متوقدا حاد الحركة سريع النفاذ إلي استبطان ما في جعبة التاريخ!! مهما بلغ الغرب الذي وصفه( سيرج لاتوش) في كتابه تغريب العالم بأنه الآلة الجهنمية التي تسحق البشر والثقافات من أجل أهداف جنونية لايعرفها أحد وتوشك نهايتها أن تكون الموت!! ومن هنا يبدو إننا متفقون تماما مع الطرح الثاني لإشكالية أزمة أمتنا كأمة مستطيعة بغيرها في هذه اللحظة التاريخية, أمة يحال بينها وبين المشاركة في المنظومة الحضارية نظرا لإحكام القبضة حول عنقها لإزهاق روحها حتي تطفو كالجسد المسجي الذي تراقب كلماته وتحصي عليه أنفاسه ويتنازعه العدم والوجود!!