لماذا أعلن عن تلك النهاية قبل استكمال المؤشرات الفعلية لها؟ ولماذا لم يدخل ضمن شرطيات العملقة وجود الطاقة الفكرية الخلاقة التي تعصم وقاره وتحفظ مهابته؟ وهل كانت العملقة الكونية مجرد نزعة ذاتية أم مشروع تقدمي عالمي يمثل مرجعية كبري لاطراف المحيط الدولي ؟ كيف يطرح العملاق اهمية وضرورة فكرة التجانس الكوني وهي تناقض فكرة المركزية الثقافية التي هي اساس ذاتيته؟نستأنف اليوم قراءتنا النفسية في الشخصية الأمريكية حيث ساقت هذه المرحلة إلي طور آخر من الاطوار النفسية هو البارانويا أو الفتنة والزهو بالذات حيث تنسب الامبراطورية لغيرها أفكارا ورؤي وتصورات وتئول حركة الكيانات الاخري بما يتفق ومعتقداتها فيتحول الصراع مع الذات الي صراع مع الآخر ينبني في مجمله علي نتائج منطقية رغم ما سبقها من مقدمات خاطئة! وقد عايشت الامبراطورية تلك المرحلة إثر الحرب العالمية الثانية حين استطاعت ان تحدث تغيرا ملموسا في توازنات القوة العسكرية والاقتصادية وان تحيل اوروبا الي الظل الامريكي كما قال توينبي وتتبوأ مكانتها كقوة عالمية فعلا وإمكانا, من ثم تبدي في الافق مفهوم القرن الامريكي الذي نحته هنري لوس ودفع ذلك بالضرورة لبناء استراتيجية كونية تذعن لابعادها السياسية والاجتماعية والأيديولوجية كافة الكيانات, وانه من غير الجائز الخروج عليها فضلا عن تحديها واستفزازها وستظل الولاياتالمتحدة هي قوي الردع الفاعل, ولقد عبر ديجول عن هذه الحالة قائلا: إن مشكلة الامريكان انهم يريدون ان يكونوا بمثابة شرطي العالم ومعلمه وقسيسه وبنكيره. وحين تبلغ البارانويا مداها تتحول الي فعل سلبي شارح لمعاني السادية الرامية الي مزاولة التعذيب والقسوة والوحشية ارضاء واشباعا لتلك النزعات الجامحة نحو السيطرة والاحكام والاستحواذ واطلاق العنان نحو سمو القدرة وصعودها نحو الرعونة, وقد تجلت في هذه المرحلة محاولات احياء الروح الصراعية وممارسة السادية المعنوية ببروز نظريتي نهاية التاريخ و صدام الحضارات فالأولي تحمل دلالات عديدة منها الحجر الابدي علي امكانات الدول والشعوب ونفي فكرة التواصل الحضاري والتأكيد علي عدم تحقق الندية وشيوع الاحباط الدولي, والشعوب ونفي فكرة التواصل الحضاري والتأكيد علي عدم تحقق الندية وشيوع الاحباط الدولي, بينما الاخري تطرح مضموناتها فكرة حتمية الصراع والتواجه المعتمد بالضرورة علي معطيات القوة وآليات التخويف والترويع باعتباره صراعا محسوما تستطيع الامبراطورية خلاله استشفاء ذاتها ومنحها فرصة التهيؤ نحو بلوغ مراميها السادية وقد ألجأت الآخر نحو تقويض ذاته وانسحاقها, اما السادية المادية وباعتبارها ظاهرة عدوانية من طراز خاص فقد استفحل طغيان ممارساتها بشكل جعل منها ظاهرة امريكية نادرة في حجمها وطبيعتها وظروفها وتوصيفاتها, اذ اصبح لهذه الممارسات فنون وتكنيكات واساليب ونظريات لا تباري حتي علي الصعيد المستقبلي وهو ما ترصده الاحصاءات وتسجله التقارير والدراسات وتطرحه تحليلات المفكرين والكتاب والساسة وخرائط القمع الانساني في ابدع صوره!! ولقد عبر ليدن وهو ابرز المفكرين الذين مارسوا دورا خطرا في صياغة استراتيجية الامن القومي الامريكي عن نتائج فكر القوة المتحول في اطواره بالضرورة نحو السادية اذ اكد ان الحرب الشاملة لا تدمر القوة العسكرية للعدو فحسب بل ايضا تدفع مجتمع العدو الي اقصي نقطة يكون عندها مستعدا لقبول تغيير كامل في توجهاته الثقافية. ان الوضعية العلوية للامبراطورية تستلزم طرح العديد من التساؤلات في اتجاه: هل حقق العملاق الكوني بعضا أو كلا من أبعاد استراتيجية لا سيما وقد اعلن جزافا من قبل نهاية التاريخ بينما مازال يتعثر بين الصغائر والابجديات ؟ ولماذا أعلن عن تلك النهاية قبل استكمال المؤشرات الفعلية لها؟ ولماذا لم يدخل ضمن شرطيات العملقة وجود الطاقة الفكرية الخلاقة التي تعصم وقاره وتحفظ مهابته؟ وهل كانت العملقة الكونية مجرد نزعة ذاتية أم مشروع تقدمي عالمي يمثل مرجعية كبري لاطراف المحيط الدولي ؟ كيف يطرح العملاق اهمية وضرورة فكرة التجانس الكوني وهي تناقض فكرة المركزية الثقافية التي هي اساس ذاتيته؟ بل وكيف تكون هذه المركزية ممثلة لجوهر وجوده كعملاق وهي تعد نفيا للتعددية كقيمة حضارية ؟ وهل يتناقص الرصيد التاريخي للعملاق الكوني بنفس نسبة اقباله علي ممارساته السادية ؟ ولماذا لم يكن هذا العملاق باعتباره النموذج الامثل مجسدا للمسئولية الاخلاقية كرسالة حضارية؟ ان السياسة الامريكية المعاصرة قد مثلت جولة عاصفة بين احقاب التاريخ الامريكي ليس علي امتداد عمره الزمني فحسب وإنما علي مستوي طوفان الاحداث والوقائع والحروب لانها كانت سياسة اجتياحية توسعية سعت نحو تجسيد ما يفوق الحلم الامبراطوري فاكتملت فيها ضروب الاطوار النفسية, من ثم تعد الوقفة مع الخطاب السياسي الامريكي في اشد لحظات جموحه وتطرفه من مقتضيات الحكم الموضوعي خلال تسجيل ملامحه ومضموناته وانعكاساته علي الذات والآخر وقراءة مستقبلياته بمنظور ثقافي معرفي, إذ أنه هذا الخطاب انما يصدر عن معامل ومختبرات فكرية تصوغ مساراته وتحدد أيديولوجيته وترسم مخططاته وتقيم مرحلياته مما جعلنا نقدم صورا ونماذج اقل ما تؤكده هو اتفاقا وتطابقا تاما مع رؤية الكاتب الامريكي الشهير مارك توين القائلة( بان اكتشاف أمريكا كان شيئا عظيما لكن كان الأعظم هو ألا تكتشف).