في تسلل مثير والتفاتة هادئة نحو الشرق الأقصى تجيء محاولة الامبراطورية الأميركية في طي زوابع وأزمات سياسية واستراتيجية متصاعدة، ما آل إلى احتدام الموقف الياباني وانقسامه نظاماً ومعارضة تمريرا للعمل بقانون مكافحة الإرهاب المخول للقوات اليابانية دعم وتزويد ومؤازرة القوات الأميركية في المحيط الهندي وأفغانستان ذلك تحقيقا للطموحات الكونية الطائشة التي تحوك بعبقرية مستقبليات المأزق الدولي! وبالضرورة كان توجه النظام هو السير في ركاب الامبراطورية تعزيزاً ودعما للتحالف الأمني والاستراتيجي وإقرارا للولاء السياسي وتضامنا مع قيم العلاقات المصلحية، بينما على صعيد آخر كانت الرؤية الموضوعية المبنية على أن إعمال قانون الإرهاب ومع تواصل أثاره يعد نسفا جديدا للدستور السلمي الياباني والذي تقضي كافة بنوده بعدم التدخل العسكري في الصراعات الخارجية حتى لا تتورط اليابان في حروب طاحنة ربما تجر مخاطر جمة على المصالح القومية العليا أثر التأييد المطلق للسياسات الأميركية. وسادت على صعيد الفكر السياسي والاستراتيجي احتماليات عدة كان أولها: إمكانية تراجع النظام السياسي عن مساندة قانون مكافحة الإرهاب من ثم الخضوع لمطالب جبهة المعارضة والاعتذار للحليف القديم وهو ما يحرك كما هائلا من التساؤلات نحو زعزعة العلاقات والتحالف الوطيد بين اليابان وأميركا، أو أن هذه النظام يمكنه أن يعصف بجبهة المعارضة ويقوم بتمرير القانون برلمانيا وهو ما يشير إلى بعض من ملامح ديكتاتورية ذلك النظام أو أن يكون هناك احتمال آخر نحو عدول جبهة المعارضة عن رؤيتها تجنبا لإحداث أية تصدعات في منظومة العلاقات السحرية مع واشنطن، وهو ما يطرح بذاته مدى تأصل جذور تلك العلاقة في الذات اليابانية بل مدى الحرص في الاحتفاظ بها والحفاظ عليها لأبعد مدى متصور، أما الاحتمال الأخير والذي يبدو أنه غير وارد بالأساس هو لجوء الولاياتالمتحدة لمجلس الأمن حصولا على تفويض مباشر للقيام بعملياتها العسكرية في المحيط الهندي وهو ما يشير إلى أن المصالح الأميركية تتصدر وتتجاوز أية علاقات دولية مهما تكن بل حتى ولو كانت من دولة تدعمها اقتصاديا مثل اليابان! وحين تتشابك الأحداث ويبرز التناقض تتجلى التساؤلات على غرار: لماذا درجت اليابان ومنذ عهود طوال على تأييد المصالح الأميركية حتى ولو تعارضت مع المصالح اليابانية؟! وهل يظل ذلك المنطق هو الحاكم للمستقبل السياسي الياباني؟ كيف تنساق اليابان للسياسات الأميركية المعاصرة وقد حققت أعلى معدلات الفشل والتراجع طبقا لمعطيات الواقع ورؤية المفكرين والساسة والعسكريين؟ من ثم لماذا تتمسك اليابان بالتحالف الأبدي مع أميركا بينما مسألة التحالفات الأبدية هي ضد منطق السياسة بصفة عامة حسب الميثاق السياسي الامبراطوري الذي عبر عنه تشرشل قائلاً: ليس لنا أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون وإنما لنا مصالح دائمة. وكيف لليابان أن توثق تحالفها مع أميركا بينما سقطت تحالفات أقامتها معها دول عديدة؟ كيف لليابان التي يُستعصى احتواؤها اقتصاديا أن تُحتوى سياسيا بينما الاقتصاد هو الذي يقود السياسة وسيظل دائما؟ لماذا لم تدفع الكينونة المعلوماتية والمعرفية اليابانيين أنفسهم إلى وجود كينونة سياسية خاصة تعبر عن كيان متماثل مع تلك المعلوماتية والمعرفية؟ ولماذا تلاشى مصطلح الذات المستقلة الذي يمثل أهم محاور وركائز الثقافة اليابانية؟ إنه إذا كان يتم الاستخدام السياسي والتطويع الاستراتيجي لدولة كاليابان فماذا يمكن أن يحدث مع دول العالم الثالث؟ وما هو المقابل السياسي والديبلوماسي نظير الاستسلام والمهادنة؟ وهل يعد سر التمسك الياباني بالتحالف الهش مع واشنطن هو تفاقم عقدة القهر المادي والمعنوي الذي لم تستطع الذات اليابانية الانفلات منه من ثم لم تستطع أيضا أن تشق عصا الطاعة الأميركية؟ وإذا كان ذلك فما هو سر شيوع مفردات لغوية جديدة بين اليابانيين تصف المواقف والسلوكيات التي تتغير تجاه أميركا مثل الخصومة مع أميركا، النفور من أميركا، احتقار أميركا، كما أشار باتريك سميث؟ إن الخلافات بين الأنظمة السياسية وجبهات المعارضة على تعددها دائما ما تتعلق بشأن داخلي يستهدف دفع المسيرة التطورية للدول كل حسب رؤاه ومنطقته وفلسفته واختياراته وبدائله لكن حين يرتبط الخلاف والتصارع بشأن خارجي فلا بد وأن يكون المعيار الأوحد في القياس والتحديد هو تلك المصالح العليا التي تحفظ الأمن القومي وتضمن ثباته واستقراره وتفاعله في إقامة علاقات دولية عادلة سوية لا سيما وأن هناك من التكافؤ والندية ما يضمن إقصاء التجاوزات الفجة من امبراطورية منقوصة السيادة تعثرت خطاها حين بدأت ممارسة السادية السياسية والعسكرية، فحصدت ما جعلها كيانا ملفوظا يعايش أطياف ومعاني العزلة الذاتية مستجديا أواصر الحميمية بين أطراف المحيط البشري ولكن هيهات هيهات. إن الكيان الياباني الذي انطلق في خطوات إعجازية ليس له إلا أن يحرر ذاته وينأى بنفسه عن إغراءات عالم اليوتوبيا الذي لا يتوافق بحال مع وضعيته الحضارية، فبنفس الديناميكية المعرفية والاقتصادية يستطيع ذلك الكيان سحق التناقضيات وهجر هواجس وخزعبلات اليوتوبيا السياسية. فليس من أجل أميركا يتحول المارد العملاق إلى كائن مستأنس.