بين الثقافة والسياسة آماد طوال وخطوط متوازنة تكمن فيها دوائر الفراغ وخصومة متفردة مثلت إشكالية كبري استعصي فضها علي الدورات الحضارية للشعوب, ولقد حققت الظاهرة الاستعمارية طيلة تاريخها نقطة لقاء شيه مستحيل حين وظفت هذه الثقافة كأداة راقية مرنة هادئة تحقيقا لأهداف ومآرب خفية تسمح بتكريس تلك الظاهرة في جعلها احد أهم مفردات الواقع ومرتكزاته وأساس ديناميته.. ولقد حان لهذه الظاهرة أن تبسط تجلياتها ومشروعاتها التوسعية المعاصرة ببلوغ أقصي درجات تفعيل الثقافة في إطار الخضم المعلوماتي والتكنولوجي والمعرفي حتي أصبحت هذه الثقافة هي آلية عسكرية تمهد سبل الاختراق بتبدل الوسائل والغايات, فالثقافة بكونها ثورة تصحيحية لمسارات الفكر وتيارات الوعي وارتقاء الحس وإحياء آليات التحضر تصبح ثورة ظلامية يستهدف من ورائها بث مفاهيم وأفكار ومعتقدات ورؤي ونظريات من شأنها إطلاق طوفان المد الاستعماري وتغلغله في روح التاريخ القومي للشعوب, وتتجسد الجدلية المعاصرة بين الثقافة والسياسة في سياق التدافع وآلية التحريك ومحكات التشابك والانفصال بين هذه وتلك واحتماليات الأولوية والتأرجح والتراجع, من ثم هل تمثل الثقافة مشروعا محوريا تستمد منه السياسة الأمريكية المعاصرة توجهاتها ورؤاها وفلسفتها ساعية نحو تكريس قوة الفكر؟ أم هل تمثل السياسة الأمريكية مرجعية ثقافية معرفية تدأب نحو تأصيل وتكريس فكر القوة؟ ولا يخفي علي أحد أن ما بين قوة الفكر وفكر القوة من الفروق والتباين في الدلالات والمعاني والرمزيات ما يصل إلي حيز التناقض الحتمي الفاصل, إذ تمثل قوة الفكر جوهر الطاقة الذهنية الخلاقة الداعمة لأي حركة ارتقائية بجميع المعطيات للشعوب والمجتمعات فهي التي تحدد معايير استخدام القوة وطرائقها وأساليبها وأدواتها بمنظور إيجابي اتساقا مع ضرورة إنهاض الوعي الإنساني وتفعيله لإحداث توازن خاص دقيقا بين كينونة الامبراطورية المتربعة حضاريا وعصمتها من مهاوي السقوط أما فكر القوة ذلك الفكر القائم علي ضعف وخواء الآخر والذي لا يستمد قواه من ذاته وإنما من إرهابية آلته العسكرية, من ثم فهو يقود نحو الاستخدام السلبي الطائش للقوة, وليس فكر القوة هو المرحلة المنطقية لقوة الفكر إلا في إطار وجود الظاهرة الاستعمارية ذات النزاع الدموي الدائم والمطامع الممتدة المشمولة الاستحواذ وآليات التسلط. وعلي ذلك فقد تمحورت الامبراطوريات طيلة التاريخ الإنساني بين قوة الفكر وفكر القوة لكن متي بلغ فكر القوة هذه الدرجة من الجموح والشطط مثلما بلغ مع الامبراطورية الأمريكية التي توسم فيها جون لوك في القرن التاسع عشر أن تكون هي الفرصة الثانية أمام البشرية والتي يمكن أن تبدأ فيها الحياة من جديد متجردة من ضروب القمع التي وسمت تاريخ العالم, وعلي نفس الغرار جاءت كلمات الرئيس الأمريكي الثالث توماس جيفرسون مسارا جديدا للتاريخ حين قال إنه علي أمريكا اعطاء العالم أنبل الآمال, ومن واجبها أن تسلك سلوكا راقيا عن سلوك الأمم الوقحة في العالم القديم وهو ما يعني ضرورة تغيير تاريخ العالم ونقله نقلة نوعية من حيث أخلاقية الحضارة أو أن تحقق امتدادا تاريخيا مغايرا تصبح الحرية فيه دستورا وميثاقا ويصبح فيه القمع والقهر وصمة وسبة في جبين الحضارة حين تمجد البربرية وتعمل علي إعادة إنتاج العنف وتدويره محققة بذلك كل أطياف الارتداد التاريخي, والمتأمل في الأطوار النفسية للامبراطوريات والمتحققة بفعل دافعية سيادة فكر القوة الذي يبلغ بالذات السياسية أدني هذه الأطوار البادئة بمرحلة الكاريزما التي تحكمها نزعة الاستعلاء حين تستشعر في ذاتها اكتمال العديد من الصفات الخارقة وما يرتبط بذلك من ميل نحو التميز والتفرد كأنها كينونة مستقلة متجردة مترفعة سامقة شامخة معنويا. وقد مرت الامبراطورية الأمريكية بتلك المرحلة إثر الحرب العالمية الأولي حين توسمت في نفسها باعتبارها الامبراطورية الملهمة أهلية الدور العالمي وقيادة التقدم ورفع لواء المسئولية التاريخية إقرارا بمباديء الحرية السياسية والاقتصادية وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان, ولقد أعلنها ويلسون قائلا: إننا سنقاتل من أجل الديمقراطية ومن أجل أن نجعل العالم بأسره حرا, ولم يكن ذلك إلا عن طريق شيوع مفهوم الامبراطورية التقدمية التي تقرن حدوث التقدم بوجود الاستعمار وبالتالي يصبح الاستعمار ضرورة للتقدم أو أن يكون التخلف هو حصاد التحرر.