اريد بالعقل العربي ليس عقل الصفوة من المفكرين والادباء والساسة واهل الفنون, وحسب, بل اريد به هذه الطاقة الفكرية الخلاقة التي تقود سلوك واخلاقيات المجتمع العربي كماتقود اماله وطموحاته, وأزعم ان سحابة كثيفة تحيط بهذا العقل, الذي يمضي في حيرة وارتباك بل واحيانا يتخبط بين حضارة علمية عالمية كاسحة, قلبت الحياة اليومية رأسا علي عقب. فانحسرت قيم وبرزت قيم اخري, وبدا الانسان العربي نهما لهذه الحضارة, شرها حينا في الاستمتاع بها, غارقا حينا اخر في سوقها الاستهلاكي, وفي الوقت ذاته, مشدودا لايستطيع الافلات من قيود وتقاليد راسخة,. ومن اغرب مظاهر هذا الارتباك مانراه ومانسمعه من الاعلام المرئي والمسموع, فبجانب الحرب الفضائية الدينية التي تغذي روح البغضاء والكراهية وتشعل نيران الفتن, نشهد حربا اخري تعلن سقوط برقع الحياءو تدعو الي النهل من لذات هذه الحضارة دون وازع من ضمير, ولعل العقل العربي دون عقول الشعوب الاخري لم يحزم امره الي اين يمضي, وكيف ينسق فكره وحياته في هذا الزحام والصراع الايدويولوجي, والديني, والاقتصادي, والسياسي. *** اذا توغلت قليلا في تاريخ البشرية, تلفت النظر ظاهرة واضحة ان الحضارات في تناسلها وتواصلها لم تنشأ من الدين وحده او من التقدم العلمي وحده, فلم تنهض حضارة الا حين انفتح الفكر الديني وسري نور التسامح والمصالحة مع الاديان الاخري وسقط التطرف والتعصب وتحرر الضمير الاجتماعي من قبضة بعض رجال الدين المتزمتين المتاجرين بالاديان, وترك الانسان حرا في عقيدته دون خوف, لان الاصل في الايمان هو حرية الاختيار, وقناعة العقل والقلب, ولان الحقيقة هي التي تفرض وتنشد الحقيقة دون وصاية اوإكراه, انه شرط من شروط قيام الحضارات حرية الدين, ومن اروع امثلة التاريخ في هذا المجال, القرون الثلاثة الاخيرة التي سبقت ميلاد المسيح فقد سادتها حرية دينية رائعة, وكان لكل انسان ان يعبد من يشاء دون حرج او رقابة وسميت هذه الظاهرة:,'Syncretisme' كذلك لم تنهض حضارة الا علي اساس التقدم العلمي والادبي والفني, ولااسرف اذاقلت ان الامم التي تركت اثارا خالدة من العلوم والفنون والاداب تركت في الوقت ذاته قيما دينية روحية اصيلة, فلا تقدم ديني الا بالتقدم العلمي والا سادت الاساطير والخرافات, ولاتقدم علمي حقيقي الا بالتقدم الديني والانفتاح علي اديان وثقافات الشعوب كافة. *** ان المتدين المثقف, في اغلب الاحيان اقرب الي جوهر الدين وصحيحه من المتدين الجاهل الذي حرم من الثقافة لأنه يظل متلقيا من غيره دون ان يجهد عقله, فيما يجوز فيه اعمال الاجتهاد والفكر ولك ان تلقي نظرة علي ظاهرة التطرف والعنف و الفتن الطائفية, تجد ان اماكن انطلاقها في اغلب الاحيان هي التي يغلب عليها الجهل والفقر والتخلف ومن ثم ينتشر ادعياء كثيرون يسيطرون علي عقل ووجدان البسطاء, وويل لأمة يقودها انصاف المثقفين الذين لاصلة لهم بالعلم والثقافة, ولك ان تحكم الي اين يتجه العقل العربي, وقداختطفه تيار قيد حركته وسجنه في اوهام الماضي, ومن يحرك الضمير العربي وقد سرقه بعض من يرتدي ثوب الحكماء والعلماء وعلي غير معرفة بالحكمة او بالعلم, ان الحق وحده يحرر الانسان, والحق لايسود ولايجلس علي عرشه الابالحرية والعدل, ومن الامور الثابتة, اني افكر فأنا انسان, اني اعبر عن ذاتي فأنا انسان, اني اعبد من اشاء فأنا انسان.. فلاينبغي ان تسلب الانسان حرية العقل والضمير والا سلبت انسانيته. *** منذ القرن الخامس عشر الميلادي, خلال قرون خمسة مضت, عبرفيها العقل البشري التطور الفكري والحضاري علي مراحل ثلاث: مرحلة رفض القيم الدينية وعلم الميتافيزيقا ماوراء الطبيعة, وضرب بعرض الحائط ماسمي بالغيبيات وباسم العلم التمرد عليها وامتد هذا التمرد وتحول الي إلحاد واضح سري في بلدان عديدة. مرحلة النظريات العلمية التي لاتتفق مع الفكر الديني وتبدو كأنها تعارض الكتب المقدسة ولاقي العلماء والمفكرون العذاب حتي الموت حوكم كوبرنيكس وجاليليو وكان التيار الديني متربصا بكل ماهو علمي او نظرية جديدة, كماتربص اهل العلم بكل ماهو ديني. مرحلة ثالثة هي المصالحة بين الحضارة والدين وثبت ان لاتناقض بينهما بل هما متكاملان فالحضارة تساند الدين والدين يساند الحضارة, ومازال العالم يعيش هذه المرحلة التي ولدت منذ قرون حاول ابن رشد والقديس توما اقامة صلح بين ارسطو والفكر اليوناني وبين الفكر العربي واللاتيني, ومازالت العقول المتوهجة وعالمنا العربي تسعي دون كلل لهذه المصالحة, ويبقي السؤآل: الي اين يتجه العقل العربي ؟