التحولات الرئيسية التى تحدث كل يوم فى «مُجتمع ما بعد المعلومات» ستؤدى بصورة كبيرة إلى إعادة صياغة كثير من المفاهيم الأمنية التقليدية، مثل القوة، والحرب، والصراع، والدفاع، والردع، وبالتالى ستتغير تمامًا مصادر تهديد الأمن القومى للدُّول، لتُصبح الهجمات الإلكترونية أحد أخطر مصادر التهديد. كما تحل الفيروسات محل كثير من الأسلحة التقليدية، وتتجه الدول نحو إنشاء قوات عسكرية إلكترونية والبحث عن حلفاء فى الفضاء الإلكترونى للدفاع عن مصالحها مما قد يدفع المُجتمع الدولى لتبنى مُعاهدة دولية تحافظ على الطبيعة السلمية والمدنية للإنترنت، خاصة بعد كونه العمود الفقرى لجميع التطورات التكنولوجية. فى كتاب «مجتمع ما بعد المعلومات.. تأثير الثورة الصناعية الرابعة على الأمن القومى» للباحث إيهاب خليفة، الصادر عن دار العربى للنشر والتوزيع بالتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يتناول التحولات غير المسبوقة فى تاريخ التطور البشرى المرتبط بالتكنولوجيا، القوى الدافعة لمجتمع ما بعد المعلومات، وما يترتب على ذلك من التهديدات الأمنية التى تمثلها التقنيات الذكية، كما يقدم الكتاب تعريفات جديدة للمفاهيم الأمنية فى ظل التطور التكنولوجى المتسارع. يستعرض الكتاب التهديدات الأمنية التى تواجهها الدول مع تبنِّى نماذج ذكية تعتمد بصورة رئيسية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لإدارة جميع متطلبات الحياة اليومية فيها، واعتماد النظم المالية والمصرفية والإدارية على الإنترنت، وانتشار أجهزة إنترنت الأشياء والذَّكاء الاصطناعى. إذ تُصبح الدول والأفراد أكثر عُرضة للاختراق، وتكون جميع الخدمات الحكومية أكثر عُرضة للتوقف المفاجئ من خلال الهجمات الإلكترونية والقرصنة، وبالتالى تكون جميع قواعد البيانات والخطط والاستراتيجيات والوثائق والمعلومات السرية عُرضة للتلاعب بها وتسريبها. مع التقدم التكنولوجى فى مجال الطابعات ثلاثية الأبعاد تُصبح صناعة الأسلحة والأدوات العسكرية قليلة التكلفة وسهلة التصنيع وشديدة التدمير، كما تزداد احتمالية نشوب صراعات فى الفضاء الإلكترونى بين الدول لا يمكن احتواؤها، حتى تتطوَّر وتصل إلى مرحلة الحرب «السيبرانية» الشاملة. فى وقتنا الحاضر تتفوق الحروب الإلكترونية على الحروب التقليدية لما تتميز به من انخفاض فى التكاليف، وسهولة استهداف المرافق الحيوية والحرجة بالدولة، إضافة لصعوبة تعقب مصدر تلك الهجمات الإلكترونية. «الديدان» تعد من أبرز أشكال تلك الحروب، وهى عبارة عن برامج صغيرة تتكاثر بنسخ نفسها تلقائيًا عن طريق شبكات الإنترنت، وينحصر دورها فى القيام بأعمال تخريبية فى الجهاز الموجودة به، كسرقة بيانات المستخدمين، كما يصعب التخلص منها لقدرتها الكبيرة على التلون والمراوغة، لذلك غالبًا ما تستخدم فى حروب المعلومات، إضافة لاختراق الشبكات المالية والبنوك الكبرى. هناك استراتيجية أخرى فى الاختراق تسمى «أحصنة طروادة» تعتمد على دس شفرة غريبة داخل أحد البرامج ذات الشعبية العالية، لتقوم هذه الشفرة بدورها بنشر الفيروس بدقة متناهية مع مسح آثارها بعد سرقة البيانات وتحقيق الهدف، هناك أيضًا «القنابل المنطقة» وهى فيروسات يتم برمجتها لبدء العمل عند حدوث أمر معين أو فى ظروف معينة، وهو ما يسهل بيع الأجهزة حاملة لتلك القنابل دون اكتشاف الأمر. كشفت إحدى وثائق «ويكيليكس» فى مارس 2017 والتى عرفت بتسريبات «القبو 7» عن عدد من المشروعات والبرامج التى تستخدمها وكالة الأمن القومى الأمريكية NSA للتجسس على جميع الأفراد حول العالم، إذ قامت الوكالة بإعطاء هذه الثغرات لشركة مايكروسوفت للتجسس على مستخدمى الويندوز، ورغم محاولة مايكروسوفت إصلاح الخلل بعد 7 أشهر فإن التحديثات لم تشمل جميع الأجهزة مما جعلها عرضة للاختراق، فيما استخدمت هذه الثغرات مجموعة من القراصنة أطلقت على نفسها لقب «وسطاء الظل» ادعت أنها استطاعت سرقة بعض الأسلحة الإلكترونية التى طورتها NSA. أحد هذه الفيروسات أطلق عليه اسم «فليم Flame» وتم اكتشافه فى العام 2012 بواسطة فريق الاستجابة والطوارئ الإيرانى بعد العثور عليه فى أكثر من 1000 جهاز فى مؤسسات حكومية بإيران، إذ يعتبر من أكثر الفيروسات التى تم العثور عليها تعقيدًا، كان يستهدف الشرق الأوسط بالأساس، للقيام بعدة وظائف تتمثل فى تسجيل المحادثات الصوتية، وأخذ «سكرين شوت» من كل الصفحات التى يتم فتحها، إضافة لتحويل الجهاز المصاب بالفيروس لنقطة جمع معلومات من الأجهزة التى تتصل معه على نفس الشبكة. كما يناقش الكتاب فكرة «المُجتمع الخامس» باعتبار ما نعيشه يأتى متممًا لمُجتمعات الصيد، والزراعة، والصناعة، والمعلومات، لينهى بذلك مرحلة من الحياة الإنسانية، ويعلن تدشين مرحلة جديدة، تهيمن فيها العقول الصناعية على العقول البشرية. فى هذا المجتمع الجديد تتحكَّم فى حياة الأفراد مجموعة «خوارزميات» ومعادلات ترتّب لهم أولوياتهم، وأفكارهم، واحتياجاتهم، وتتَّخذ القرارات بدلًا منهم، كما تُدير شؤون حياتهم اليومية، مثل المساعدات الصوتية الذَّكيَّة، وتقنيات الواقع المُعزَّز، وإنترنت الأشياء، وتتولَّى المركبات ذاتية القيادة شؤون تحرُّكاتهم وتقوم الطابعات ثُلاثيَّة الأبعاد بطباعة أطعمتهم الغذائية، وحتى أعضائهم البشرية، ومتطلبات حياتهم اليومية، ليصبح الأفراد مسخًا فى عالم لا يقدرون على التحكم فيه وأبجديات جديدة لا يستطيعون حصرها. هناك ثورة جديدة ستغير شكل الحياة البشرية تقودها التقنيات فائقة التقدم، فهى ثورة شاملة على مختلف المستويات، الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لأن التطبيقات الذكية تتعدد وتتزايد بصورة يصعب حصرها، فهى تقريبًا تدخل فى المجالات الإنسانية كافة. لكن حتى اللحظة لم يتم وضع تصور أو تقييم موضوعى لتداعيات هذه التطبيقات، خاصة مع انقسامها بين تطبيقات مدنية وأخرى عسكرية، واختلاف تداعياتها فى كل منها، بل يمكن القول إن بعض التطبيقات المدنية للذكاء الاصطناعى، والتى من المفترض أن تجعل حياة الأفراد أسهل وأسرع، مثل نمط المدن الذكية الذى يجمع التقنيات كافة الخاصة بنظم الذكاء الاصطناعى، قد تكون سببًا فى زيادة سطوة الآلات على الحياة البشرية. لذلك نجد دول العالم تتسابق لتجهيز جيوشها الإلكترونية خاصة وأنها لم تعد تقل أهمية عن الجيوش التقليدية، فنجد أن البنتاجون استحدث قيادة عسكرية مهمتها الرد على هجمات قراصنة المعلومات فى يونيو 2009، وتنفيذ عمليات فى الفضاء الإلكترونى، وقبل استحداث هذه القيادة كانت الحكومة الأمريكية تعتمد وكالة المخابرات المركزية (CIA) ووكالة الأمن القومى (NSA) التى نفذت معظم مشاريع التجسس الإلكترونى الكبرى للولايات المتحدة، لحماية حرية عمل أمريكا وحلفائها فى الفضاء الإلكترونى، والتضيق على الأعداء. استحدثت الصين أيضًا الوحدة 61398 لتقوم بعمليات التجسس الإلكترونى وسرقة المعلومات الاقتصادية من الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتشير تقارير شركة «مانديات» الخاصة بالأمن الإلكترونى، أن الوحدة الصينية شنت أول هجماتها الإلكترونية فى العام 2006 تضمن سرقة البيانات الخاصة ب 141 منظمة تشمل المخططات التكنولوجية وعمليات التصنيع والبيانات الخاصة بخطط التسعير والتسويق ولوحظ أن 115 شركة من الولاياتالمتحدةالأمريكية تعرضت للتجسس. ووفقًا لما ذكره «يجور يجوروف» المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية فى أكتوبر 2014 بأن روسيا تخطط لبناء نظام إلكترونى شامل على مراحل، انتهت جميعها فى العام 2017، وذلك بهدف حماية البنية الأساسية للقوات المسلحة من الهجمات الإلكترونية. تزامن ذلك مع إصدار أمر من «سيرجى شويجو» وزير الدفاع الروسى بإدراج 500 طالب متميز فى استخدام الحاسب الآلى فى وحدات علمية خاصة واعتبار عملهم مثل الخدمة العسكرية. أما وحدة «أمان» التابعة للاستخبارات الإسرائيلية، والتى تأسست عام 1952، هى الأكثر تأثيرًا فى الشرق الأوسط، كما تعتبر أكبر وأهم قاعدة تجسس إسرائيلية للتنصت على البث الإذاعى والمكالمات الهاتفية فى آسيا وأفريقيا وأوروبا، وقد لعبت هذه الوحدة دورًا رئيسيًا فى ضرب البرنامج النووى الإيرانى من خلال تصميم فيروس يسمى «ستاكسنت»، فيما ذكر عمير رايبوبورت أن الدور الذى تقوم به تلك الوحدة هو ما جعل إسرائيل ثانى أكبر دولة فى مجال التنصت بعد أمريكا.