ما من يوم يمر، إلا ويخرج من بطن المحنة الفلسطينية، نموذج فريد يضرب المثل فى التحدى والصمود فى وجه المحتل الغاشم، ويكشف للعالم أجمع الوجه الحقيقى لكيان مغتصب، يحاول بكل الطرق طمس ملامح دولة يمتد تاريخها آلاف السنين.. ويقف الفن سلاحًا قويًا فى يد الشعب الفلسطينى للتعبير عن المعاناة التى يعيشها تحت قصف الاحتلال. بين الركام المتناثرة والبيوت المهدمة من أثر القصف الصهيونى، طلت وجوه بنظرات عابرة تحكى الكثير، يتأملها المارة أمام المجمع الإيطالى فى مدينة غزة ، الذى دمره العدوان الإسرائيلى منذ بضع سنوات، لوهلة تعتقد وكأن الوجوه المرسومة على الجدران تنظر لك، تنادى على المارة ليتأملوها، فلا يتمكن أى من سكان المنطقة المرور دون النظر إليها ولو للحظات. نظرات الرسومات تمثل الواقع المأساوى الذى يعيشه بشكل يومى الشعب الفلسطينى وسط الحصار الغاشم، وغارات الاحتلال الليلية التى ترسم الفزع بشكل دورى فى ملامح المأسورين بوطنهم، وهو ما حاول على الجبالى، الرسام الشاب، المقيم فى قطاع غزة تجسيده فى مكان استهدفه أكثر من سبعة صواريخ من طائرات ال f16 إبان الحرب والعدوان على غزة فى صيف عام 2014. علي ينظر إلى الفن بأن مكانه وسط الناس يعبر عن معاناتهم، وأصدق اللوحات تلك التى تعبر عن الواقع، وليست مجرد لوحات حبيسة الجدران فى قاعات مخصصة، وهو توجه عالمى يجتاح جدران الشوارع لكى يصل إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، ليمس بسهولة قلوب الناس ولا يحتاج لتكاليف باهظة لعرضه، حيث تعرض اللوحات الانحياز الكامل للإنسان المثقل بالهموم والمتعب من طول الانتظار. الفنان علي الجبالى، قرر مع بداية شهر أبريل الماضى عرض فكرة جديدة للتعبير عن قضيته، كنوع من أنواع المقاومة الناعمة ضد الاحتلال الإسرائيلى، ولمدة ستة أشهر وبمجهود ذاتى فردى، عمل على تنظيم أول معرض «جرافيتى» يجسد معاناة سكان قطاع غزة فى محاولة منه لإيصال صوتهم للعالم أجمع تحت عنوان «الحالمون بين الركام». المعرض يعتبر فريدًا من نوعه، فمن غير المعتاد تنظيم معرض يحتوى على 10 لوحات، مرسومة على 6 جداريات بشكل ضخم يمكن رؤيتها من الخارج دون دخول المجمع نفسه، وهى لوحات زيتية تعبر عن القضية الفلسطينية. اختار الجبالى الوجوه لتكون أساس المعرض واللوحات المعروضة، سواء كانت جدارية أو زيتية، باعتبارها الوسيلة التى يستطيع بها التعبير عما بداخل الراسم نفسه ولا يتمكن من البوح به، للتعبير عن واقع شعبه المهزوم أمام الطغاة المحتلين، يقول: «رسم تعبيرات الوجه ترسل للناس رسالة أننا ما خلقنا من أجل الحرب والدمار، ولكن لنعش حياة كريمة، حالمين بمستقبل أفضل كله تفاؤل وأمل، فالوجوه المرسومة كلها من وحى الواقع الذى نعيشه كل يوم ويأبى الرحيل». الوجوه مصدر الإلهام لرسام غزة منذ الصغر، فهى تجسد المعاناة بشكل حى بصورة أقوى من السياسة والسلاح، فقد لا يفهم البعض لغة الفلسطينيين وثقافته السلمية لتوصيل أصواتهم، فالوجوه لا تحتاج إلى مترجم: «الحالمون بين الركام يؤكد الفكرة السلمية لدينا، إحنا اتخلقنا بالحياة لكى نملك حلمًا، يجعلنا نتمسك بالحياة وليس الحصار، مثلنا مثل أى إنسان على الأرض». على الجدار الوحيد المتبقي فى الطابق الثانى من واجهة المبنى الخارجية، رسم الجبالي لوحته الأولى على طريقة فن الجرافيتى لطفل حالم ينظر للسماء وتعكس ملامحه حالة الحزن التى تغلف حالات أطفال وشباب فلسطينى بعد 3 حروب وسلسلة موجات تصعيد وحصار ممتدة لأكثر من 13 عامًا. بين الجدران المتشققة والركام المتساقط، حدد الرسام الفلسطينى مسارًا آمنًا له داخل المبنى ليرسم باقى لوحاته، وهو المسار الذى سلكه زوار المعرض بعدما افتتحه أبريل الماضى، فاللوحات التى احتلت جدارًا كاملًا، عبارة عن طفلة شعرها متناثر وملامحها تعكس الخوف، تعبر عن أطفال فلسطين الذين يعانون الخوف من القصف المتكرر لبيوتهم، وعلى جدارين آخرين، رسم فتاتين حالمتين تحمل ملامحهما الحب والحلم والإصرار على البقاء والأمل: «هكذا هى حياتنا سنبنى أملًا جديدًا على ركام أحلامنا». فى أحد جوانب المبنى، لوحة زيتية تُظهر طفلة بملامح تحمل الخوف والذهول تمسك لعبة عبارة عن عروس من البلاستيك فى حالة سيئة أيضًا، وكأنها تتحدث عن أطفال فلسطين الذين يخرجون من تحت ركام منازلهم المدمرة ويبحثون عن ألعابهم. اختيار المجمع الإيطالى كمكان لعرض اللوحات، كان تجسيدًا لما حدث له منذ أعوام قليلة على يد جيش العدوان الإسرائيلى، الذى شن سلسلة من الغارات دمرت فى 2014 المبنى المُكون من 15 طابقًا، من بينها 13 طابقًا سكنيًا، وكان عبارة عن 52 شقة وطابقين لمركز تجارى ولم يتبق من البرج سوى ركام أول 3 طوابق، إلى أن قرر الجبالى أن يبث الحياة فى جدران الموت. اللوحة الأساسية تحمل اسم «الحالمون بين الركام»، وهو العنوان الذى أطلقه على المعرض، وكانت مزيجًا من التناقضات، الخوف والحلم والإصرار على اللعب والحياة، إلا جانب لوحة زيتية تحمل رسمين متداخلين أحدهما لشخص يبدو نائمًا حالمًا تتداخل معها صورة أخرى تحمل ملامحه الشخصية، يقول عنها الجبالى الذى وقف فخورًا بما أنجزه على مدار أشهر ونال إعجاب الحضور: «هذه اللوحة الزيتية تعبر عن حالى، هنا تجد الحلم والأمل والتشتت، كل ذلك مزيج أنا أواجهه كما كل الشباب فى غزة». نجح الرسام الشاب عام 2015 فى الاشتراك بمعرض فنى فى فرنسا، وبالفعل أعد بعض اللوحات، ولكنه لم يتمكن من السفر حينها بسبب الحصار على غزة، فما كان منه إلا أن أرسل لوحاته إلى المعرض لكنها فُقدت فى الطريق وكان ذلك بمثابة خسارة مزدوجة له، فرسوماته كانت لوحات جدارية ضخمة الواحدة بمساحة 20 مترًا تقريبًا، ولوحات أخرى زيتية مختلفة الأحجام، معلقة على ما تبقى من جدران برج المجمع الإيطالى. وعبر ألوان مائية بسيطة وبتجهيزات غير مكلفة، أنجز لوحاته التى حولت الواجهات الصماء والركام إلى لوحة حية عبر الألوان ورسوم لتوصيل رسالة للعالم، بأن شباب فلسطين لديه طاقات، وأحلام وحب للحياة رغم الموت والدمار.