طارق إمام فى النهاية نكتب، نحن الروائيون، لكى نسردَ حكايةً ما. غير أننا كثيرًا ما نخون الحكاية من حيث أردنا ألاَّ نغادر سريرها: تفقد تماسكها، تُبعثر، تتفتت فى أيدينا وتُجتزأ وتتفرق جثتها على أزمنتها. هذا قَدَر الحكاية وقدرنا معًا، ففى عصرٍ كالذى نعيش فيه، لا وجود لقصة يمكنها أن تتباهى بتماسكها وانسجامها وخطيِتها فيما كل شىء يتفتت سعيدًا وخفيفًا. ذات يوم، قررتُ أن أكتب حكاية، حكاية خرافية، تبدأ من حيث يجب أن تبدأ وتنتهى حيث يجب أن تنتهي. حكاية مثل الخط المستقيم الذى أخونه كلما كتبتُ رواية أو قصة. حكاية يمكنها أن تسرد حياة كاملة من الميلاد للموت، لتذكّرنى أن الحياة قصيرة، يمكن أن تبدأ وتنتهى قبل أن نقلب الصفحة، بخلاف الرواية التى تجعل من مئات الصفحات مقبرةً يحيا فيها الناسُ للأبد. يستمع الناس للحكايات لكى يناموا، أقول الناس ولا أقول الأطفال، لأننا جميعًا هؤلاء الأطفال، نحن جميعًا هؤلاء اليتامي. يومها كنت أرغب فى العكس، كنت غافيًا وكنت بحاجةٍ لأن أستيقظ، شعرتُ أننى يمكن بكتابة حكايةٍ ما أن أستيقظ، وراهنتُ نفسى أن ذلك لو حدث، لن أعودَ طفلًا. بدلًا من أن أكتب حكاية، كتبت عن الحكاية التى أتمنى أن أكتبها، وهكذا كتبت السطر الأول من «مدينة الحوائط اللانهائية»: «حلمت دائمًا أن أكتب حكاية عن رجلٍ عجوزٍ جدًا بلا ذكريات». كان سطرًا أول يقوِّض الحكاية، لأنه اعتراف بأن الحكاية/ الأمل لن تُكتَب. أنهيتُ النص، واحترت فيه، إنه تفكير فى حكاية، لن تُكتب أبدًا، وهكذا أسميته: «الحكاية التى لن أكتبها أبدًا» لأجعلها النص الأخير فى الكتاب، هى التى لولاها ما كان للكتاب أن يبدأ. تركت ذلك النص كما هو. لا أمل فى أن ألوى عنق حكاية لا تريدنى أن أكتبها. إنه شيء أشبه بمن يفتح مقبرة بحثًا عن ولادة. قررتُ أن أكتب حكاياتٍ أخري، بإصرار أن أتمّها. كالمأخوذ، بدأتُ أشيّد مدينة، شخوصًا، رجالاً ونساء وأطفالاً، تعيش بينهم شياطين وملائكة ومسوخ، ومرة بعد مرة بدأت تتشكل الشخصيات العجيبة، ملتبسة بحكاياتها: امرأة بعين واحدة هى مخترعة الكحل، بائع وجوه بلا وجه يحصل على ملامح الناس ليمنحهم وجوهًا آدمية محبوسة فى قفص، عجوز يتذكر المستقبل وآخر يفسّر أحلام الآخرين دون أن يكون حلم لمرة واحدة وثالث يخشاه الموت حد أنه يعيش للأبد منتظرًا مجيئه، كتبتُ عن قرصانة تنشق عنها بحار العالم لتأكل السفن وإسكافى مجنّح يُحدِّث نعلًا فقد ساقيه وعاهرة تتحول شعرة سوداء فى شعرها للبياض مع كل رجل يشاركها ليلها. كتبتُ عن ساحرةٍ معمِّرة تحيا عامها الألف وفتاة لا تُجيد النظر سوى أسفل قدميها وشيطان يُفرِّج الناس على صندوق الدنيا ليُعلِّمهم القبلة. حكايات كالسيل ما إن هبَّت موجتها الأولى حتى أغرقت يدي. كتبتُها بكل شغفى فى أن أحكي، وبكل أحلامى فى أن تكون الحكاية قصيدة مخبأة تحت جلد السرد، بمخيلتى حيث يمكن للأحلام أن تكون واقعًا وحيدًا، وبكتابى الكبير «ألف ليلة وليلة» حيث صارت الكلمة الأولى فى «مدينة الحوائط اللانهائية»: «بَلَغَني»، فمن منّا لم يحلم يومًا بأن يكون أحد كُتّاب الليالي؟ أردتها أيضًا عصرية سرديًا، إيقاعها سريع، لغتها مزيج من الحكى الشفاهى واللغة التراثية ولغة شعرٍ لكاتب يحب قصيدة النثر. هذه هى «مدينة الحوائط» اللانهائية، رحم الحكايات التى يضمها كتاب أعتبره كتابى الأمتع ككاتب وأتمنى أن يكون كذلك للقارئ.