بصوتٍ خفيض متقطع مذبوح.. وهو على سرير المرض بالمستشفى إثر طعنة قاتلة فى رقبته، يقول للمُحقق: أنا مسامح من حاولوا قتلى يا معالى المستشار.. بل إنى أريد أن أهديهم ثلاثة من كتبى لكى يقرأوها.. أرجوك أمسك بالقلم واكتب هذا الإهداء إليهم، فطعنة السكين أعيتنى بشدة ولا أستطيع إمساك القلم.. أو «اكتب أنت يا صديقى رجاء النقاش».. (إلى من كفرونى وحاولوا قتلى، أطلب منكم السماح لعدم مقدرتى على الوصول إليكم بفكرى وثقافتى.. أنا وزملائى المثقفون من قصرنا فى حقكم لأننا تركناكم فى هذا المستنقع). أى إنسان أنت؟! ما تلك الروح الطاهرة التى تسكنك؟! من أين جئت بكل هذا القدر الهائل من التسامح الحقيقى والسلام الداخلى والضمير النقى والوجدان الصافى والإنسانية النادرة؟.. تُهدى كتبك لمن حاولوا قتلك؟!.. لقد حان الوقت وسنحت الفرصة أخيرًا لأن أخبرك كم كنت حُلمًا كبيرًا لي؟.. بحر الإنسانية الراقية المتفردة الذى أقف على شاطئه فى ثنايا كلماتك وطيات أفكارك فلا أرى الشاطئ الآخر منه، يوازيه بحر آخر من الجنون.. جنون وصفته أنت فى إحدى رواياتك بأنه سر غامض كالحياة والموت.. جنون الإبداع وسحر الكلمات ودقة التوصيف التى نقلت بها إلينا كل تفاصيل مجتمعنا و«أولاد حارتنا».. الباشوات والفقراء والفتوات والحرافيش والسياسيين والفلاحين والوطنيين والعملاء والشيوخ والعوالم.. القاهرة وأحيائها وشوارعها ومقاهيها وسكانها.. كل تفصيلة أقرأها لك تؤكد لى دومًا أنك باقٍ.. حى لم تمت.. ربما حلمى الكبير بلقائك لن يتحقق.. لكن سأسعى جاهدًا لمعرفة الكثير مما لا يعرفه أحد عنك فى حوارى مع جزء منك.. ابنتك.. أم كلثوم نجيب محفوظ.. أو (هدى). قليلون من يعرفون نجيب محفوظ الأب والإنسان وأسرته.. أريد منك نبذة حول هذا الأمر؟ - أمى هى السيدة الراحلة عطية الله وأختى الراحلة أيضًا فاطمة خريجة إدارة الأعمال وأنا اسمى الحقيقى «أم كلثوم» خريجة الإعلام.. والدى كان طيبًا و«حنين» وعادلاً بينى وبين أختى، لم ينفعل أو يتعصب علينا مرة، وكان يشير إلى مكتبه ويقول لنا إن هذه هى غرفة «الشغل» فلا نعبث بمحتوياتها أو نلعب بداخلها، وكانت أكبر ميزة فى والدى أنه لا يستكبر عن الاعتذار لنا إذا شعر أنه أخطأ فى حقنا، بل أحيانًا كان إذا اختلف معنا فى شأن أسرى ما ثم استشار أحد أصدقائه المقربين وأكثر من كان يستشيرهم هما ثروت أباظة وتوفيق الحكيم، فيعود إلينا ببساطة ويقول أنا غيرت رأيى بعد أن استشرت أحد أصدقائى ويذكر اسمه دون خجل. ما حكاية اسم «أم كلثوم».. رغم أنك معروفة ب«هدى»؟ - اسمى الرسمى «أم كلثوم»، حيث أرادت والدتى تسميتى «نور الهدى» فقال والدى طالما سيكون الاسم لمغنية فلتكن «أم كلثوم».. لأنه كان يعشق اثنتين ويعتبرهما تجلبان له السعادة وهما (سعاد حسنى وأم كلثوم)، لكن بعد ذلك صار اسمى الذى أحبه والمتداول حتى فى أسرتى وبين أصدقائى هو «هدى». لماذا اتهمك البعض بأنك متشددة؟ بل وقالوا «داعشية»؟ - ضحكت بمرارة ثم أجابت: هذا صحيح، فقد ظللنا لفترة طويلة نرفض الظهور فى الإعلام لأننا كنا نعتبر أن «النجم» الحقيقى هو نجيب محفوظ وليس نحن، كما ربط البعض بين ارتدائى للحجاب وبين التشدد، وهذا أمر غريب لأنه حرية شخصية يجب أن يحترمها الجميع مادامت لا تُسيء لأحد وهل يفترض ألا ألتزم دينيًا لأنى ابنة نجيب محفوظ، رغم أن أبانا نفسه كان متدينًا، لكن فى الحقيقة أن كاتبًا كبيرًا هو من يقف وراء كل هذه الشائعات، بل وصل به الأمر أن أشاع أننى أكفر والدى.. وإننى ضد رواية «أولاد حارتنا»، وإننى إخوانية. لماذا يفعل كل هذا.. ومن هو هذا الكاتب الكبير؟ - لا أريد أن أذكر اسمه لأنه يتربص بى وقد يرفع قضية ضدى، وتستطيع أن تسأل أى شخص فى الوسط الثقافى سيدلك عليه، فهو يغتال والدى بعد وفاته بتشويه سمعة أسرته والنيل منى ومن أمى وأختى رحمهما الله، والحكاية كلها أننى وبدون قصد دمرت له «بيزنس التجارة بأديب نوبل» الذى كان يمارسه هو ومجموعة ممن حوله، حيث كان يريد احتكار الكلام عن نجيب محفوظ ويدعى أنه العالم ببواطن الأمور وكل أسراره، وهذا غير صحيح بالمرة بل إنه كان يقول كلامًا كثيرًا مغلوطاً، وللأسف الصدفة وحدها هى التى جعلته من المحيطين حول والدى فى آخر أيامه، لكن من كانوا يقولون كلامًا دقيقًا وصحيحًا ولا يتاجرون بنجيب محفوظ هما جمال الغيطانى ويوسف القعيد، وعندما خرجت وقلت ذلك (ضربت لأخينا السبوبة) فحرض شخصًا يرفع قضية ضدى يتهمنى بأننى «داعشية». وما حكاية رفضك ل«أولاد حارتنا»؟ - أراد المخرج خالد يوسف تحويل رواية «أولاد حارتنا» لفيلم سينمائى، لكن الجامعة الأمريكية كانت قد باعت الرواية بجميع اللغات الأجنبية وحتى اللغة العربية رغم أن هذا ليس من حقهم، لكنهم قالوا إنهم يملكون عقدًا يسمح لهم بذلك. كيف استقبل نجيب محفوظ خبر فوزه بنوبل.. وأين كان وقتها؟ - كان نائمًا، وعرفت أمى الخبر من صحيفة «الأهرام» وذهبت وأيقظته وأخبرته فاعتقد أنها «بتهزر»، وأكمل نومه.. وعندما استيقظ أكدنا له الخبر فاتصل بالأهرام فأكدوا له الخبر وظل غير مصدق حتى حضر السفير السويدى لدى القاهرة بنفسه فى نفس اليوم إلى البيت ليخبره رسميًا بالخبر ويهنئه. وماذا عن رحلة استلامك وأختك للجائزة بدلاً من والدك؟ - جائزة نوبل كانت سنة 1988 فى ديسمبر فى عز الشتاء، وكانت صحة والدى ضعيفة وعمره وقتها 77سنة، وحذره الأطباء من السفر لخطورته على صحته، وكنا متحمستين للسفر مع والدى، ولكن عندما علمنا أنه لن يسافر رفضنا السفر لاستلام الجائزة، كما أن لجنة الجائزة رفضت أن يمثل الأديب الكبير أى من ممثلى الحكومة فجاء قبولنا للسفر قبل استلام الجائزة بعشرة أيام فقط، وكنا فى حيرة ماذا سوف نرتدى لأننا سوف نقوم بتمثيل بلدنا، وانتهى بنا الأمر إلى ارتداء أختى لزى «فرعونى» وارتدائى أنا لزى «تراثى صعيدى»، وفى النهاية كان موفقًا جدًا لأنه يعبر عن توجه قومى وليس فرديًا ذاتيًا. ماذا تغير فى حياتكم بعد الجائزة؟ - لا شيء.. كل ما فى الأمر مزيد من الشهرة.. نجيب محفوظ لم يتغير فى أى شيء على الإطلاق.. وماذا عن تفاصيل محاولة قتله.. وكذلك رد فعله تجاه من حاولوا قتله؟ - للغرابة الشديدة فقد ذكر المتهمون فى اعترافاتهم أيضًا أنهم لم يكونوا يعرفون اسم ولا شكل نجيب محفوظ، وأن الوصف الذى جاءهم أنه رجل كبير فى السن ويمشى بعكاز ويرتدى نظارة سميكة وكانوا سينفذون العملية من خلال إطلاق النار على أبى، وتمت معاينة أحد الأماكن التى يتواجد بها دائمًا، ولكن وجدوا أن المكان مزدحم بالناس، وفى حالة إطلاق النار عليه سيتم لفت الانتباه إليهم، وذلك سيعيق الهروب من المكان، فقرروا تنفيذ العملية من خلال طعنه بسكين. من الكاتب الذى كان يقرأ له نجيب محفوظ؟ وما أكلته المفضلة؟ - جيمس جويس وهو كاتب وشاعر أيرلندى، وكنت أرى اسمه كثيرًا فى مكتبة والدى، حيث كان يحرص على قراءة كل كتبه وأشعاره ورواياته، أما الأكلة المفضلة فهى «الملوخية»، وللحقيقة فإن أمى كانت تجيدها، وكانت والدتى شخصية مثقفة جدًا بالمناسبة، وهى من حببت والدى فى الحضارة الفرعونية، حيث كانت تصر على اصطحابه معها أثناء زيارتها للمتاحف التى كانت تعشقها، بالإضافة إلى أن أمى وفرت الجو المناسب لنجاح نجيب محفوظ، حيث الأكل بميعاد والكتابة بميعاد وكل شيء كان منظمًا جدًا لديه، وهذا أمر قاسٍ وصعب جدًا، ورغم ذلك وللمفارقة الغريبة اعتقد البعض أن أمى هى «أمينة» وأبى هو «سى السيد» بسبب إبداع والدى فى كتابة هاتين الشخصيتين بواقعية شديدة، لكن لم تكن أمى «أمينة» ولا أبى «سى السيد» على الإطلاق، بل كان أبى يشبه شخصية «كمال» فى الثلاثية، فكانت أفكاره قريبة جدا من أفكار كمال وكذلك تصرفاته.