نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 30 أغسطس 2006) لم يكن مجرد أديب عابر في تاريخ مصر لكنه كان بل وسيظل رمزا مصريا وقامة أدبية وفكرية شامخة على المستوى الإنساني بعطائه الأدبي المميز، والذي توج بحصوله على جائزة نوبل في الأدب ورغم الأضواء التي سلطت على حياته باستمرار. ظلت عائلته بعيدة عن المشهد قبل رحيله وبعد رحيله إلى درجة العزلة، فلم يستسيغوا أبدًا الظهور الإعلامي، وفضول الصحفيين ذوي الأسئلة المتطفلة، حفاظًا على حرمة حياتهن الشخصية، شاء القدر أن تجري الزميلة منة الله الأبيض هذا الحوار التليفوني مع أم كلثوم نجيب محفوظ (أو هدى كما أسمتها والدتها الراحلة عطية الله إبراهيم)، فجاء أقرب إلى المودة والمساندة القلبية والفضفضة الإنسانية مارست فيها الزميلة دور المستمع، وحاولتُ ألا تتخطى حدود الحياة الخاصة، واتفقنا على نشر الحوار في الحدود المسموح بها، مع الالتزام بعدم ذكر الأسماء التي ورد ذكرهم في الحوار، وقد كان.
صُدمت عندما قرأت خبر رحيل فاطمة نجيب محفوظ (الابنة الكُبرى) يوم الأحد 7 مايو، وصدمت أكثر عندما علمت أن الوفاة قد حدثت منذ ثلاثة أسابيع، وهى نفس المدة التى استكملت فيها هذا الحوار مع أم كلثوم بالمكالمات التليفونية، واستغربت حين سألتها عن فاطمة وصحتها ودوركن فى كتابات الوالد فقالت أم كلثوم دون أي انفعال: أن فاطمة هى التي اختارت اسم رواية «حارة العشاق»، لذلك انتابنى الشك عندما سمعت بخبر الوفاة حاولت التأكد من الخبر الذي نشر بعد تكتم وغموض كبير، فقد توقفت "أم كلثوم" عن استقبال أيّة اتصالات، كذلك تعلل محامي الأسرة السيد عمار بانشغاله حتى لا يؤكد أو يُنفي حقيقة الوفاة، لكن باستدعاء تاريخ 3 سنوات مضت أي عام 2014، ربما يحل لغز التكتم المبالغ فيه، وهو تاريخ وفاة السيدة عطية الله إبراهيم، التي رحلت في صمت مثلما عاشت هي وبناتها في صمت وعزلة، ولكننى فى هذه المرة شعرت أن أسرة الراحل العظيم ربما تتعرض لموجة جديدة من الظلم تحت ستار التكتم والخصوصية التي اعتادت الأسرة التعرض له ولا أعرف ما الذي دفعني للذهاب إلى مقابر الأسرة في طريق الفيوم ووجدت فعلاً قبر فاطمة، وبعد أن قرأت الفاتحة على روحها الطاهرة أكد لى الحارس أنها ووريت الثرى من عشرين يوما .. وابتعاد ابنتي الأديب عن الظهور الإعلامي، واستسلامهن للعزلة، لم يصدهن عن تلقي الطعنات، وكأنه كُتب على عائلة الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ أن تتلقف الطعنات في الجسد والذات، فُمنذ أن تعرّض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال على إثرها طُعن في عنقه على يد مجرم ينتمى لتنظيم اتهم أديب نوبل بالكفر في أكتوبر 1995، ورغم نجاته من محاولات الغدر لم تتوقف الطعنات حتى بعد مماته جاءتهمن الطعنات بالتجاهل والهجر ممن كانو أقرب للأديب الكبير فى حياته بل أقرب الناس إليه، آخر هذه الطعنات هى تهمة الكفر و«الخروج عن الملة» للأديب الكبير بسبب روايته «أولاد حارتنا»، وأخطرها هى توجيه هذه الطعنة لبناته باتهامهن بتبني أفكار «داعش» وجماعة الإخوان الإرهابية في مزاوجة غريبة ومريبة بين من حاول قتل والدهن وبين المطعون فيهن وهما بنتا الأديب الكبير.لتؤكد هذه الطعنات على أن آفة حارتنا لم تكن أبدا النسيان كما قال نجيب محفوظ في روايته «أولاد حارتنا»، بل باتت آفة حارتنا الجهل والتشويه والجحود والنكران واطلاق التُهم جزافًا واختراق حيوات الناس الخاصة، وآخر طعنات نجيب محفوظ كانت من النائب البرلماني أبوالمعاطي مصطفى، الذي أثار ضجة واسعة بتصريحه خلال اجتماع لجنة الشئون الدستورية والتشريعية، لمناقشة مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر رقم 58 لسنة 37، الخاص بقضايا النشر، ووصف فيه أعمال نجيب محفوظ بأنها «خادشة للحياء»، وقال النائب أنه كان يجب معاقبة نجيب نوبل أثناء حياته لخدشه «الحياء العام» وفي 14 مارس الماضي، نشر الصحفي أيمن الحكيم في جريدة «الدستور» مقالًا بعنوان « داعش يحكم بيت نجيب محفوظ.. زوجته ترفض نقل رفاته وبناته: أولاد حارتنا «حرام»، اتهمهن فيه بأنهن تريان أن رواية «أولاد حارتنا» معصية أدبية، وتبنيان أفكارا متطرفة كونهما ترتديان الحجاب، كذلك اتهم زوجة نجيب محفوظ يرحمها الله بأن رفضها نقل رفات الأديب وراء تأخر إنشاء المتحف الذي كان من المُقرر إنشائه مُنذ سنوات، في تكية محمد بك أبو الدهب، بالقاهرة الفاطمية، وليس كما هو ثابت ومعروف أن أسباب التأخير هو النزاع بين وزارتي الثقافة والآثار، حيث تنتظر وزارة الثقافة إخلاء المبنى من الموظفين، ليكون الدور الأول والثاني مخصصين لمتحف الأديب الراحل، والدور الثالث يخصص لموظفى التفتيش.
في حوارها ل"الأهرام"، طرقت أم كلثوم نجيب محفوظ أبرز المواضيع التي تؤرّقها، وكان «الأهرام» قلبا حنونا وآذانا صاغية لها ولشكواها، بالضبط كما كان ومازال وسيظل «الأهرام» صوت كل الضمائر الحية من الأدباء والمثقفين. بداية تقول أم كلثوم أنا وأختى فاطمة: أن عدم الظهور الإعلامي والعيش في العزلة كان باختيارنا، وليس برغبة والدنا كما أُشيع، وحتى ظهورهما الإعلامي الذي كان على استحياء، كان لدفع الضرر والرد على المغالطات التي زادت عن حدها، والاتهامات التي تنال من سمعة العائلة، وللأسف – كما تروي «أم كلثوم» في حوارها ل«الأهرام» – هناك الكثيرون ممن اقتربوا من نجيب محفوظ واستفادوا منه ومن اسمه، من الألف إلى الياء، لم يدافعوا عن الأسرة بل وصل الأمر بهم إلى إطلاق الشائعات، دون آن يحفظوا جِميل والدها نجيب محفوظ. تقول «أم كلثوم»: «خاب ظني وصُدمت في كثير من المثقفين، فقد تصورتهم على درجة من الوعي والشهامة والمروءة لدفع الظلم عنا، تمنيت ولو أن يدافعوا عن والدي ويردوا الجميل، من المؤسف ألا يكون هناك فرق بين المثقف وغير المثقف، فأين ثمرة القراءة والكتابة إذن؟». وبعضهم ربط ارتداء هن الحجاب بادعاء أنهن يتبنين أفكارا متطرفة وإخوانية، أمر تعتبره «أم كلثوم» يؤذيها نفسيًا، متسائلة: «معظم نساء الشعب المصري يرتدين الحجاب، فهل يعني ذلك أنهن إخوانيات؟ لو صح هذا القول غير المنطقي لاستمر محمد مرسي في حكم مصر باعتبار أن الشعب المصري إخواني، والأهم من ذلك كيف اتهم بتبنى أفكار من يفجرون مصر وينشرون الإرهاب في البلاد».بل وحاولوا قتل والدى؟! كذلك استنكرت «أم كلثوم» ادعاء أن ابنتي الأديب يعتبرن أدبه «معصية»، وتساءلت فى استغراب: «كيف أعتبر أدب والدي معصية؟ لا أجرؤ ولا أقبل أن يصفوا أدب والدي بهذا الاتهام، فقد وقعت في عشق كل ما كتب والدي، أحببُت الثلاثية في جزءيها الأول (بين القصرين) والثاني (قصر الشوق)، بالرغم من أن التحويل السينمائي للثلاثية أعطى مساحات واسعة للغناء والرقص، وكأن الثلاثية كلها عن العوالم وهي في الحقيقة جزء من الرواية وليس الكل، لذلك أُفضّل المسلسل (بين القصرين) للسينارست محسن زايد، والأفلام: «ميرامار» بطولة شادية وعماد حمدي ويوسف وهبي،.. و»بداية ونهاية» بطولة فريد شوقي وعمر الشريف وسناء جميل،..، و»أهل القمة» المأخوذ عن إحدى قصص نجيب محفوظ بطولة عزت العلايلي ونور الشريف وسعاد حسني وعمر الحريري،..، وكذلك مسلسل «حديث الصباح والمساء»، ومسلسل «أفراح القبة» الذي عُرض في رمضان الماضي. ولم يكن اعتراض «أم كلثوم» على مشاهد الرقص والغناء في فيلم «بين القصرين»، أو تحفظها على بعض المشاهد في فيلم «ثرثرة فوق النيل»، من فراغ بل كان هذا هو رأي نجيب محفوظ نفسه، فعندما شاهد فيلمي بين القصرين وقصر الشوق، ضحك كثيرًا، فسألته لماذا تضحك؟ فأخبرها أن الفيلم أظهر الناس في الحارة سوقيين، وكأنه لا فرق بين البسطاء والعوالم، وقال لها: «البساطة لا تعني السوقية». حتى إن نجيب محفوظ رفض نشر اسمه كمؤلف لأحد الأفلام لأن المخرج قد شوه النص الأدبى. فالحارة التي يعرفها نجيب محفوظ كما شهدتها صفحات رواياته، عاش فيها الفقراء والتجار الأغنياء، وكان الاحترام والنُبل دستور وميثاق الحارة، حتى أنه بعد أن ترك نجيب محفوظ الحارة، وبُني بيتا أخر غير البيت الذي عاش فيه بحي الجمالية، صُدم عندما زارها وحزن حزنًا شديدًا لما وصلت إليه الحارة وتهدّم البيوت الأرابيسك الجميلة. ومع ذلك لم يتخذ والدها أي موقف تجاه أي فيلم لم يكن راضيا عنه 100 %، لأنه مؤمن بأن المعالجة السينمائية مسئولية المخرج بينما الرواية فهي تؤول إلى المؤلف وبالتالي من يريد أن يحكم على الرواية يجب ألا يتكئ على العمل الفني فقط. سألت»أم كلثوم» عما إن كان هناك رغبة لدى الأسرة في تحويل «أولاد حارتنا» إلى عمل فني من عدمه، وعن مخاوفها من ذلك، قالت: « أولًا الجامعة الأمريكية باعتها بكل اللغات، بالرغم من أنه ليس من حقها أن تبيع العمل فنيًا باللغة العربية، لكنها فعلت ولا يجوز قانونيًا أن أبيعها مرتين، ولكن حتى وإن لم تكن «أولاد حارتنا» تم بيعها، سيُقلقني تحويلها لأسباب كثيرة، أبرزها خوفي من أن يسئ الناس ويخطئوا في فهمها ويُخطئ المخرج في فهم رؤية والدي». وتستطرد أم كلثوم:»سألت والدي هل مات الجبلاوي في الرواية؟ أخبرني أن الجبلاوي لم يمت، فقد دخل الرجل البيت وكان مُظلماً وشاف شخص فقتله» وخرج وأشاع بين الناس أن الجبلاوي (رمز الإيمان وإله الحارة) أنه مات، فالرواية قصدت أن تقول إن العلم هو رمز الإيمان، لذلك كان تخوفى كما كان تخوفه من أن تتحول الرواية إلى عمل فني فيفهمها الناس خطأ بناء على وجهات نظرهم المسبقة حول الرواية أو يُخطئ المخرج في إيصال المعنى». وردت «أم كلثوم» على مسألة رفضهما نقل رفات والدها من عدمه وقالت: «أن الدعوة لنقل رفات والدي إلى المتحف، هي بمثابة دعوة إلى الجاهلية». وعود كثيرة وتصريحات مطمئنة من المسئولين ووزراء الثقافة حول متحف نجيب محفوظ، المُقرر إقامته في تكية أبو الدهب، لكن جميعها وعود بلا جدوى وأقوال بلا أفعال، فمنذ أن أعلن الفنان فاروق حسني، عندما كان وزيرًا للثقافة قرارًا بإنشاء متحف للأديب مقره تكية أبو الدهب بالمنطقة الفاطمية في 2006، ولم تنفرج الأزمة حتى الآن، حتى فقدت «أم كلثوم» الأمل في إقامة متحف أو استرداد المقتنيات التي أهدتها لوزارة الثقافة لوضعها في المتحف، فقد سلمت الأسرة قبل ثورة 2011 بأشهر قليلة، أكثر من ألف كتاب، وصوره ومستلزماته الشخصية مثل السماعة والنظارة والبايب والجوائز التي حصل عليها. ومنذ شهرين تقريبًا، تقدمت الأسرة بطلب لوزارة الثقافة ممثلة في الوزير حلمي النمنم باسترداد المقتنيات التي سلمتها للوزارة، لكن لا حياة لمن تُنادي، ولم ترد الوزارة حتى الآن. وقالت «أم كلثوم»: «لا ألوم وزارة الثقافة أو وزارة الآثار، أعلم أن لديهما أزمة، ومن الواضح أنها لن تنفرج، لذلك أريد استرداد ما سلمته، حتى أتمكن من إقامة متحف لوالدي في مكتبة الإسكندرية». بيروقراطية الوزارة، كانت سبب أساسى ورئيسى في عدم تسليم أسرة الأديب كامل المقتنيات لضمها للمتحف، فعند التسليم – كما تقول «أم كلثوم – «حدثت أشياء غير مقبولة، فلم ترض اللجنة التي كانت مخولة باستلام المقتنيات أن توقع كتابة على كل ما أخذوه، فهناك مقتنيات فضة وذهب، كانت تحتاج إلى ميزان وتحديد معلوم، لكنهم لم يوافقوا أن يحضروا خبيراً، ورفضوا كذلك أن نحضر خبيراً، الأمر الذي دفعنا إلى عدم تسليم كامل المقتنيات». وبعيدًا عن حديث الأزمات ابتسمت «أم كلثوم» حين سألتها هل كان الأستاذ نجيب محفوظ، يستشير الأسرة فيما يكتب ؟ فأجابت : في مرة واحدة فقط ، حين كتب رواية «حارة العشاق»، واحتار في الاستقرار على اسم الرواية، فخيّرنى أنا وفاطمة، بين اسمين أو ثلاثة - لم تذكرهم أم كلثوم في الحوار - فاختارت فاطمة الأسم الحالى للرواية «حارة العشاق». وعن حكاية نبوءة نوبل قالت: في 31 مايو 1980 قبل حصوله على جائزة نوبل بثمانية أعوام بعث صديق نجيب محفوظ الإسكندرانى سعيد سالم، بخطاب أخبره بأنه التقى بصحفي سويدي وزوجته التي تترجم رواية «زقاق المدق» وأعلن الصحفي السويدي أن نجيب محفوظ سيحصل على جائزة نوبل في خلال عامين على الأكثر، وأخذ يمتدح فيه وفي إبداعه. ومنذ أن التقطت أسرة الأديب تلغراف نبوءة نوبل، تحولت النبوءة إلى إيمان تام عند السيدة عطية الله إبراهيم زوجة الأديب رحمها الله، وظلت تذكره يوميًا بأنه سيحصل عليها، لكنه لم يصدقها ولم يكترث لتلك النبوءة، حتى أنها يوم إعلان حصوله على نوبل في 13 أكتوبر 1988، كان نائمًا عندما حضر السفير السويدي إلى بيته ليعلنه الخبر، دخلت «عطية الله» تخبره، فظن أنها تمزح وتكرر التنبؤ بالجائزة كالعادة، لكنها فى تلك المرة لم تكن كما توقع، بل كانت حقيقة، فخرج يقابل السفير بالبيجاما من صدمة المفاجأة الجميلة التى عم الفرح بعدها فى البيت وفى مصر كلها. أم كلثوم نجيب محفوظ التي احزنها الاتهامات بالفكر المتطرف والأخونة، تخرّجت من كلية الإعلام بالجامعة الأمريكية، وتخصصت في العلاقات العامة، وعملت في كُبرى الشركات الأجنبية، وتهوى الرسم لما تمتلكه من موهبة الابداع وهو جانب في شخصيتها لم يعرفه عنها كثيرون، فقد وقعت في غرام الرسم وكان هواية وغواية الطفولة والشباب، فابدعت في رسم البورتريهات على الورق والكمبيوتر، حتى تصوّر الأستاذ نجيب محفوظ أنها ستلتحق بكلية الفنون الجميلة .. وهذه بعض من رسومها. ماذا تبقى من نجيب محفوظ؟ مكتبة نجيب محفوظ فى منزله لا زالت تحتوى على الجزء الأول و الثاني من رواية "المثقفون"، للكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوا، و"معجم أعلام الفكر الإنساني"، و"المليون سنة الأولى من عمر الإنسان"، و"الوصايا"، و"الفكر المصري" للدكتور لويس عوض، و"على إمام المتقين" ل عبدالرحمن الشرقاوي، و"ثمار الشتاء" ل برنار كلافيل، و"المدن العربية الكُبرى في العصر العثماني"، ل أندريه ريمون، و"ضباط يونيو يتكلمون" لعصام دراز، و "الألف كتاب- لورد جيم"، لجوزيف كونراد، و"تراث والتجديد" للدكتور حسن حنفي، و"وعود الإسلام" ل «روجيه جارودي»، و"مصر لمريين- مائة عام على الثورة العرابية"، و"الأدب الفرنسي الجديد"، غايتان بيكون. وأعمال محمد يوسف نجم، ومنه "هارون نقاش"، و"الشيخ أحمد أبو خليل"، و"يعقوب صنوع".