فى كواليس المطبخ الصحفى، وبجوار غرفة رئيس التحرير، ستجد رجلا مرهقا ممسكا سيجارة لا تنطفئ وفنجان قهوة لا ينفد. يجلس على مكتب ملىء بالأوراق، لا تأخذه غفوة، ولا يعكر صفوه تضارب المادة الصحفية أو ضعفها.. فقط هو منشغل ومدقق فى كل كلمة أمامه.. «الديسك مان» أو منسق السياسة التحريرية للصحيفة، الذى يتحمل المسئولية عن تنسيق المادة ومواءمتها لسياسة الصحيفة، قبل عرضها على رئيس التحرير. وفى كواليس إنتاج المذكرات السياسية للزعماء وصانعى القرار ستجد نفس الرجل «الديسك مان»، الذى يحرص ويحرص المحيطون بالزعيم على سلامة الكلمة، فالهفوة قد تعرض الأمن القومى فى البلاد للخطر، وفى الولاياتالمتحدة «الديسك مان» هذا غالبا ما يكون من رجال الCIA المتقاعدين، والذين يتم ترشيحهم من مركز «ستراتفور جلوبال للاستخبارات Stratfor global intelligence»، ومنهم ذاك الحاذق الذى جلس فى منتجع بلانس بولاية جورجيا، وأمامه زجاجة «بوربون»، أفخر أنواع الويسكى الأمريكى، لينقح ويحذف من يوميات الرئيس الديمقراطى الأسبق جيمى كارتر، «يوميات البيت الأبيض» White House Diary بضع جمل تتعلق ب«الملف السرى».. إنه ستيف هوشمان ذاك الرجل المنتدب من الCIA بجانب عمله المعلن كأستاذ للتاريخ السياسى فى جامعة إيمورى بولاية جورجيا، لمراجعة أوراق السياسى العجوز قبل نشرها فى أغسطس 2010حرصا على الملف الأكثر سرية فى تاريخ أمريكا المعاصر. فى أحد أيام الربيع الأمريكى المنعش من العام 1978، وفى جلسة صباحية يشوبها الحذر التام، حول المكتب الرئاسى الأنيق فى البيت الأبيض، جلس كارتر بصحبة مستشاره للأمن القومى بريجنسكى «المرشد الروحى والمعلم الأول للسفيرة الأمريكية آن باترسون»، والأدميرال ستانسفيلد تيرنر، مدير المخابرات المركزية، وآخرين يرتدون طاقية الإخفاء (اللهم إذا استطاعا الأخوان عصفور وفصيح أن يخلعاها عن رأسيهما لنعرفهما بالأسماء) كان منهم شخصية ثقيلة الوزن السياسى خفيفة الظهور للإعلام، تحمل فى جيوبها أوراق اللعبة الإسرائيلية كاملة: من كامب ديفيد مرورا بغزو لبنان، حتى اتفاق أوسلو!.. وأغلب الظن أنها يهودية، ومن الذين تحملوا نفقات حملات كارتر الانتخابية لتذكير الرئيس الديمقراطى بوعوده التى أخذها على نفسه: «أن وجود إسرائيل ضرورة أخلاقية»، لأن ما طرح أيضا بجانب «الملف السرى» الموضوع على المكتب، كان تمكين إسرائيل دون عائق أو مقاومة. على الصعيد الأهم كان الملف السرى يحمل عنوانا واحدا من كلمتين: «الصعود الإسلامى»، وتضمن ثلاثة مقترحات قابلة للتنفيذ على الأرض، أقرها كارتر والديمقراطيون من بعده، الأول: «توجيه الجهاد الإسلامى»، والتحكم به عن بعد، مع الاحتفاظ برؤوسه حتى لا يخرج عن السيطرة، أو يفصح عمن صنعوا له بطاقة الدعم والهوية كعمر عبد الرحمن، وبن لادن وبرهان الدين ربانى، وقلب الدين حكمت يار، الذى تلقى وحده من ال CIA ما لا يتجاوز ال600 مليون دولار، ثم وضعته أمريكا لاحقا على رأس «القائمة السوداء» 2003 بعدما سُربت أنباء قليلة عن فضحه التعاون الآخر بينه وبين الاستخبارات الأمريكية فى ملف تجارة الأفيون والمخدرات، وتصديرها للدول المعادية لأمريكا. وعلى أساس المقترح الأول، عقدت الصفقة بين الرؤساء الديمقراطيين والمجاهدين بتقديم دعم مادى ولوجيستى لتلك الجماعات، أو كفدية أولية يدفعها الرؤساء الديمقراطيون لهم، فى مقابل عدم استهداف المصالح الأمريكية (مؤسسات وأفرادًا) فى تلك الدول محل الدعم والاتفاق، وتوجيه الجهاد الإسلامى نحو استهداف الأقليات الدينية فى تلك المناطق بدلا عن استهداف الأمريكان (جنودا ودبلوماسيين وصحافيين وسياحًا) حتى يتم الحفاظ على الأيديولوجيا الجهادية والدعائية لهؤلاء الإرهابيين أمام شعوب تلك المناطق فى مفردات الجهاد كالذبح والاغتصاب وغيرهما. وبنى هذا المبدأ على أساس تفادى تكرار حادثتى اقتحام السفارة الأمريكية فى طهران، ومقتل السفير الأمريكى، أدولف دابس فى أفغانستان عام 1979. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أكثر العمليات الإرهابية التى استهدفت الأقليات الدينية فى منطقة الشرق الأوسط تمت فى عهد الرؤساء الأمريكيين الديمقراطيين، وعلى سبيل المثال تفجير كنيسة سيدة النجاة فى العراق، وكنيسة «جميع القديسين» فى بيشاور، وأعلنت فيهما القاعدة مسئوليتها، فضلا عما يفعله تنظيم داعش هذه الأيام تجاه أقليات المنطقة. أما الثانى فكان: «دولة التفريغ» أو الدولة التى تلقى فيها النفايات الجهادية، وتفرغ فيها شحنة التطرف التى ملأت العالم، وموجزها: إنه عندما يمتلئ العالم الغربى، وعلى رأسه أمريكا نفسها بالمهاجرين المسلمين من شتى بقاع الأرض، قد تواجه أمريكا مأزقًا فى طردهم من أراضيها، وتظهر فى صورة الدول العنصرية، ويكمن الحل فى ضرورة إقامة دولة متطرفة تحوى أفكار الجهاد وتتبناه، ويحج إليها الجهاديون من شتى بقاع الأرض، وعندئذ تكون أمريكا قد تخلصت من أناس يحملون أفكار الجهاد والتطرف كأنوا يسكنون على أراضيها بمحض إرادتهم، وبطريقة «شيك»، وأخرى تضمن أن يكون الجهاد والتطرف فى بقعة أرض واحدة قد يسهل فيما بعد ضربها، وهذا أفضل من أن يظل الإرهاب كخلايا سرطانية فى جسد كل دولة ويصعب استئصاله. أما الثالث فكانت «دولة الاحتواء»، وهى الدولة التى تستطيع غربلة الإسلام الجهادى، وإخراجه فى صورة مفصلة على مقاس الغرب. وحطت أنظار الديمقراطيين على دولتين هما تركيا ومصر، نظرا لسبب تاريخى محض، فتركيا تستطيع أن تجمع كل مسلمى العالم تحت إبطها بشعار «إحياء الخلافة الإسلامية» والأمجاد العثمانية السابقة، وهذا المقترح عارضته وأرجأت تنفيذه الاستخبارات الألمانيةBND وقتها، لأن رعاية أو دعم أى تجمع إسلامى فى تركيا لن يأخذ منهج الإسلام السلمى الذى نظر له المستشار الألمانى وقتها هلموت شميت، والذى حط أنظاره على مصر بدلا من تركيا لإعجابه بفكرة «الرئيس المؤمن» المنفتح، التى روج لها الرئيس السادات، أما تركيا فسيأخذ فيها منحى آخر هو الغزو الإسلامى المسلح نظرا لاختمار فكرة الفتوح العثمانية، وعلى الفور استجاب كارتر للنصيحة الألمانية، وقام فيما بعد بدعم الانقلاب العسكرى الذى قاده كنعان إيفرين1980 ضد توجهات أربكان الإسلامية، ولا سيما معاداته للسياسة الإسرائيلية فى وجود الشخصية اليهودية ذات الثقل المشار لها سابقا، التى كانت حاضرة بقوة فى الجلسة السرية. وهنا نطرح السؤال الأهم: لماذا دعم الحزب الديمقراطى أيام كارتر إطاحة وزير الدفاع التركى بحكم أربكان الإسلامى، وهاجم السيسى حينما أطاح بحكم مرسى الإسلامى، تحت مطلب الشعب فى ثورة 30 يونيو أيام الديمقراطى الآخر أوباما؟! وتكون الإجابة أن ذلك من أجل تأهيل الأرض لزراعة الإخوان المسلمين وتنفيذ مشروع أمريكا «دولة الاحتواء» فى مصر. وهذا ما يفسر استماتة الحزب الديمقراطى فى دعم جماعة الإخوان، وعلى رأسه كارتر وأوباما، ويفسر سر الملايين التى أغدقها الديمقراطيون على الجماعة، ويفسر أيضا سر تمسك الألمان بالإخوان. ومع خروج تركيا من قائمة «دولة الاحتواء» تتبقى الدولة الأخرى وهى مصر، وبالرجوع إلى السجلات السرية القديمة التى عرضها الديمقراطيون على أوباما تم اختيار القاهرة لتكون محط خطابه الشهير فى جامعة القاهرة فى الرابع من يونيو 2009. راودت هذه المقترحات الديمقراطيين واختمرت فى وجدان جيمى كارتر وعقله المدبر بريجنسكى بعدما تزايدت موجات استهداف الأمريكان فى الدول الإسلامية فقتل السفير الأمريكى أدولف دابس 1979 بأيدى المتطرفين فى أفغانستان، وكذلك أزمة الرهائن الأمريكيين فى السفارة الإيرانية، لإيجاد حلول للسيطرة على البلدان الإسلامية وحكم الشرق الأوسط وخاصة بعد فقدهم شاه إيران مندوبهم السامى فى المنطقة. كارتر الذى استطاع تملق الأمريكان بالدين، وبترديد بضع كلمات من الإنجيل، وجد ضالته فيمن يشبهونه من الذين يتاجرون بالدين أيضا ويهوون ترديد الشعارات الدينية. لماذا يظل كارتر المتحدث الرسمى فى المؤتمرات الإسلامية؟.. سؤال طرحته العديد من الدوائر الإعلامية والبحثية الأمريكية، وذلك على خلفية إقامة المؤتمر السنوى للجمعية الإسلامية فى أمريكا الشمالية «ISNA» بولاية إنديانا الأمريكية، الذى أقيم فى أغسطس 2014 وحضره جيمى كارتر، وفاليرى جاريت أحد مستشارى باراك أوباما، وكبرى قيادات الحزب الديمقراطى. وتم توجيه الاتهام مباشرة للجمعية، ولشخص كارتر بجمع تبرعات لصالح المنظمات الإرهابية فى منطقة الشرق الأوسط. البروفيسير آلان ديرشوفيتز، أستاذ القانون فى جامعة هارفارد، قال فى مقابلة مع صحيفة نيوزماكس: «إن كارتر خالف قانون الولاياتالمتحدة بدعمه الدائم للإرهابيين فى منطقة الشرق الأوسط». كارتر الذى تصدر اسمه كأسوأ شخصية فى تاريخ الولاياتالمتحدة بحسب استطلاع أجراه المدونون اليمينيون عام 2010، سيظل الأب الروحى للإرهاب الذى رعاه عن طريق تصعيد ودعم المتطرفين من المجاهدين الأفغان مرورا بجماعة الإخوان الإرهابية، وحركات التطرف الإسلامى حول العالم. ويظل الملف الذى تبناه مع مستشاريه أيام حكمه للبيت الأبيض (1977-1981) من الملفات المدرجة بالسرية جدا، والتى لن تفصح عنها ال CIA، نظرا لأن الأمر متعلق بسياسات الأمن القومى الأمريكى فى المنطقة لفترة طويلة الأمد، إضافة لتورط العديد من زعماء العالم فيه.