من آفات الحكم فى مصر منذ أن وحّد (نارمر مينا) القطرين حتى يومنا هذا.. أننا نمسح ب (أستيكة) كل ما قام به من سبقونا فى الحكم أو فى الوزارة أو المؤسسة أو الهيئة أو القطاع.. وهذه عادة فرعونية قديمة.. فإما أن نهد المعبد ونعيد بناءه من جديد وبنفس الطريقة.. أو نمحو الخرطوشة التى تشير إلى أن هذا المعبد بناه الملك (الفلانى).. ويضع الملك الجديد خرطوشة تؤكد أنه هو صاحب هذا الصرح العظيم (!!).. وهذا تراث موجود حتى الآن.. وانظر على سبيل المثال لتاريخ بناء جامعة القاهرة فستجد أن من أسسها كبار المثقفين المصريين عام 1908 وسميت الجامعة الأهلية.. وفى سنة 1925 خصص لها موقع جديد فسميت الجامعة المصرية. وفى عام 1940 صدر قرار ملكى بتسميتها جامعة فؤاد الأول.. وفى عام 1953 صدر مرسوم من مجلس قيادة الثورة بتسميتها جامعة القاهرة.. وإذا زرت جامعة القاهرة الآن ستجد لوحة رخامية ضخمة على مدخل قاعة الاجتماعات الكبرى كتب عليها تم تجديدها وإعادة بنائها فى عهد الرئيس حسنى مبارك.. وتم إلغاء كل ما عداه وسبقه من تواريخ.. وهكذا نحن نتنكر دائما لتاريخنا.. ولا نبدأ من حيث انتهى الآخرون.. بل يصر كل مسئول جديد على أن ينسف كل ما تم إنجازه.. وإهالة التراب على من سبقه فى ذات المنصب.. وأولى مهام كل وزير جديد أن يرسم خطة جهنمية للتخلص من كل القيادات التى عينها سلفه الواحد تلو الآخر.. إما بالصدمات الكهربية العاجلة مثلما حدث مع رئيس قطاع الفنون التشكيلية د. أحمد عبدالغنى.. أو إقصائهم وإهمالهم ومطاردتهم بالمنغصات المصطنعة حتى يتم استبعادهم بهدوء أو يرحلون من الزهق أو احتراما للذات.. وهذه الخطة يطبقها بنجاح وزير الثقافة الجديد.. فقد بدأ بالإطاحة برئيس قطاع الفنون التشكيلية كما أشرنا.. ثم بمساعد الوزير لتكنولوجيا المعلومات د. خالد الغمرى.. ثم تقدم باستقالة مسببة مستشار الوزير القانونى المستشار وديع حنا.. وطلبت إعفائى من مهامى كمستشار إعلامى فى 15 أبريل بعد حادثة أمينة متحف محمود سعيد بالإسكندرية السيدة عزة عبدالمنعم.. ومطالبتى كمتحدث رسمى باسم وزارة الثقافة بالرد عليها ببيان رسمى وعمل مداخلات على الهواء مباشرة مع برامج (التوك شو) للدفاع عنه.. ثم أتبع ذلك بإنكاره بيان إحراق الكتب.. حيث أنكر الوزير علاقته به على الهواء مباشرة رغم أنه هو الذى أشار به وأمر بكتابته.. وبعدها تمت إقالة الدكتور وليد سيف رئيس المركز القومى للسينما.. ومنذ أيام قليلة تقدم باستقالته مساعد الوزير لتطوير المنظومة الثقافية الدكتور سعيد المصرى.. والبقية تأتى.. والغريب أنه يتم إحلال كوادر بديلة عليها العديد من علامات الاستفهام من حيث الكفاءة والانتماء (!!). وكما أشرنا فى بداية المقال أننا نهد المعبد ونعيد بناءه بنفس الطراز وبنفس الأسلوب.. فقد أصدر وزير الثقافة يوم 18 مايو الجارى بعد زياراته التفتيشية المفاجئة للمواقع الثقافية قرارا بتشكيل: «لجنة برئاسة محمد عبدالحافظ ناصف رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة بالتوجه إلى محافظة الفيوم لبحث المشاكل التى تواجه قصر ثقافة الفيوم والعمل على حلها بالتعاون مع الحماية المدنية ومحافظ الفيوم».. وكأننا نعيد اختراع العجلة من جديد.. فاستحداث لجنة جديدة أمر بالغ الدهشة.. فتوجد بالفعل لجنة لديها صلاحيات أوسع وأجدى.. وهذه اللجنة شكلها وزير الثقافة السابق الدكتور جابر عصفور بقرار يحمل رقم 726 لسنة 2014 مكونة من: (الكاتب المسرحى/أبوالعلا السلامونى، الشاعر/سيد حجاب/الفنان عزالدين نجيب، الكاتب/عمر البرعى، الكاتب والباحث/نبيل عبد الفتاح، وكاتب هذه السطور).. وجاء فى القرار بالنص فى المادة الثانية عن اختصاصات هذه اللجنة: «تختص هذه اللجنة بتقييم الأداء الفنى والإدارى للهيئة العامة لقصور الثقافة فى جميع الأقاليم والمناطق التابعة لها وإعداد تقرير بذلك يتضمن أوجه القصور فى ذلك الأداء مع بيان المقترحات اللازمة لمعالجة ودراسة سبل تطويره فى ضوء خطة زمنية محددة مع وضع التصورات الخاصة بتفعيل الدور الثقافى للقصور التابعة للهيئة، ووضع خطة التطوير الإدارى. هذه فقط مادة واحدة من اختصاصات اللجنة.. وسنلاحظ هنا دقة توصيف مهامها واتساع اختصاصاتها.. هذا بخلاف المواد الثالثة والرابعة والخامسة التى تؤكد أهمية هذه اللجنة.. وقد أوصت هذه اللجنة فى اجتماعاتها بضرورة إعادة فتح (مركز إعداد القادة) الذى أنشأه الكاتب الكبير سعد الدين وهبة عندما كان رئيسا لجهاز الثقافة الجماهيرية.. وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة: لماذا لم يُفعِّل وزير الثقافة الحالى هذه اللجنة.. ويعود ليشكل لجنة برئاسة رئيس الهيئة بينما اللجنة موجودة ومازالت قائمة ولها كل هذه الصلاحيات الواسعة؟.. فإن كان لا يعلم بوجودها فتلك كارثة.. وإن كان يعلم ولا يرغب فى تفعيلها فتلك كارثة أكبر.. وللأسف هو يعلم بوجودها والقرار لديه وفى مكتبه.. وأنا شخصيا أخبرته بنفسى بأمر هذه اللجنة.. وأخبرته بالأعضاء الجدد الذين أضيفت أسماؤهم فى آخر اجتماع عقد للجنة برئاسة د. جابر عصفور.. ولكنها العادة الفرعونية القديمة إلغاء كل شىء قام به الوزير السابق والبدء من جديد من مربع رقم (صفر).. وللأسف هذا التقليد موجود فى كل وزارات ومؤسسات الدولة المصرية (العميقة).. إلغاء ما فات والبدء من جديد.. لا أحد يبنى على ما تم إنجازه ليعلو البناء.. لذلك فنحن دائما محلك سر لا نتحرك للأمام بل نعود للوراء.. أو نبقى فى أماكننا (!!). ومن الغريب المستحدث فى وزراء هذه الحكومة الجدد هو الزيارات التفتيشية المفاجئة وكأنهم سيضبطون الموظفين الغلابة متلبسين وفى أيديهم طرب الحشيش والبانجو والهيروين.. وياخدوهم فى حديد ويحولوهم للنيابة.. ومنها على ليمان طره.. وكانهم أتوا بما لم يأت به الأوائلُ (!!).. فمعالى الوزير يحيل الموظفين للتحقيق ويقيل القيادات ويوقع الجزاءات بلا رحمة.. دون أن يضع خطة شاملة للإصلاح.. ودون أن يجتمع بالعاملين بكل إقليم ويسألهم لماذا لا يوجد رواد لزيارة قصور وبيوت الثقافة (!!).. لماذا لا يوجد نشاط (!!).. ولماذا هذا الإهمال المتفشى فى كل المواقع (!!).. بالتأكيد سيجد مشاكل بالكوم.. وأسبابًا جمة.. وسيعلم ساعتها أن هناك قرارات وأوامر من هيئة الحماية المدنية بعدم مزاولة النشاط داخل هذه المواقع إلا بعد استكمال إجراءات وأدوات الوقاية من الحريق.. وهذه القرارات صدرت منذ حريق مسرح بنى سويف عام 2005, ومنذ ذلك التاريخ يوجد ما لا يقل عن 300 موقع غير مسموح بمزاولة النشاط بداخله لأن وسائل الحماية المدنية غير متوافرة فيه.. فهل استمع الوزير فى اجتماع موسع لقيادات الثقافة الجماهيرية فى كل أقاليم مصر لأوجاعهم وهمومهم ومشاكلهم.. هل وضع خطة طموحة ورؤية جديدة تنفذ على مراحل لتطوير العمل بالثقافة الجماهيرية.. ورفع كفاءة هؤلاء المساكين وتدريبهم وإعادة تأهيلهم وفقًا لرؤية شاملة وخطة متكاملة لتطوير العمل الثقافى.. وإعطائهم مهلة محددة تقاس بعدها معدلات ومؤشرات الأداء الفنى والإدارى.. وتوزيع الكفاءات توزيعا عادلا بدلا من تمركزها داخل القاهرة الكبرى.. وعواصم الأقاليم الثقافية.. هل قمت بذلك يا معالى الوزير(؟!) .. أم أن الأمر كله اختزل فى الجزاءات والإقالات والتوبيخ وإيقاع الإيذاء النفسى بهؤلاء الموظفين الغلابة الذين لم يجدوا من يحنو عليهم بالتدريب ورفع الكفاءة وبحث مشاكلهم الحقيقية وتقديم خطط التطوير وتقديم العون لهم ليؤدوا الدور المنوط بهم.. اذهب يا معالى الوزير إلى قرى صعيد مصر لترى بنفسك إلى أى مدى الحالة متردية ومزرية ويندى لها الجبين.. لقد زرت بنفسى كل أقاليم مصر عام 2005 ضمن لجنة شكلت بعد حريق بنى سويف وأصدرت هذه اللجنة تقريرا مفصلا عن مأساة الثقافة الجماهيرية.. ووضعت من وجهة نظرى عبر عمل ميدانى مضنٍ وشاق تصورا كاملا وشاملا لإصلاح هذا الجاهز الخطير المسمى الثقافة الجماهيرية.. خطة متكاملة تستهدف كل أبناء مصر المتسربين من التعليم والحاصلين على مؤهلات متوسطة ودون المتوسطة ولا يعملون ولا يجيدون أية حرفة أو صنعة.. والذين يمثلون الرصيد الحقيقى والظهير الشعبى للجماعات الإرهابية.. حيث يتصيدون معاناتهم ويستغلونهم أسوأ استغلال ليكونوا منهم ميليشيات الإرهاب مستغلين سخطهم وعذاباتهم ومعاناتهم.. وبالتأكيد وللإنصاف لست أنت المسئول عن سنوات الإهمال السابقة.. ولا الوزير السابق لك ولا الأسبق منك.. إنها تركة ثقيلة تراكمت عبر سنوات من الإهمال.. عندما أصمت الدولة أذنيها.. وأغلقت عينيها.. وصمتت صمت القبور عن كل هذا الإهمال الذى لحق بالمواطن البسيط.. وهذا التجريف الثقافى الذى أوصلنا إلى ما نحن فيه.. بالتأكيد لست أنت المسئول، ولكنك جئت وزيرا بعد ثورتين مجيدتين.. فلابد أن تختلف الرؤى والأداء والفكر.. ولا يجب أن نعيد إنتاج نفس الأفكار بنفس الطريقة وتتوقع أن تحصل على نتائج مختلفة كما قال ألبرت أينشتين.. يا معالى الوزير معاقبة الموظفين وإقالتهم لن يصلح حال الثقافة الجماهيرية.. لقد تحدثت معكم فى أسوان فى أول لقاء بينى وبينكم عن خطة الإصلاح الشامل ونظرت إلىًّ مندهشا وقلت: «نريد شيئا تظهر نتائجه بسرعة على أرض الواقع» (!!) .. يومها أدركت أن كل الوزراء الجدد يأتون بمفهوم واحد وهو الظهور الإعلامى والانتشار المدوى.. وهذه فيما يبدو أهم تعليمات تلقن للوزراء الجدد إلا من رحم ربى.. وأدركت أيضا كما قال سعد زغلول إنه: «مفيش فايدة».. لست متشائما إلى هذا الحد، ولكن للأسف تلك هى الحقيقة! وانتظرونا الأسبوع القادم لنتحدث عن: صيف ولادنا والقوافل الثقافية ومصر الجميلة وعودة الخلايا النائمة للمشهد الثقافى∎