من المشاكل التى تشغل التيارات الإسلامية مشكلة فصل أو دمج الدين فى السياسة، وعلاقة الإسلام بالدولة الحديثة وتعريف المواطنة والحقوق والواجبات الدستورية، فالفرد أصبح فى الدولة الحديثة هو المواطن التابع لهذه الدولة دستوريا وقانونيا، وهو ما يتمتع بحقوق كاملة ومتساوية مع بقية الأفراد بصرف النظر عن اللون أو العرق أو الدين.
والتيارات الإسلامية لا تنشغل بمشاكل المجتمع الاقتصادية أو البطالة أو الفساد، ولكنها مشغولة بالمطالبة بتطبيق الشريعة باعتبارها الحل لكل المشاكل ومع ذلك لم يحددوا الشريعة المراد تطبيقها، فشريعة القرآن الكريم قائمة على العدل والإحسان والحرية فى الدين والفكر وهى تتناقض مع فكرهم القائم على الإكراه فى الدين والحسبة وحد الردة.
لقد نجحت التيارات الإسلامية فى إقناع الناس بأن زمن الخلافة كان يمثل أزهى عصور العدل والرخاء بسبب تطبيق الشريعة، مع أن المسلمين عاشوا أسوأ عصور الاستبداد والفساد منذ الخلافة الأموية إلى الخلافة العثمانية وكلها كانت تطبق الشريعة على الرعية فقط وليس على الخليفة أو حاشيته.
وفى أول دستور مصرى عام 1882 لم يتم تحديد دين للدولة، ولكنه جاء فى نص المادة 149 من دستور 1923 «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، وعلى الرغم من أن المسيحيين وقتها كانوا ضمن القيادة السياسية ولهم وجود فى الحياة السياسية إلا أنهم لم يعتبروا هذا النص تهميشا لهم، لأن الفكر الإسلامى كان يعبر عن التسامح الذى تعايش فى ظله المصريون لمئات السنين.
وتكرر نفس النص فى المادة 195 من دستور ,1954 وفى المادة 2 من دستور 1971 جاء النص: «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع». وفى 1980 عدل الرئيس السادات المادة 2 بإضافة الألف واللام لتصبح «ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، لتمرير تعديل المادة 77 بحيث تلغى تقييد انتخاب رئيس الجمهورية بمدتين فقط وجعله غير محدد.
والأصح أن يكون نص المادة «مصر دولة مدنية، دين الأغلبية هو الإسلام، تعترف بالتعددية وحقوق المواطنة والمساواة، وأن الشريعة الإسلامية مصدر أساسى للتشريع.
فاختزال هوية الدولة المصرية فى أن «دين الدولة الإسلام» هو إلغاء لباقى مكونات الهوية المصرية، فالدين جزء من هوية الفرد وهو الجزء الأهم للشعب المصرى، لكن هناك مكونات أخرى تحدد هوية الشعب مثل العادات والتقاليد والتراكم الثقافى والحضارى، واختصار هوية الفرد فى الدين هو توظيف للدين على حساب الهوية الحضارية لمصر. ومواد الهوية تمثل أخطر الأزمات التى تواجه عمل لجنة الخمسين، وذلك فى ظل إصرار التيار الإسلامى على أن يتم النص على أن هوية مصر إسلامية فى المادة الثانية من الدستور.
ويرى البعض أن هذه المادة تحدد هوية الدولة وكأن مصر لم تكن لها هوية ولم يكن بها الإسلام من قبل، مع أن هوية الدولة المصرية عمرها 6200 سنة، والمسيحية فى مصر منذ 2000 سنة، والإسلام فى مصر منذ 1400 سنة، فالثقافة الفرعونية المسيحية الإسلامية تفاعلت لتكون هوية مصر، ولا يمكن إلغاء تاريخ وثقافة مصر قبل دخول الإسلام.
كما يصر السلفيون على أن تكون الصياغة الخاصة بالشريعة: «أحكام الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع فى مصر»، بينما يرى أغلبية أعضاء اللجنة أن الصياغة الأكثر توافقا هى: «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع فى مصر»، مع أن كلمة مبادئ أعم وأشمل.
أما المادة 219 من دستور 2012 وهى المادة المفسرة للمادة الثانية: «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة».
فقد تعرضت تلك المادة لانتقادات باعتبارها أنها تؤسس لدولة دينية سنية، وأوصت لجنة العشرة التى قدمات مقترحات لتعديل الدستور بإلغاء هذه المادة، إلا أن حزب النور السلفى يصر على بقائها، ويهدد بالانسحاب من اللجنة ودعوة المصريين لرفض الدستور عند الاستفتاء عليه.
والدولة الدينية تفرض مذهبها الدينى وتضطهد من لا يعتنق مذهبها وتعاقب من ينتقد مذهبها فتظهر فيها محاكم التفتيش الدينية.. والدستور عندما يتم وضع مواده بالتوافق فلا يعنى ذلك وجوب إرضاء تيار أو طمأنة تيار آخر على ثقافتهم وأفكارهم، فالدستور يجب أن يحتوى على القيم العليا التى ينبغى أن يصل إليها المجتمع، فالمجتمع مازالت لديه بعض الأفكار التى تخالف قيم الإسلام والإنسانية، مثل حرمان المرأة من أخذ كل نصيبها من الميراث فى الريف، ومثل الأخذ بالثأر فى الصعيد.
فالأعراف والتقاليد والأفكار التى تخالف قيم العدل والحرية يجب أن يتم علاجها بالدستور لا أن تكون مصدرا للدستور، كما أن قيم المجتمع تتغير ولذلك يجب أن يكون للدستور مرجعيته من القيم الإنسانية العليا والتى تعبر عنها مبادئ الشريعة الإسلامية مثل المساواة، العدل، الشورى، حرية الدين.
ولذلك يجب مراجعة قانون العقوبات وإلغاء القوانين التى تعاقب على حرية الرأى والفكر والاعتقاد.
إن الإصلاح المطلوب ليس دستوريا وقانونيا فقط بل أيضا إصلاح سياسى يؤكد الفصل بين السلطات ويمنع الانفراد بالحكم، وأيضا إصلاح تعليمى خاصة لمادة التربية الدينية، وإصلاح للمساجد ودورها فى تعليم الأخلاق وعدم استخدامها فى السياسة.
لقد أعطت ثورة 30 يونية الفرصة لمصر لكى تحدد مشروعها الجديد بعد فشل مشروع القومية العربية وفشل مشروع الدولة الدينية وأصبح المشروع الصحيح هو الدولة المدنية الديمقراطية مثل النظم السياسية فى العالم المتحضر وهى أقرب ما يكون لنموذج الدولة الإسلامية.