الموقف الوطنى التاريخى الذى يصر عليه الجيش المصرى حتى الآن لن ينساه له المصريون، رغم مطالبات الكثيرين له بالانقلاب وآخرون فى المقابل بالتدخل لصالح مرسى.. إلا أن المؤسسة العسكرية أكدت فى عدة بيانات مصيرية أنها لن تقف إلا مع الشعب، وسط كل ذلك جاءت أزمة فشل الحوار الوطنى أو الإنسانى الذى دعا إليه وزير الدفاع الفريق أول «عبدالفتاح»، خاصة أنه أثار القلق فى جنبات الرئاسة والجماعة بعدما اعتبروه بداية انقلاب ناعم جاء فى أعقاب إقرار الضبطية القضائية للجيش مرة أخرى..
الأغرب أن هذا الجدل السياسى الذى يحاصر الجيش يأتى فى وقت من الضرورى أن نحمى جيشنا من مخططات تفكيك الجيوش التى طالت كل جيوش المنطقة العربية، ولا يزال جيشنا يواجهها بقوة.. وهناك من لا يدرك خطورة هذه الكارثة، فلو سقط جيشنا لا قدر الله سقطت مصر ولن تقوم لها أى قائمة ثانية، ولهذا تشعرنا أصوات مقاتلات جيشنا فى السماء ما بين الحين والآخر بالاطمئنان فى أجواء الضبابية التى تحاصر مصر، وهى ليست موجهة لطرف ضد طرف وفق كل التأكيدات العسكرية.
وما لا يعيه البعض أنه بسبب التوتر على الحدود مع غزة وإسرائيل وتدهور الأوضاع الأمنية فى سيناء، ترسخ اليقين لدى «السيسى» بأن الانكفاء على الاستعداد القتالى ورفع الكفاءة لأفراد ومعدات الجيش هو المهمة الرئيسية، التى يجب العمل عليها ليتم ترك الملعب السياسى لأصحابه، خاصة أن القوات المسلحة منذ أكتوبر الماضى وهى مشغولة بسلسلة من التدريبات المكثفة.
وتطورت الأحداث بشكل أجبر الجيش على عدم الوقوف فى مقاعد المتفرجين على تطورات الملعب السياسى.. فمع إصدار الرئيس مرسى للإعلان الدستورى الذى قسم مصر، وكاد يصل بها إلى الحرب الأهلية بين المؤيدين والمعارضين، خرج الجيش عن صمته «السياسى».
وخرج علينا من يقول إن الجيش حصل على امتيازات خاصة جدًا فى الدستور الجديد، وأن هذا هو سر عدم انقلابه على الرئيس، وهنا فقط غيرّ «السيسى» أسلوبه وخلال حضوره لثلاث مناورات حربية شدد على أن الجيش ملك الشعب، وأنه جزء من نسيجه ولأول مرة بعد تسليم المجلس العسكرى للسلطة يخرج بيان يحمل اسم المؤسسة العسكرية.
يؤكد فيه كلام «السيسى» ويحذر من الوصول إلى نتائج كارثية لن يسمح الجيش بوقوعها.. وهو ما لاقى ارتياحًا كبيرًا بين الشعب وجميع القوى لأنه يعكس حيادية المؤسسة العسكرية، ويضرب بعرض الحائط أية أقاويل من نوع أن الجيش أصبح موالياً للرئيس وأن وزير الدفاع ينتمى لجماعة الإخوان ويأتمر بأمرها وغير ذلك.
وبعد موقف «السيسى» وبيانات الجيش المؤكدة ولاءها للشعب فقط لم يجد مرسى أمامه سوى التعامل مع المؤسسة العسكرية بهذا المبدأ، لأن أى محاولة منه أو للقوى المؤيدة له لجرها إلى المعترك السياسى لصالحه لن تجد أى صدى فى صفوف الجيش رغم أن هذا الموقف أربك صفوف الجماعة والإسلاميين.
وعندما طلب مرسى من الجيش المساعدة فى تأمين الاستفتاء اشترطت قواتنا أن يكون ذلك بضبطية قضائية تبرر وجود أفراد القوات المسلحة فى الشارع وأن يكون التواجد لهدف محدد بعدها تعود القوات لثكناتها ومهامها الرئيسية فى العمل العسكرى، ولكن مع مراقبتها للعبة السياسية والتدخل فقط لحفظ الأمن الوطنى فى حال وصول الأمر لحرب أهلية بين أبناء الشعب دون أن تتواجد المؤسسة العسكرية فى صف طرف على حساب الآخر.
وبالتوازى مع مواقف الجيش من الأحداث الأخيرة يستمر فى القيام بمهامه القتالية والتدريبية، وكان آخرها مشروعًا تعبويًا لقوات الدفاع الجوى والقوات الجوية ولقاء للسيسى مع أفراد سلاح المشاه.. وكان هذا وفق المراقبين رسالة للخارج أكثر منها للشأن المحلى.. حيث إن القوات المسلحة تريد أن يصل للمتربصين بأنه ورغم ما تشهده البلاد من توترات فإن القوات المسلحة لم ولن تتخلى عن يقظتها القتالية وأنها قادرة على صد أى عدوان فى أى وقت.. أما رسالتها على المستوى المحلى فهى أنه ليس معنى نزول الجيش لتأمين الاستفتاء أن الحدود والأماكن الملتهبة مثل سيناء ستكون دون «ضابط أو رابط»، وأن القوات قادرة على القيام بأكثر من مهمة فى نفس الوقت.
ولم تكن دعوة السيسى أثناء حضوره للقاء مشترك مع وزير الداخلية الثلاثاء الماضى لجميع القوى السياسية والإعلامية والدينية لحوار مجتمعى ذات هدف واحد وهو لتهدئة الأوضاع ولكن- وحسب مصادر خاصة كانت هناك أهداف أخرى أولها وهو بعلم رئيس الجمهورية وتنسيق تام مع الرئاسة أن يقوم السيسى بالدعوة فى هذا التوقيت الحرج ليصل الرئيس برسالة للمؤسسة العسكرية أنه لا يتعمد إقصاء فصائل من الشعب وأن نيته حسنة تجاه الجميع، وبالتالى يضمن حيادية الجيش فى التعامل مع الصراع القائم، والرسالة الثانية هى أن رئيس الجمهورية أراد أن يستفيد من رصيد الاحترام الذى يكنه الشعب للمؤسسة العسكرية لضمان أكبر مشاركة من المواطنين فى الاستفتاء على الدستور الجديد.
الهدف الثالث من دعوة وزير الدفاع للحوار المجتمعى هو ما يسمى ب«الحماية الاستباقية»، لأنه يدرك جيدا أنه بدون حل للأزمة الحالية لن تقف القوات المسلحة موقف المتفرج وستضطر للنزول للشارع مرة أخرى، وهو الأمر الذى لا تفضله المؤسسة العسكرية، لأنه من ناحية يُعد إنهاكًا لقوتها، ومن ناحية أخرى سيكرر عمليات تشويه عانت منها خلال حكم المجلس العسكرى للبلاد.
ولم يكن مفاجئا فشل الحوار بسبب أجوائه المتوترة من البداية، وهو خصم من رصيد مرسى لا الجيش الذى صعد الموقف حتى أن كل القوى ترفض الجلوس معه، لكن البعض رأى أن ارتباك دعوة الحوار الوطنى والمجتمعى وما تلاه من محاولات للنفى والتأكيد كان سبب الإرجاء، فالسيسى دعا بالفعل للحوار، وأكد ذلك المتحدث الرسمى للقوات المسلحة الذى يعتبر صوت المؤسسة العسكرية ولا تخرج بياناته سوى بموافقة وزارة الدفاع.. وهو ما أربك مستشارى الرئاسة، حيث إن مرسى لم يبلغهم بشكل سريع أن هذه الدعوة هو نفسه موافق عليها.. ليخرج المستشارون والمتحدثون باسم الرئاسة- كل على هواه- كما هى العادة ليحاولوا النفى مرة والتأكيد مرة.
وفى هذا السياق، أكدت مصادر سيادية لنا أن القوات المسلحة سوف يكون لها دور بشكل أو بآخر خلال الفترة المقبلة، وهى فترة ليست بقصيرة لحين انتهاء انتخابات مجلس الشعب التى ستشهد أيضا توترات ربما تكون أشد من الاستفتاء على الدستور، ومن المقرر أن تشرف أيضا على تأمين تلك الانتخابات.
وحسب المشهد الذى ستعيشه مصر عقب هذه الانتخابات سيأتى قرار المؤسسة العسكرية بالاستمرار فى التواجد فى المشهد السياسى لمنع وقوع حرب أهلية، وهو أمر ليس بالمستبعد، أم ستعود إلى ثكناتها فعلاً فى حالة استكمال المؤسسات التشريعية للدولة بدون أية مشاكل.
اللواء نبيل فؤاد مساعد وزير الدفاع الأسبق يؤكد من جانبه أن رسائل المؤسسة العسكرية الأخيرة ووجودها فى المشهد السياسى تشدد على أنها ستقف فى صف الشعب وإرادته فقط دون أن تدين بالولاء لأى شخص يرفضه جموع المواطنين، وأن الجيش جزء من نسيج الوطن والشعب ولن يسمح بوقوع حرب أهلية تحول مصر إلى سوريا أو ليبيا وسوف تتصدر المشهد حتى تطمئن على سلامة الأمن الوطنى للبلد.