عاشت مصر الأيام الماضية حالة من التوتر الذى لم تشهده منذ اندلاع ثورة يناير، وأفصحت كل الأطراف عن مواقفها بصورة واضحة بعد أن خلع الجميع الأقنعة.. المجلس العسكرى بمجموعة الخطوات المتلاحقة «الضبطية القضائية لرجال الجيش والمخابرات ثم الإعلان الدستورى المكمل» كشف عن قراره وقناعته بضرورة الإمساك بالسلطة حتى فى ظل رئيس منتخب، والإخوان المسلمون كشفوا عن أنه لا بديل عن توليهم السلطة بأية صورة «بدءا من استباقهم لجنة الانتخابات بإعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية ثم الحشود المنتشرة فى ميدان التحرير مرورا بعدم اعترافهم بحكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب». أما قوى الثورة ورغم عدم قناعتها بأى من المرشحين «مرسى وشفيق» فإن بعضها ساند الإخوان فى «المعركة الأخيرة» ضد وجود المجلس العسكرى، وكثير منها يترقب ما ستسفر عنه الأحداث خاصة أنه لا أحد يعرف ما يدور فى الغرف المغلقة من ترتيبات اللحظة الأخيرة ولا أحد يعرف هل الصراع الحالى يحسمه القانون أم تحسمه «صفقات سياسية» يتم تطويع القانون لتنفيذها.. ولا أحد يعرف حتى متى يتم إعلان نتيجة الانتخابات فربما تعلن اليوم - السبت - أو غدا أو ربما تتأجل لنهاية الأسبوع.. كل شىء غامض ومضطرب والحقيقة الوحيدة أن ثورة يناير «السلمية» تنهى المرحلة الانتقالية وسط مؤشرات لعنف يتجاوز أى سلطة للقانون، فالأطراف كلها متأهبة والقانون يتراجع لصالح «حسابات القوة» التى تبدأ بتصريحات عنيفة وربما تنتج دماء على الأرض لو لم يتم التوافق على أن هناك قانوناً ومؤسسات فى هذا البلد!
جماعة الإخوان المسلمين تعيش حالة «هياج تاريخى» بعد أن اعتبرت أن مرسى قد فاز بالفعل ولا سبيل أمام اللجنة العليا للانتخابات سوى إعلان نفس الأرقام التى أعلنتها حملة مرشح الإخوان وبدأت فى الاحتفال فى ميدان التحرير ولم تتخل الجماعة للحظة عن غبائها السياسى المعتاد وتباعدت أكثر عن قوى الثورة، بعد أن حرص شباب الإخوان على رفع المصاحف فى ميدان التحرير هاتفين «الصحافة فين.. الدستور أهو».. إذن لا دستور ولا دولة مدنية ولا ديمقراطية فالجماعة تستخدم سياسة فرض الأمر الواقع ولديها من «القطعان السياسية» ما يجعل قادتها يروجون دائما لفكرة قدرة الجماعة على الحشد أكثر من أى فصيل آخر، فعلت الجماعة هذا وهى فى نفس الوقت تخوض معركة واضحة ضد المجلس العسكرى، وقد صدرت الأوامر من القيادات للقواعد باستخدام نفس شعارات شباب الثورة «يسقط حكم العسكر» فضلا عن الهجوم المباشر على المشير طنطاوى والفريق سامى عنان ولم تتذكر هذه القيادات أن الشعار الأشهر لدى شباب الثورة خلال الشهور الماضية كان «اتنين مالهمش أمان.. العسكر والإخوان» وتضغط الجماعة بشتى الطرق لتجاهل دورها المخزى فى الاتفاق مع المجلس العسكرى فى كل خطوات المسار الدستورى المرتبك منذ مارس ,2011 كما تضغط لتصوير مرسى باعتباره «مرشح الثورة» الذى يخوض معركة ضد شفيق والفلول وأيضا ضد الحكم العسكرى المستمر فى البلاد، وباستثناء حركة 6 أبريل فإن العديد من قوى الثورة لا تصدق الإخوان ولا تأمن جانبهم وتعرف من خبراتها معهم خلال العام ونصف العام الماضية أن الإخوان يكذبون بحكم العادة ويراوغون كما يتنفسون.. ويعتمد الإخوان سياسة «الفرصة الأخيرة» فإما إعلان فوز مرسى وعدم الاعتداد بحل مجلس الشعب واستمرار عمل الجمعية التأسيسية التى يرأسها حسام الغريانى وكذلك الإعلان الدستورى المكمل.. لابد من إلغائه.. أو إدخال البلاد فى نفق مظلم بدأ بتهديدات خيرت الشاطر عن «الثورة الدموية القادمة» ولا أحد يعرف نهايته خاصة أن حركة حماس مستعدة لبذل الغالى والرخيص فى صراع الإخوان من أجل انتزاع السلطة!
حملة المرشح أحمد شفيق ورغم ما يبدو أو تحاول إظهاره من احترامها للقانون وحرصها على انتظار النتائج الرسمية من اللجنة العليا للانتخابات إلا أنها بحكم تكوينها وجماعات المصالح المرتبطة بها، وطبيعة الفاعلية فيها «من قوى النظام السابق وشخصيات أمنية ورجال أعمال يخشون من المساءلة فى حال تغير النظام فعلا» مؤهلة هى الأخرى وبقوة لإدخال البلاد فى دوامات عنف، ولم تكن حوادث إطلاق النار التى تورط فيها بعض أنصار شفيق سوى بروفة لما يمكن أن يحدث فى حال إعلان فوز مرسى خاصة أن حملة شفيق تقدمت بطعون تؤكد حدوث تجاوزات ضخمة من حملة مرسى.
المجلس العسكرى من ناحيته يقف بهدوئه المعتاد ويراقب ويخطط، هو يعرف أن الإخوان فقدوا تعاطفهم مع القطاع الأوسع من الشارع المصرى، ويعرف أن الملايين التى ذهبت وصوتت لمرسى «باستثناء الإخوان» كانت تهدف لإسقاط شفيق أكثر من رغبتها فى إنجاح مرسى، كما أنه يتلاعب أيضا بشفيق الذى جمعه لقاء منذ أيام بعدد من أصدقائه كان فيه غاضبا بشدة وقال نصا «أنا اتبعت.. والإخوان مارسوا كل أنواع التزوير وشراء الأصوات» قبل أن يعاوده الأمل مع استمرار اللجنة العليا فى إطلاق التصريحات المؤكدة لأنه لا أحد يعرف نتيجة الانتخابات سوى اللجنة العليا فقط التى تجرى الفرز وتنظر فى الطعون.
خلال الساعات القليلة الماضية جرت لقاءات كثيرة بين قيادات إخوانية وبين المجلس العسكرى بهدف قبول الجماعة بمجىء مرسى بصلاحيات لا تمكنه من فعل شىء، لأنه سيكون تائها بين سطور الإعلان الدستورى المكمل قبل أن يتخذ أى قرار وهو ما رفضه الإخوان معتمدين على تواجد قوى وغاضب فى الشارع، لكن عددا من الشائعات «أو الأخبار» جرى إطلاقها بكثافة ربما تساهم فى رضوخ الإخوان كالعادة لمطالب المجلس، فقد تصاعد الحديث عن قرب فرض «حظر تجول» مع إعلان النتيجة وهو ما يعنى أن النتيجة ستكون لصالح شفيق، هذا فضلا عن كثافة نشر أخبار عن ضبط شبكات «تخريبية» وضبط كميات هائلة من الأسلحة والمعدات الثقيلة، الأمر الذى يجعل أى إجراء استثنائى مقبولا من الرأى العام!
فى مثل هذه الحالة المعقدة وغير المسبوقة يبدو من جديد الدكتور محمد البرادعى هو الحل وهو المنقذ.. نعم على الجميع تبنى الطرح الذى أبداه البرادعى منذ عدة شهور بأن يكون الرئيس القادم لمصر «رئيسا مؤقتا» لمدة عام واحد فقط يجرى خلال هذا العام إعداد دستور يعبر عن كل طوائف المجتمع، بتمهل ودراسة بعيدة عن اللهوجة والرغبة فى الاستحواذ التى تم بها عمل اللجنة الأولى الملغاة أو اللجنة الثانية التى هى فى طريقها للإلغاء، ثم تجرى انتخابات برلمانية جديدة تفرز فيها مصر برلماناً يكون قد استفاد من التجربة المريرة للبرلمان المنحل الذى مارس فيه الإسلاميون جميع أنواع التهريج والصغائر، الأهم مما سبق أن إدراك الجميع أن الرئيس الذى سيعلن فوزه لن يستمر أكثر من عام سيهدئ مخاوف الجميع من «دولة الإخوان» القادمة أو من عودة نظام مبارك على طريقة أحمد شفيق.. يحتاج هذا الخيار إلى إعلان دستورى مكمل جديد ورغم صعوبة ذلك، فإن ذلك هو الحل الوحيد منعا للأطراف «المتحاربة» من بدء عمليات انفلات واسعة وتهديد لمنشآت الدولة.. المجلس العسكرى الذى صنع «معجزات دستورية» لم تعرفها دولة بعد ثورة من قبل لديه فرصة تاريخية لتصحيح المسار المنفلت وتخفيف حالة الاحتقان المنذرة بكوارث لا يعلم مداها إلا الفلول والإخوان صانعو مسار الفوضى والثورة المضادة.. الأغلب أن المجلس لن يفعل ذلك وستشهد الأيام المقبلة مفاجآت لا يتوقعها أحد لكننا قلنا ما لدينا.. قبل الانفجار الكبير!