شاهدتهم كما لو كنت لم أشاهدهم من قبل ، هؤلاء الأبطال الذين سُجنوا تحت الأرض حوالى ثلاثة أشهر، عمال منجم « شيلى» شاهدتهم وهم يتوجهون إلى الطائرة إلى « لوس أنجلوس» إلى معقل الأفلام السينمائية العالمية بمصاحبة المخرج الذى سيخرج فيلما عن قصتهم المشوقة.. شاهدتهم كما لو كنت لم أشاهدهم من قبل خلال المحطة التليفزيونية الإخبارية الأمريكية وهى تزفهم إلى فرحهم فى تمثيل فيلم.. وقد كنت شاهدتهم خلالها أيضا عندما أرسلت طاقم مصوريها ومذيعيها إلى تلك المنطقة من « شيلى» فى أمريكا الجنوبية قبل فجر ذلك الصباح إلى نهاية ذلك اليوم.. وقد تركت كاميراتها مفتوحة ومذيعين أفواههم مفتوحة بشرح ما يشاهدونه وكيف حدث ذلك العمل الضخم.. تحدثوا مع منقذيهم من علماء وعمال فى المكان.. ومع رئيس دولة شيلى.. ومع زوجاتهم وعشيقاتهم.. نقلوا للعالم ترقباتهم جميعا.. مشاعر إنسانية كثيرة. أزواج وزوجات وعشيقات فى صباح ذلك اليوم.. الفجر فى موقع الحدث عندما كنت أشاهد تلك العملية المثيرة لإنقاذ هؤلاء الرجال المحبوسين فى المنجم منذ حوالى ثلاثة أشهر على بعد عميق من سطح الأرض ، كانت تحتبس أنفاسى إلى أن يخرج الواحد بعد الآخر بطريقة مدهشة شرحتها كل وسائل الإعلام فى العالم.. كلما خرج الواحد بعد الآخر التقط أنفاسى - أفرح أعتقد أن كثيرين فى العالم كان لديهم هذا الشعور بالفرح وهم يشاهدون.. كثيرون فى العالم كان لديهم الشعور بالاختناق لأسباب شخصية عاطفية عائلية عملية - سياسية اجتماعية.. كثيرون شعروا كما شعرت أننا نخرج من اللّج.. وهو ما يعنى معظم الماء فى البحر حيث لا يُدرك القاع.. نتنفس بفرح كأن كل من كان يشاهد يشعر أنه خرج من لُجّته الشخصية.. أو.. أن المعجزة يمكن أن تتحول إلى حقيقة. لم أتمالك من جمح خيالى الروائى ماذا سيكون هذا الفيلم ؟!.. بجانب تلك الواقعة التى حدثت لهم فكل واحد منهم له حكاية ، ولحظات يائسة ووعود صادقة إذا نجا من محنته.. فقد قرأنا بعد أيام من إنقاذهم عن العشيقة التى ابتعدت أو الزوج الذى ابتعد عنها.. وعن الزوجة التى سامحت ، وعن الذى تزوج من التى كان يراوغها.. وعن الذى تزوج من زوجته مرة أخرى فى الكنيسة بعد أن كان زواجهما مدنيا لسنين.. ومن أعاد رباط زواجه فى حفل.. والزوجة التى تقبلت العشيقة وصادقتها.. المهم أن رجلهما.. عاش! قرأنا عن المكافآت المالية التى دفعوها لهؤلاء العمال من دول كثيرة غير دولتهم.. أصبحوا أغنياء بعد أن ذاقوا مرارة الفقر على الأقل فى أيامهم البعيدة.. لقد تناول كُتّاب القصة والرواية فى « الشيلى» قصصا كثيرة عن عمال المناجم هناك وعن حياتهم الصعبة وفقرهم. وقد كتبت الكاتبة الشيلية « أماليا ونديك» قصة عن هؤلاء العمال ، ولأنها تعتبر واحدة من أهم كاتبات الأطفال فى شيلى فقد كانت قصتها عن طفل لعامل من هؤلاء الفقراء ، ترجمتها إلى اللغة العربية الأستاذة «إيزابيل كمال» ضمن مجموعة قصص لكاتبات من أمريكا اللاتينية والقصة تحت عنوان : « طفل و... كلب و..لَيل» تفرقت مجموعة عمال المناجم فى آخر اليوم فى طرقات معسكر العمال ، صامتين لصعوبة التقاطهم أنفاسهم بسبب سوء التهوية طوال اليوم. اتجه العامل « جون لابرا» إلى المنزل الذى يسكنه وسرعان ما تلاشى الامتعاض من وجهه عندما وجد ابنه « جون الصغير» فى انتظاره عند باب الحديقة كما يفعل كل مساء وهو ولد فى التاسعة من عمره ذكى يعرف كل شىء عن المنجم ، فهو طفل ثرثار ، لمّاح.. راقب الطفل رجلا طويلا من أمريكا الشمالية يسير خلف والده وبصحبة كلب صيد ضخم عُرف فى المكان باسم « بلاك» تبعا للون الأسود اللامع وكان الرفيق الوحيد للرجل الشمالى فى عزلته على أرض غريبة.. همس الطفل لوالده عن الرجل فتعجب عامل المنجم لرؤية أحد أصحاب الشركة التى يعمل بها يتبعه.. دعاه ليدخل بيته المتواضع ، وإذا كان يريد أى خدمة منه.. قال السيد الشمالى بإيجاز إنه يحتاج إلى مساعدة كبيرة لأنه مضطر إلى السفر فى الحال لبضعة أيام ويريد أن يترك عنده صديقه العزيز الكلب « بلاك» ليرعاه فهو يعرف أنه سيكون عطوفا معه لأنه قد نظم جمعية الرفق بالحيوان فى بلدته والجميع يعرف هذا.. طمأنه العامل الذى شعر بالرضا لثقة السيد الشمالى به وأنه سيعتنى به وفى غيابه سيقوم بالمهمة ابنه الصغير جون ، شكر السيد العامل وترك مؤونة من اللحم المحفوظ للكلب ، وبدا الحزن عليه ، وعلى كلبه الذى شده من بنطلونه فربت على رأسه وسار.. تبعه الكلب وهو ينبح لكن ذراعى جون الصغير أحاطه ، وأغلق الولد باب الحديقة. ظل الكلب واقفا تبدو عليه الحيرة والدهشة.. وظل الولد يراقبه ولم يفهم أن فراءه اللامع ورشاقته واحتماله الرزين علامات على أصالة سلالته ، فهو كلب ثمين.. بدأ الولد يكلم الكلب كأنه أخوه الأصغر ، راقب كل منهم الآخر لفترة حتى هدأت نظرات الكلب فربت الولد عليه ، وأخيرا استجاب له بتحريك ذيله ، واستمر جون الصغير فى حديثه الغريب للكلب من طرف واحد.. خلال الأيام القليلة التالية أصبحا مغرمين ببعضهما ذهبا معا إلى كل مكان جريا معا فى طريق طويل، لعبا معا، غاصا فى حفر مخلفات النحاس الأحمر.. كانا يقضيان الساعات فى هذا اللعب حتى يحل الليل.. صارا صديقين.. لكن الولد قلق فصاحبه سيأتى ليأخذه. سأل والده إذا كان يستطيع أن يطلب من السيد أن يعطيه الكلب !... سأله لماذا لا تشتريه ! أجابه عامل المنجم بابتسامة مريرة.. إن الكلب لن يكون لهم ، فهو كلب يوازى وزنه ذهبا.. إنه كلب الرجال الأثرياء ، قال الولد لأبيه إنه عندما يكبر سيشتريه ! ثم صاح غاضبا لا أريدهم أن يبعدوه عنى فهو صديقى!.. حان الوقت للجميع أن يصيروا أخوة وجاء اليوم الذى كان يخشاه الولد عاد السيد الشمالى من سفره ليأخذ كلبه. لم يستطع الولد أن يشرح للرجل ماذا يعنى الكلب له ، وقفت الكلمات فى حلقه الجاف. وتمتم باكيا وهو يودع الكلب ، ويربت عليه.. وداعا يا صديقى الصغير وحظا سعيدا.. شكره السيد بإخلاص ، ورفض الطفل أن يأخذ منه أى مقابل.. وسار الكلب مترددا خلف سيده الشمالى إلى المخيم الأمريكى.. لكن مع حلول وحشة الليل عندما تتأمل الأرواح نفسها فى أقصى حالات انكساراتها بالحياة ويبدو كل شىء سدى.. بدأ جون الصغير يبكى ، وشىء غامض آثار اتصالاً بين الولد والحيوان عبر الفضاء ، وفى نفس اللحظة بدأ الكلب فى المعسكر الأمريكى ينبح بهياج ثم بحزن وكان الولد يبكى فى أنين.. تحير السيد الشمالى فى سلوك كلبه ماذا يفعل رجل حيال كلب يبكى ؟!.. استوعب عقله حقيقة أن الكلب لم يعد يخصه بعد الآن. لقد فقد حبه.. وفى معسكر العمال لم يستطع الأب أن يهدئ ابنه الصغير المحموم بالبكاء ، فماذا يفعل رجل حيال طفل يبكى ؟!.. وكيف يستعيد ابتسامته الفرحة. وخزه الإحساس بالفقر لكنه لن يستطيع تحمل حزن ابنه ، شىء ما غير عادى لابد أن يحدث فى مدينة التعدين فى هذه الليلة العصيبة ، كأنه قد حان الوقت للجميع أن يصيروا أخوة... ريشة محسن رفعت حمل عامل المنجم مصباحه ، وسار إلى معسكر الأسياد ليرى إذا ما كانت ثمة معجزة قد تتحول إلى حقيقة ، لابد أن يكون شجاعا هو هذا العامل الخجول يطلب الكلب الممتاز من أحد أصحاب الشركة !! ارتعد من تفكيره ومع ذلك صعد إلى مخيم الأمريكى.. فى نفس الوقت خرج السيد الشمالى بصحبة كلبه بلاك متوجها إلى معسكر العمال.. التقى الرجلان والكلب فى منتصف الطريق. شىء ما لمس قلب الرجلين. لم تكن الكلمات ذات أهمية.. تمتم السيد بكلمات وهو يضع مقود بلاك المعدنى فى يدى العامل : « لم يعد يخصنى بعد الآن».. أخذ العامل الحيوان بين يديه المرتجفتين وسعادة شجية تدفئ ابتسامته.. لم يكن من داع للإسهاب فى الشكر ، فقط نوع من الفهم المتبادل الصامت.. شده الكلب بلاك دافعا ليواصل سيره نحو المعسكر الذى به صديقه جون الصغير.. فى لحظة المعجزة هذه.. لطّف الليل فى البلدة دفئاً جديداً.