أشعر بالفراغ.. بالوحدة.. لا شىء أفكر فيه.. أريد أن أقتل الوقت.. لا أعرف ماذا أريد من الحياة.. كل ما أشعر به فى الحياة هو إننى «عايشه حياة فاضية». هذا ما تردده فتيات كثيرات وخاصة إن كن يعانين من الفراغ العاطفى وعدم وجود علاقة وارتباط بينهن وبين شاب ما.. هنا قد يتضخم شعورها بالفراغ.. ويصبح الفراغ أزمة حياتها. الفراغ.. بالفعل أزمة حقيقية لمن لا يستطيع إيجاد معان يملأ بها قلبه وعقله. الفراغ يملأ قلوب فتيات كثيرات منهن استطعن فهم أسبابه والبعض الآخر يشعرن بالفراغ ويدرن فى حلقة مفرغة. كانت «أسماء» مثالاً واضحاً لهذا.. فهى تدرس فى السنة النهائية فى كلية الطب.. ولا تجد الوقت الكافى للانتهاء من المذاكرة، ورغم هذا فإنها تشعر بفراغ قالت عنه: «الفراغ إللى جوايا بيوجعنى» حاسة إنى مش عارفه أعمل حاجة فى حياتى، وحتى المذاكرة شىء إجبارى وليس اختيارياً.. وهذا الإجبار يشعرنى أننى غير قادرة على تحديد ما أريده فى الحياة.. حتى فى أوقات الإجازة وفى حالة عدم وجود مذاكرة وامتحانات ومحاضرات فإن هذا الشعور يظل معى أيضاً. وهو أننى فارغة وموجوعة من داخلى هل لأننى أعيش فى دائرة مغلقة، وهل لأننى أنتمى إلى أسرة محافظة للغاية، وغير مطروح لدينا فى الأسرة أن تكون لى صداقات أو أتمكن من الخروج والسفر إلا فى نطاق عائلى. مهما قضيت وقتاً فى القراءة أو مشاهدة التليفزيون أو فى أعمال المنزل.. أشعر بالفراغ وكل ما أجده أن الوقت يقتل ويمر.. ولكن يظل الفراغ أيضاً موجوداً ولا يقتل.. ماذا أفعل.. هل لن يقضى على هذا الفراغ إلا إذا تزوجت أو تمت خطبتى؟! أم أن الحل الوحيد هو أن أغرق نفسى فى العمل وأنخرط فيه حتى أقتل الوقت؟! لقد لفتت هذه الرسالة انتباهى الشديد لأنها بالفعل تترجم مشاعر فتيات كثيرات، وليست أسماء وحدها «كاتبة الرسالة» إنهن يحاولن البحث عن مساحة من العمل أو الصداقة أو العلاقات العاطفية تقتل الوقت والفراغ.. ولكن الفراغ أزمته أكبر.. فالأزمة ليست فى المؤثرات الخارجية التى قد تساعدنا على ملء الفراغ وإن كنت لا أخفى أهمية الصداقة والعلاقة العاطفية والعمل فى حياة أية فتاة.. لكن الفراغ الأكبر هو فراغ النفس والعقل، فراغ الثقة بالذات، فراغ الأفكار. ما جعلنى أقول هذا هو ما ذكرته أسماء «طالبة الطب» عن أنها تشعر بالفراغ مهما حاولت قتل الوقت، وذكرت أيضاً بين سطورها جملة: «الفراغ الموجود بداخلى بيوجعنى». واعتقد أن أسماء بمنتهى الذكاء وضعت يدها على المشكلة الحقيقية وهى أنها «موجوعة» وربما تكون غاضبة من شىء ما يجعلها غير راضية عما تفعله أو تنجزه، حتى وصولها للسنة النهائية بكلية الطب شىء لا يشعرها بالإنجاز، فهى مخنوقة من المذاكرة ولا تتحدث عن أنها وبعد شهور قليلة ستكون طبيبة متخرجة فى كلية الطب. تتحدث عن انغلاق أسرتها وعدم وجود صداقات وهو مبرر قوى بلا شك لشعورها بالفراغ، ولكن وجع الفراغ الأكبر الذى تشعر به أسماء أنها لا تشعر «بوجودها» الحقيقى، أن هناك فجوة وفراغاً بينها وبين ذاتها، فهى لا تستطيع أن ترتكز على أرض صلبة، ربما لم تحك أسماء عن تفاصيل كثيرة فى حياتها تدلنا على أسباب هذا الفراغ الموجع. طرحت أسماء بعض التساؤلات مثل: هل لو ارتبطت أو تزوجت سأشفى من هذا الفراغ؟ لو انخرطت فى العمل وأغرقت نفسى فيه سأخرج من هذا المأزق. وهنا الأمر الأخطر.. حيث إن أسماء تتحدث عن الزواج أو العمل باعتبار أنها وسائل لقتل وقت الفراغ، وليس لأنها مشروعات فى الحياة علينا أن نخطط لها جيداً ولا نتعامل معها بشكل بسيط وسطحى، وإن كنت أتفق مع أسماء فى أن العمل ضرورى لا لقتل الفراغ ولكن لاكتشاف ذاتها، ولفهم الناس أكثر ولاكتشاف الحياة من وجهة نظر أخرى، العمل يجعلنا نشاهد الصورة مكبرة، فالتعامل اليومى مع تفاصيل الحياة والعمل تجعلنا قادرين على بناء شخصياتنا وفهم معان كثيرة فى الحياة منها الفضائل والرذائل، العمل يجعلنا قادرين على تحديد المسار واختيار ما نريد أن نكونه. العمل وسيلة لفهم جزء ما من الحياة ومن الناس والفرق كبير بين أن نغرق أنفسنا فى العمل ونحن ندور حول فلك ذواتنا، وبين أن ننخرط فى العمل لنفهم أنفسنا والآخرين. وهذا ما أريد أن أقوله لك عزيزتى أسماء: لا تعيشى الحياة وتفكرى فيها بشكل عام دون الخوض فى تفاصيل، فالفرق كبير بين أن تشاهدى غلاف كتاب وتحكمى عليه، وبين أن تقرئى الكتاب وتستمتعى به أو حتى ترفضينه، وكذلك على الأقل منحت نفسك فرصة المعرفة. المعرفة الحقيقية أو محاولة البحث عنها حل سحرى لقتل الفراغ لأن المعرفة تشحن الذات والمشاعر والعقل. المعرفة بالآخر.. تجعلك قادرة على ألا تكونى محور ذاتك وأن تخرجى إلى الدائرة الأوسع وهى الناس.. وعليك أن تفكرى فى أن الله ربما يكون قد منحك منحة رائعة وهى أن تكونى طبيبة قادرة على مقابلة الضعفاء والبسطاء المرضى والموهومين والراضين والغاضبين لأن المرض يكشف ويفضح أعماق طباعنا، فالله منحك التعرض لكل هذه الأنماط البشرية لتفهمى أكثر وتعرفى أكثر.. وبل منحك فرصة المساعدة، أن تكونى طوق نجاة أو ملاك رحمة يسكن آلامهم وأوجاعهم ومخاوفهم.. فاجعلى من فراغك.. رسالة تشحنين بها ذاتك.. وإذا علمت أن هناك الكثيرين فى الحياة يحتاجون إليك وربما إلى مساعدتك أعتقد أن هذا الفراغ سيتحول إلى طاقة عطاء رائعة. فلا تضيعى على نفسك هذه المنحة.. وتخلى عن وجعك وفراغك.. لأنه طاقة نريد أن تجد مكانها الصحيح... وستجدينه.