الناس نوعان، ناس تختشى، وناس لا تعرف أن (تختشى)!! وإللى اختشوا ماتوا، أما الذين لم يختشوا فهم الذين يملأون الدنيا حولنا صياحا وصخبا وكذبا وزيفا ونفاقا وموالسة ! الذين اختشوا وماتوا قالوا كلمتهم فى هدوء، وفى الوقت الصحيح ولم ينتظروا انتهاء المباراة حتى يصولوا ويجولوا على الصفحات والفضائيات ببطولات لم تحدث، وممانعات غير موجودة، وانتصارات وهمية اخترعوها ثم صدقوها !! هات أى جريدة أو مجلة، طالع أى فضائية واستمع إلى أكاذيبهم وأوهامهم وعنترياتهم التى ما قتلت ذبابة فاسدة أو بعوضة أو نملة !! خلعوا برقع الحياء وراحوا يكذبون ويزورون ويتوهمون أنهم كافحوا وناضلوا زمن حكم (مبارك) بالكلمة والمقال والحوار والقصة والفيلم والمسرحية بل والنكتة !! أما الذين قاوموا وناضلوا وعارضوا بصدق وكبرياء فى الوقت الأصلى - وليس بعد انتهاء المباراة أو المسرحية - فقد قالوا كلمتهم ورحلوا دون زيطة أو زمبليطة أو شغل أراجوزات !! وتنطيط بين الفضائيات أو المجلات دون حياء أو خجل !! أقول ذلك وفى بالى وعقلى ومشاعرى الفنان العظيم جبرتى مصر المعاصر بالرسم والريشة والكاريكاتير (حجازى). حجازى واحد من هؤلاء النبلاء الذين عارضوا لوجه الله والوطن والناس، وعندما كانت أغلب الرسوم تطبطب وتدلع النظام ورموزه كانت رسوم (حجازى) شوكة فى حلق النظام ورموزه. ولعل الرسوم الكاريكاتيرية المصاحبة لهذا المقال هى دليلى على ما أقول والله وحده على ما أقول شهيد!! هذه الرسوم المقاتلة جاءت فى كتاب وثائقى مهم عنوانه (لهذا نعارض مبارك) فى صدر كتاب الأهالى رقم 16 بمثابة عدد خاص بمناسبة الاستفتاء على ترشيح (مبارك) للرئاسة. وكان ذلك فى خريف عام 1987. وللتاريخ وحتى لا ننسى أو يتناسى أراجوزات هذه الأيام فقد ساهم فى هذا الكتاب بمقالاتهم ورؤيتهم الأساتذة : خالد محيى الدين، إبراهيم العيسوى، إبراهيم سعد الدين، إسماعيل صبرى عبدالله، أمينة النقاش، حسن نافعة، حسين عبدالرازق، حسين عبد ربه، رفعت السعيد، سعيد إسماعيل على، شوقى عطية، صلاح عبدالمجيد، صلاح عيسى، عبدالحميد حشيش، عبدالعزيز محمد، عبدالعظيم أنيس، عبدالغفار شكر، عثمان محمد عثمان، عصمت سيف الدولة، فتحى رضوان، فريدة النقاش، فؤاد مرسى، فيليب جلاب، لطفى واكد، محمد سيد أحمد، محمد عودة، محمود عبدالفضيل، نجاح عمر، نعمان جمعة، وحيد رأفت. أما رسوم وكاريكاتير الكتاب (512 صفحة) فهى من إبداع : بهجت، حجازى، اللباد، رؤوف، جمعة. من عناوين الكتاب مثلا : مبارك عند مفترق الطرق، رئيس الجمهورية ومسئوليته فى مواجهة التعذيب، سيادتنا يا سيادة الرئيس، حتى يكون رئيسا للمصريين، سياسة الفراولة والخيار فى خطاب الرئيس، لسنا عبيد إحساناتكم، حتى يرشح الرئيس مجلس انتخبه الشعب لا البلطجية والمزورون، قرار جمهورى بالتزوير، كدا بين الزفة، هوجة مبايعة الرئيس حسنى مبارك،...........و....و... كانت ورسوم حجازى البسيطة والعميقة، واضحة وقاطعة وحاسمة، فمثلا على غلاف الكتاب الأخير يمسك مواطن بصحيفة، والمواطن الآخر يقول له وهو يضع يده فى جيبه : يعنى مجلس الشعب يرشح لرئاسة الجمهورية حسنى مبارك وحسنى مبارك وحسنى مبارك، وإحنا ننتخب واحد منهم !! وكاريكاتير آخر لا يقل بلاغة ويرسم فيه حجازى المواطن الغلبان وزوجته وبجوارهما راديو تنطلق منه كلمات نبايع، نؤيد، نرشح !! والمواطن يقول لزوجته : إذا كان حسنى مبارك ناجح ناجح، إيه لازمة الزيطة والزمبليطة !! وهكذا دون لف أو دوران قال (حجازى) كلمته ومضى ! لم نضبط (حجازى) يوما - نحن تلاميذه وأصدقاءه فى صباح الخير أو روزاليوسف - متلبسا بالكلام عن بطولات وشجاعة وجرأة ! لم يتحدث يوما لدقائق فى الراديو، ولم يشاهده أحد قط لثوان فى التليفزيون وطوال حياته ومشواره المهنى ربما لم ينشر له إلا بضعة حوارات صحفية قليلة ونادرة (ربما كان أهمها على الإطلاق حواره الممتع مع الأستاذ الدكتور عمرو عبدالسميع). ولم ينشغل أو يشغل نفسه بمكانه أو مكانته فى عالم الكاريكاتير، لم ينشغل بتقييم التاريخ له. (حجازى) طراز مختلف من البشر، ينطبق عليه ما قاله لى ذات يوم الكاتب الكبير مايسترو الصحافة المصرية الأستاذ (صلاح حافظ): «لا تشغل نفسك بالتاريخ، قل ما تؤمن به، وعبر عما فى داخلك، تشارك دون أن تدرى فى صنع التاريخ»! صح.. أكبر صح يا أستاذ (صلاح)! ولعل من أكثر كلمات الأستاذ (حجازى) تلخيصا لأحوال النخبة هذه الأيام - النخبة التى لا تستحى أو تختشى - وهو ما جاء على لسانه فى حواره للزميل العزيز (محمود صالح) على صفحات نص الدنيا - زمن الرائعة الصادقة الأستاذة سناء البيسى - سأل (محمود صالح) : وما الجديد الذى تلاحظه على حركة المثقفين الآن؟! (كان ذلك فى خريف عام 2003) وأجاب (حجازى) بالحرف الواحد بتلك الإجابة الصادقة: الجديد الآن هو بروز طبقة جديدة من المثقفين والصحفيين والكتاب الأذكياء، طائفة تشبه السحرة، تعطى للناس ما تريده من كلمات فتكسب حب الجماهير التى لا تعلم شيئا، لكنها فى الوقت نفسه مع ذهب السلطة حتى آخر مدى، غارقة فيه ومستمتعة به، وهى مواقف جديدة أوجدت وضعا مرتبكا للغاية أمام الناس الذين لا يستطيعون فى كثير من الأوقات التمييز بين المواقف والكلمات إلا بعد فترة تحدث فيها أشياء كثيرة، ومع الأسف فهذه الطائفة من المثقفين الأذكياء فى تزايد ونمو ونشاط يدعو للإعجاب.