من سوء حظ ثورة 23 يوليو 1952 أن التف حولها مجموعة من أساطين الفقه والقانون والدستور راحوا فى صبر ودأب وزن على الودان يقنعون هؤلاء الثوار الشبان بفكرة أو نظرية مؤداها أن البلد فى وضع ثورى وبحاجة إلى خطوات ثورية وإلى فقه ثورى. كان على رأس هؤلاء الدكتور سيد صبرى أستاذ القانون الدستورى والذى بدأ فى الترويج لهذه النظرية بعد أسبوع واحد بالضبط من قيام الثورة!! وبالتحديد ابتداءً من يوم 31 يوليو 1952 عندما بدأ ينشر فى صحيفة الأهرام سلسلة مقالات تحت عنوان «الفقه الثورى». ومن الغريب والعجيب أن صدر قرار بفصل «د.سيد صبرى» من الجامعة عام 1955 وكان من أسباب فصله كما قيل ونشر وقتها أنه نشر أنباء وأخباراً غير صحيحة عن مجلس قيادة الثورة. وباسم الفقه الثورى وتحت رعايته وعنايته دعت الثورة كل الأحزاب وعلى رأسها «الوفد» إلى تطهير نفسها وتسليم قياداتها لأيد أمينة صالحة. وعندما سئل اللواء محمد نجيب يوم 9 أغسطس عما سيتخذه فى حالة عدم قيام الأحزاب بتطهير نفسها كما يجب قال بالحرف الواحد: نطهرها بالقوة وكفى البلاد ما عانت من فساد عم أرجاءها؟! وسأله مندوب صحيفة الأهرام عما سيحدث بعد فصل الأعضاء الفاسدين وهلى سيكتفى بذلك؟ أجاب اللواء محمد نجيب بكل حسم وحزم الخطوة التالية هى التحقيق مع هؤلاء المفسدين ومحاكمتهم. وكانت الخطوة الأكثر خطورة فى 13 نوفمبر 1952 عندما أصدرت الثورة مرسوماً بقانون يفيد بأن إجراءات القيادة لا تخضع للمحاكم باعتبارها من أعمال السيادة وذلك بهدف حماية «الحركة» أى الثورة والنظام القائم عليها. وبعد أقل من شهر فى 10 ديسمبر 1952 يعلن اللواء نجيب باسم الشعب ودستور سنة 1923 ثم يصدر بعد ذلك فى 22 ديسمبر 1952 مرسوماً بقانون بمحاكمة المسئولين عن جرائم الغدر واستغلال النفوذ من الموظفين العموميين وأعضاء البرلمان أو كل شخص كان مكلفا بخدمة عامة أو كانت له صفة نيابية وارتكب بعد أول سبتمبر سنة 1939 جريمة من جرائم الغدر.! وقد اختير هذا التاريخ نظرا إلى أنه يوم بدء الحرب العالمية الثانية وماصاحبها من تدهور فى الأخلاق وانتهاز للفرص للإثراء بطريق غير مشروع على حساب المصلحة العامة. وهكذا أصدر المرسوم بقانون 344 لسنة 1952 فى شأن جريمة الغدر واللافت للنظر أنه صدر «باسم ملك مصر والسوادن وصى العرش المؤقت» وصدر بقصر عابدين. جاء المرسوم فى ثمانى مواد كان من أعجبها المادة السادسة ونصها «لا يجوز الطعن فى الحكم الصادر فى الدعوى بأى طريق من طرق الطعن العادية أو غير العادية». أما المادة الخامسة فما يلفت الانتباه فيها قولها «إذا لم يحضر المدعى عليه رغم تكليفه بالحضور ولم يرسل محاميا ينوب عنه تنظر المحكمة الدعوى وتنظر فيها فى غيبته. وهكذا بدأت رحلة الفقه الثورى والذى كان من أبرز ملامحها محاكمات الغدر والثورة والشعب. لقد اعترف الأستاذ الكبير «أحمد حمروش» وكان من الضباط الأحرار بأن محكمة الثورة كانت موجهة أساسا ضد الوفد وبقايا الأحزاب والتنظيمات السياسية فقد حوكم من الوفد كل الأعضاء الذين لم يبلغوا الخامسة والستين وكانت محاكمة «فؤاد سراج الدين» هى أطول محاكمة إذ استمرت 45 جلسة طرحت فيها مختلف القضايا ويضيف: المتهمون كانوا يواجهون المحكمة بلا تحقيق ويوجه الادعاء التهمة إليهم كنوع من المفاجأة. ولعل الأغرب هو ماجاء فى كلمة الصاغ صلاح سالم فى المؤتمر الشعبى مساء 16 سبتمبر 1952 عندما قال: أحب أن أقول لكم إنه لم يحدث فى تاريخ ثورة من الثورات أن احتكمت للقضاء العادى فى أمور حياتها فللقوانين العادية قيودها وحدودها ولا يمكن لقضاتها أن يتعدوا هذه القيود والحدود لأنها شرعت لظروف الحياة الطبيعية وأننى أجزم بأن فاروق بكل ما فعله فى حق هذه البلاد لو قدر له أن يقدم إلى أى قضاء عادى لتعذر فى كثير من الجرائم التى نلمسها ونعيش فيها أن تثبت عليه. ومضى صلاح سالم يقول: لذلك أعلن باسم مجلس الثورة تشكيل محكمة الثورة من بعض رجال مجلس الثورة وستنظر هذه المحكمة فورا فيما يقدم إليها من متهمين بالعمل ضد مصلحة البلاد وضد كيان الثورة. وتشكلت محكمة الثورة برئاسة قائد الجناح «عبد اللطيف البغدادى» وعضوية البكباشى «أنور السادات» وقائد الأسراب «حسين إبراهيم». وهكذا راحت «مصر» كلها تتابع هذه المحاكمات والتى كانت صحف ذلك الوقت تتوسع فى نشرها بالصفحات والحقيقة أن ما جرى فى تلك المحاكمات كان مدهشا وعجيبا كانت الدراما حاضرة والكوميديا أيضا كانت هناك ابتسامات ودموع، لحظات ألم ومواقف ندم. ومن حسن الحظ أن كل هذه المحاكمات عدا محاكمة فؤاد سراج الدين باشا وجدت طريقها إلى النشر فى سلسلة من الكتب أصدرتها وزارة الإرشاد القومى «الإدارة العامة للاستعلامات» فى عدة أجزاء مصحوبة بصور للمحاكمات وأيضا بمقدمة لكل كتاب كتبها مشاهير تلك الفترة. إن القراءة المتأنية لهذه المحاكمات وما جرى فيها إنما تكاد تكون وثيقة تاريخية تكشف كواليس ودهاليز حكم مصر طوال نصف القرن وحتى قيام الثورة. صدرت هذه السلسلة تحت عنوان «محاكمات الثورة» إعداد كمال عبدالحميد كيرة رئيس مكتب شئون محكمة الثورة. ولا أحد يستطيع القطع بأن كتابات هذه الرموز الوطنية والفكرية عن محاكمات الثورة كانت عن قناعة وإيمان بها أم نفاق وموالسة لها!! كان من هؤلاء على سبيل المثال المؤرخ الكبير الأستاذ «عبد الرحمن الرافعى» الذى كتب تحت عنوان «فلسفة محاكمات الثورة» يقول: إذا كانت وقائع الثورة وحوادثها هى المادة الأساسية فى تاريخها فإن محاكماتها وقضاياها لا تقل عنها فى هذا الصدد شأنا. وثورتنا هى التى شبت فى 23 يوليو سنة 1952 ليست وليدة هذا اليوم فحسب بل هى نتيجة لأسباب ومقدمات تكونت وتفاعلت فى عدة أعوام خلت وكثير منها أو بعضها كان محجوبا عن الأنظار أو محاطا بالغموض والإبهام فجاءت محاكمات الثورة وأزاحت الستار عن كثير من الأسرار التى تلقى الضوء لا على الثورة فحسب بل على تاريخنا القومى فى الثلاثين سنة الماضية. ومضى الرافعى يقول لقد أتاح القضاة للمواطنين أن يحيطوا بشتى الوقائع والأحداث الماضية على لسان من اشتركوا فيها أو عاصروها وذلك بما وجهوهم إلى الإفضاء بمعلوماتهم وأفسحوا صدورهم للشهود والمتهمين فى الإدلاء بأقوالهم فأضاف قضاة الثورة إلى التاريخ القومى مجموعة حية من تسجيلات شهود العيان. ثم يقول: ومن الحق فى مجال المقارنة بين محاكمات ثورتنا الحاضرة والثورات الأخرى فى مختلف العصور والبلدان أن نشير إلى أن محكمة الثورة فى مصر قد أفسحت المجال إلى أوسع الحدود لأقوال المتهمين والشهود ونشرتها على الملأ فى إفاضة وإسهاب فى حين أن بعض قضايا الثورة فى البلدان الأخراى كانت تنظر ويفصل فيها فى ساعات وبعضها فى دقائق معدودات وبعضها فى عصرنا الحاضر كان يتم فى طى الخفاء خلف ستار حديدى يحجب عن الناس فى الداخل والخارج أسرار هذه المحاكمات. لقد ضمت القائمة الأولى لمحكمة الثورة ثلاثين متهما كان منهم «إبراهيم عبدالهادى باشا» رئيس الديوان الملكى ورئيس الوزراء السابق وأيضا فؤاد سراج الدين باشا وزينب هانم الوكيل حرم مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد، وضمت أيضا وزراء سابقين لكنها ضمت أيضا أسماء لم يسمع بها أحد على وجه الإطلاق ومنهم مثلا «أحمد محمد عوض» العامل بالجيش البريطانى والغريب أنه كان المتهم الثانى فى المحاكمة وقد تمت محاكمته فى نفس اليوم أول أكتوبر سنة 1953 بعد الحكم على إبراهيم عبدالهادى باشا بالإعدام شنقا ثم خفف فيما بعد إلى السجن المؤبد. لقد جرت وقائع تلك المحاكمة وحسب ما جاء فى كتاب محكمة الثورة «الجزء الأول» وعلى النحو التالى: الرئيس: عبداللطيف البغدادى»: فتحت الجلسة المتهم موجود؟ البكباشى سيد سيد جاد «المدعى»: موجود الرئيس: الشهود موجودون؟ الأستاذ أحمد موافى «وكيل النائب العام»: موجودون. الرئيس: اسم المتهم أحمد محمد عوض التهمة: أتى أفعالا تعتبر خيانة للوطن وضد سلامته فى الداخل والخارج وذلك أنه فى عضون عام 1952 وما قبله عمد من جانبه إلى تقديم تقارير وتبليغات إلى جهات أجنبية ضمنها معلومات وبيانات عن الهيئات والأفراد الذين يقومون بنشاط وطنى بقصد إحباط ذلك النشاط والإضرار بمصالح البلاد العليا. البكباشى سيد سيد جاد: الادعاء يلتمس من عدالة المحكمة نظر هذه القضية فى جلسة سرية لما يكتنفها من بعض تقارير وأسرار خاصة قد تمس سلامة الوطن والمصلحة العليا، والأمر مفوض للمحكمة! الرئيس - للمتهم- هل لك محامى؟ المتهم: لأ ماليش! الرئيس: هل حتدافع عن نفسك؟ المتهم: المحكمة تجيب لى محامى!! الرئيس: إجراءات المحكمة ما تسمحش لها إنها تجيب محامى يدافع عن المتهم. المتهم: أصل أنا ما أقدرش أجيب محامى علشان أنا فقير! الرئيس: آه طيب أقعد. وبعد مداولة قصيرة بين أعضاء هيئة المحكمة قال الرئيس «البغدادى»: قررت المحكمة أن تكون سرية بالنسبة للمتهم المقام عليه الادعاء المذكور وأن يقوم المتهم بالدفاع عن نفسه دون أن يحضر فيها المحامى والمدعى ولترفع الجلسة. ورفعت الجلسة فى الساعة العاشرة والدقيقة السابعة والثلاثين وبعد نظر القضية فى جلسة سرية أعيدت الجلسة علنية فى الساعة الواحدة والنصف مساء وتلا السيد الرئيس «البغدادى» الحكم الآتى نصه: حكمت المحكمة على المتهم «أحمد محمد عوض فى الادعاء المنسوب إليه بإعدامه شنقا» ولترفع الجلسة. وعندما عرض الحكم على مجلس قيادة الثورة فى 14 أكتوبر سنة 1953 صدق المجلس على الحكم وخففه ليكون كالآتى يخفف الحكم الصادر عليه بالإعدام شنقا إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وجاء الدور على فؤاد سراج الدين باشا أخطر رجال الوفد فى ذلك الوقت وصاحب الدور الوطنى الكبير عندما كان وزيرا للداخلية عندما تصدت قوات البوليس لقوات الاحتلال. فى ذكرياته التى سجلها برشاقة وبراعة الكاتب الزميل العزيز «عمنا محمد عبدالقدوس» روى هذه الطرائف التى حدثت أثناء محاكمته فقال: العجيب أن محكمة الثورة العسكرية تجاهلت كل مواقفى السياسية واتهمتنى بإفساد «فاروق» واستدلت على ذلك بأنه عندما كنت وزيرا للمالية سنة 1951 وقمت بصرف نصف مخصصاته الملكية مقدما وتقدر قيمة هذه المبالغ بخمسين ألف جنيه. وقلت فى دفاعى إن السكرتير الخاص للملك «حسين باشا حسنى» طلب منى هذا الأمر فاستغربت وقلت له: إننى أحب معرفة سبب هذا الطلب؟ فقال إنه غير مأذون له بذكر هذا السبب فقلت له: اطلب الملك الآن على التليفون واستأذن ففعل ما طلبته منه، وأخبرنى أن الملك سيتزوج من «ناريمان» قريبا وأنه يحتاج إلى هذا المبلغ لتجهيز مفروشات جديدة لملكة البلاد القادمة تحمل الحروف الأولى من اسمها مستوردة خصيصا من إيطاليا فالملكة ترفض أن تنام على مفروشات الزوجة السابقة!! وأخذ رئيس محكمة الثورة عبداللطيف البغدادى يناقشنى فيما قلته، فلما رأى أن تصرفى سليم سألنى سؤالا غريبا: لنفرض أن الملك فاروق مات قبل زواجه فمن الذى سيسدد هذا المبلغ؟! قلت له: لن تصاب الخزانة العامة بأى ضرر لأن أملاكه الخاصة واسعة تكفى سداد هذه الأموال بل وأضعافها أيضا،. فلن يضيع شىء على الدولة!! ويبدو أن بغدادى لم يقتنع بكلامى واستمر فى المجادلة فقلت له: لنفرض أن طباخك طلب سلفة من مرتبه مقدما شهرين أو ثلاثة بمناسبة زواجه هل ستصرف له ما يطلبه أم ترفض إننى احتكم إلى شرفك فى الإجابة عن هذا السؤال فرد رئيس المحكمة قائلا «سأصرف له المبلغ لكن ده طباخ وهو يختلف عن حالة الملك»! فقلت له ساخرا: فعلا ده ملك.. وده طباخ!! وكان «عبدالفتاح باشا الطويل» أحد أشهر رجال الوفد الذين قدموا للمحاكمة بتهمة الفساد، والذى وجه له الاتهام هو «سليمان حافظ باشا» وزير الداخلية وقت محاكمات الثورة وحسب مذكرات إبراهيم باشا فرج «الوزير الوفدى والمحامى الشهير «المذكرات إعداد الأستاذ حسين كروم» قوله: إن تهمة الفساد التى وجهها سليمان حافظ كانت بسبب الموسيقار كمال الطويل وهذا ابن أخ عبدالفتاح وكان يعمل مهندسا فى وزارة المواصلات فنقله عبدالفتاح من المواصلات إلى الإذاعة، كانت هذه هى الواقعة الخطيرة التى استند إليها سليمان حافظ فى اتهام عبدالفتاح الطويل بالفساد واعتبرها بقعة سوداء فى تاريخه، وضع كمال الطويل الملحن المشهور فى مكانه بالإذاعة إفساد وفساد سياسى، المحكمة كانت تتهكم أثناء نظر القضية على هذا الكلام. باختصار شديد لقد كانت محاكمات الثورة فيها ما فيها ولها ما لها وعليها ما عليها، لكن الأهم هو الدرس والعظة والموعظة!