مجلس القضاء الأعلى: اتخاذ الإجراءات القانونية حيال ما نُشر في وفاة القاضي سمير بدر    لأول مرّة| حماية إرادة الناخبين بضمان رئاسى    أسعار الذهب اليوم الأربعاء 3 ديسمبر بالتعاملات المسائية    بدء تحصيل الزيادة الجديدة فى قانون الإيجار القديم اول ديسمبر    رئيس جامعة طنطا: دعم كبير للمشروعات الفائزة بالمبادرة الرئاسية "تحالف وتنمية"    البيت الأبيض يقرّ بضربة ثانية على سفينة مخدرات.. ومخاوف من جرائم حرب تهز واشنطن    مجموعة مصر.. الأردن يضرب الإمارات بهدف على علوان في شوط أول نارى    انطلاق مباراة ريال مدريد أمام بلباو في الدوري الإسباني    تشكيل أرسنال - بن وايت أساسي.. وساكا وإيزي وتيمبر بدلاء أمام برينتفورد    في حوار ل"البوابة نيوز".. رامي حمادة يكشف سر فوز فلسطين على قطر وطموحات المباريات المقبلة    كأس إيطاليا.. أتالانتا يضرب جنوى برباعية نظيفة ويعبر إلى الدور القادم    5 وفيات و13 مصابًا وتوجيه بإزالة آثار الحادث    ضبط سلع تموينية وعجينة حواوشي فاسدة في حملة تموينية بالفيوم    انتهاء ترميم المبانى الأثرية بحديقتى الحيوان والأورمان    موعد ومكان عزاء المخرج علي سيد الأهل    محمد فتحي: خالد جلال صانع المواهب وقاعدة إطلاق النجوم    هل يجوز التصدق من أرباح البنوك؟| أمين الفتوى يجيب    قافلة طبية شاملة بالقرى التابعة للوحدة المحلية بسلمنت في الشرقية    أحمد فهمي يكشف تفاصيل رسالة هنا الزاهد بعد الطلاق    الناخبون يشيدون بأجواء سير الانتخابات بالدوائر الملغاة.. تقرير لإكسترا نيوز    هل يعتبر مريض غازات البطن من أصحاب الأعذار ؟| أمين الفتوى يجيب    أهالي السيدة نفيسة يوزعون الشربات على الزائرين في المولد.. صور    ما حقيقة انتشار الدواجن السردة بالأسواق المحلية وتأثيرها على صحة المواطنين؟    الخارجية السورية: وفد سفراء مجلس الأمن يزور دمشق    عون: لبنان تعب من المهاترات التي مزقته    بث مباشر مباراة أرسنال وبرينتفورد: قمة لندنية نارية لحسم صدارة الدوري الإنجليزي 2024-2025    الخامس في قنا.. القبض على " قرموش" لشراء اصوات الناخبين    رئيس الاعتماد والرقابة الصحية: معايير جهار ترفع تنافسية القطاع الخاص    القبض على 4 أشخاص بحوزتهم مبالغ مالية بمحيط لجان انتخابية في جرجا    لجنة إدارة الإسماعيلي تؤكد سعيها لحل أزمات النادي المالية وإنهاء قضايا الفيفا    إندونيسيا ترسل سفنا حربية لدعم عملية توزيع المساعدات في آتشيه المتضررة جراء الفيضان    العرض العالمي الأول للفيلم الفلسطيني أعلم أنك تسمعني في مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير    مياه الشرب بالجيزة: كسر مفاجئ بخط مياه قطر 1000 مم أمام مستشفى أم المصريين    الجيزة تنفّذ حملة مكبرة بعثمان محرم لإزالة الإشغالات وإعادة الانضباط إلى الشارع    في اليوم العالمي لذوي الهمم.. غزة تواجه أعلى معدلات الإعاقة في العالم بسبب حرب الإبادة الجماعية.. 12 ألف طفل فقدوا أطرافهم أو تعرضوا لعاهات مستديمة.. و60% من السكان صاروا معاقين    «الري» تتعاقد على تنفيذ التغذية الكهربائية لمحطتي البستان ووادي الصعايدة    في يومهم العالمي.. 5 رسائل من الأزهر لكل أسرة ترعى طفلا من ذوي الإعاقة    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 3ديسمبر 2025 فى المنيا.. اعرف مواقيت صلاتك    وكيل لجنة مراجعة المصحف ورئيس منطقة الغربية يتفقدان مسابقة الأزهر السنوية لحفظ القرآن الكريم    زينة: "ماشوفتش رجالة في حياتي وبقرف منهم"    ما مصير امتحانات الثانوية العامة بعد بلوغ «عبد الحكم» سن المعاش؟.. تفاصيل    ريهم عبدالغفور تحيي ذكرى وفاة والدها الثانية: "فقدت أكتر شخص بيحبني"    انعقاد الاجتماع الرابع للجنة الفنية المصرية – التونسية للتعاون الاستثماري    في اليوم العالمي لذوي الهمم.. انتصار السيسي: وجودكم يضيف قيمًا وإنسانية وجمالًا لا يُقدّر بثمن    دونالد ترامب يحضر قرعة كأس العالم 2026    الأرصاد: استمرار انخفاض درجات الحرارة الملحوظ على مختلف أنحاء البلاد.. فيديو    أطعمة تعالج الأنيميا للنساء، بسرعة وفي وقت قياسي    الصحة تعلن ضوابط حمل الأدوية أثناء السفر| قواعد إلزامية لتجنب أي مشكلات قانونية    لاول مرة فى مستشفي شبين الكوم بالمنوفية..استخراج ملعقة من بطن سيدة مسنة أنقذت حياتها    مجلس حكماء المسلمين يشارك بجناح خاصٍّ في معرض العراق الدولي للكتاب 2025    وضع مدرسة الإسكندرية للغات تحت إشراف مالى وإدارى بعد تعدى عامل على التلاميذ    وزير البترول والثروة المعدنية يستعرض إصلاحات قطاع التعدين ويبحث شراكات استثمارية جديدة    هالاند: الوصول ل200 هدف في الدوري الإنجليزي؟ ولم لا    توافد الناخبين للتصويت في جولة الإعادة بانتخابات النواب بالإسكندرية| صور    أسعار الفراخ والبيض اليوم الاربعاء 3-12-2025 في الأقصر    الأمم المتحدة تحتفل باليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة    الرئيس الكولومبي يحذر ترامب: مهاجمتنا تعني إعلان الحرب    «الوطنية للانتخابات»: إعادة 19 دائرة كانت قرارًا مسبقًا.. وتزايد وعي المواطن عزز مصداقية العملية الانتخابية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموسيقى قربان للسماء
نشر في صباح الخير يوم 03 - 12 - 2025

أنزلَ اللهُ على بنى البشر الديانات السماوية لتضع للإنسان نظامًا للحياة المُثلى فى الاستمتاع بالحياة الدنيا ومباهجها تحت ظل التشريعات والقوانين التى تمد حياته بألوان من الجمال والمتعة فى حدود ما أحل الله.
ولما كانت هذه الرسالات للسّمو بالروح والنزوع بالبشرية إلى الارتقاء والاستعلاء على المادة، والارتفاع إلى الحقائق الإلهية لاستيعاب قيم «الحق والخير والجمال»، خصوصًا إذا ما اقترنت بالشعائر الدينية، وبالتمازج مع الموسيقى باعتبارها فن مخاطبة الحواس والمُعِين على إرهاف الأحاسيس، وتغذية المشاعر النبيلة.
فلا عجب أن تحتضن الأديان فن النغم، ولا تقف عقبة فى سبيل تقدمه وتطوره، لأن الموسيقى الرفيعة أصدق لغة وأبلغ تعبيرًا عن العواطف الحية والأحاسيس النابضة بعُنصريها الأساسيين اللحن والإيقاع، ودين الإسلام بما له من سِمات تلائم البشرية المتطورة وتساير البيئات المتغيرة، اتجه بهذا الفن إلى ما يكفل لنا السعادة دون أن يتعارض مع الشريعة وأهدافها، فالإسلام دين الفطرة الذى يراعى واقع وطبيعة الإنسان التى فطرها الله سبحانه على وجود الموسيقى بعناصرها فى كل ما هو مجسَّد فى الطبيعة حولنا، فمثلاً تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة ما هو إلا شكل من أشكال الإيقاع.

الشيخ الحصرى

كذلك يعيش الإنسان بكل أعضائه بإيقاع منتظم، كضربات قلبه وعمليتىّ الشهيق والزفير، كل هذا يسير وفقًا لإيقاعات مختلفة لكنها منتظمة ومتكاملة ومتجانسة أيضًا، وإذا اختل إيقاع إحدى وظائف هذه الأعضاء أو الأنظمة يمرض الإنسان، وهذا يؤكد أهمية الإيقاع كعنصر أساسى فى فن الحياة، وبالتالى فى الفن الموسيقى الذى يرتبط بحياتنا ارتباطًا وثيقًا.
أمّا العنصر الثانى فهو اللحن الذى يطرب له الإنسان مع النغمة الجميلة أيّا كان مصدرها، حيث وضع الله سبحانه وتعالى التذوق الجمالى داخل النفس البشرية التى طالما تبحث عن الجمال لا إراديّا، وأحد أشكال الجمال هو استمتاع الشخص نتيجة لطربه واستمتاعه بما يصل إليه عن طريق حاسة السمع التى هى أسرع الحواس وصولاً للعقل البشرى.
الصمت والخشوع
منذ أزمنة بعيدة ارتبطت الموسيقى بالطقوس الدينية وأماكن العبادة، حيث دخلت الموسيقى إلى المعابد مع الطقوس الفرعونية والإغريقية ثم انتقلت إلى أماكن التعبد فى الديانات السماوية، حيث كانت الموسيقى قديمًا هى الوسيلة الرئيسية للعبادة والربط بين الآلهة والبشر.
وقد حظيت الموسيقى بالعناية والرعاية من الآلهة ورجال الدين، وذلك لدورها فى التوغل داخل النفس البشرية ومخاطبتها إياها، وذلك للتأكيد على الشعور الدينى، مما جعلهم يعتقدون أنه كلما اقترب الإنسان من الله كانت موسيقاه أنبل وأرفع، ومن ثم نالت الموسيقى قداسة عالية فى المجتمعات القديمة بجانب وظيفتها الإصلاحية والأخلاقية فى المجتمع مع دورها التربوى فى التنشئة وبث الطمأنينة فى النفوس بل وأبعد من ذلك، حيث تستخدم كوسيلة لدرء الأمراض وعلاج حالات الاكتئاب.
فالموسيقى تتعدد أشكالها وتتنوع لما لها من قدرة للسيطرة على مشاعرنا وأحاسيسنا فى جميع المواقف الحياتية، سواء كانت تتعلق بأفراح أو أتراح أو حتى خشوع لله عز وجل.

ريشة: هبة المعداوى

ومع الأسف هناك عدة محاولات لفرض الخصومة بين الدين والموسيقى، أو بمعنى أدق التشكيك فى مشروعية الموسيقى والغناء، وخاضت فيها الآراء إشكالية الإباحة والتحريم، دون النظر فى وظيفتها الإصلاحية والأخلاقية داخل المجتمع، وما لها من دور تربوى فى غرس القيم والمبادئ العليا للارتقاء بالأخلاق.
وقد حاولت بعض الآراء المتشددة إثبات حرمانية الموسيقى، ورفض الإسلام لها دون أسانيد قوية، والجانب الآخر من وجهة النظر يؤكد عدم ذكر أى نَصّ قرآنى يحرم الموسيقى، بل لديهم العديد من الشواهد التى تؤكد مشروعيتها وإباحتها فى عهد المصطفى «صلى الله عليه وسلم» وما سبقه أيضًا من عهود.
ولكن ما نعانيه من ظهور أبواق تحلل وتحرم كيفما تشاء، فأعتقد أنه موقف أيديولوجى منغلق يعمل على خرس وتكميم الأفواه المبدعة، ويقودنا إلى حالة من الفوضى والعبثية الهمجية والذى بشأنه يستقطب بعض العقول المنقادة إلى تيارات الإسلام المتشدد لتبث أفكارها الرجعية اللا إنسانية فى نفوس أبنائنا، حتى يصير الفن لديهم مقترنًا بالرذائل والفواحش، متناسين ما يبطنه الفن الهادف النبيل من قيم مجتمعية وسلوكية تعمل على رقى المجتمع وتقدُّمِه، فما بين الدين والفن تلاقٍ روحانى يبحث فى ماهية الجمال.
فالله جل وعلا جميل يحب الجمال، كما ننشد من خلال المقاربة بينهما نشر ثقافة الحب والسلام وقبول الآخر، وهو ما حث عليه ديننا الحنيف فى آيات الله البيّنات وفى أقوال رسولنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين.
فبالفن يستطيع الإنسان التحرر فكريّا من جميع الأفكار الهدامة والمتشددة التى تحث على نشر العنف والحقد والكراهية، فتنشر سمومها لتتحول لأفكار إرهابية مظلمة تكسو العالم كراهية ودمارًا. فلا بُدَّ أن نغرس فى نفوسنا مدى إسهام الفن بإيقاظ الوعى وتحصينه من محاولات فقدان الهوية والهجوم الغربى الشرس على ثقافتنا وحضارتنا، وينبغى أن تقف المؤسسات الدينية الكبرى: الأزهر الشريف والكنيسة، للتأكيد على ماهية الفن الهادف ونبذ الملوثات الفكرية الدخيلة على مجتمعنا حتى يرتقى فكر الإنسان باحثًا عمّا يحقق له المتعة الحسية والروحية.

ريشة: هبة المعداوى

نغمات إسلامية
بعد أن فرضت الصلاة على أمّةِ محمد (ص) فقد كان الأذان مجالاً للفن الموسيقى بإقامته خمس مرات يوميّا للنداء تلبية لأحد أركان الإسلام والمتمثل فى إقامة الصلاة، وذلك بأداء فردى دون مصاحبة آلية وباستخدام المقامات الموسيقية التى تؤثر فينا جميعًا تأثيرًا جليّا.
وغالبًا ما تستخدم إحدى المقامات الممزوجة بالشجن والخشوع مثل البياتى أو الحجاز أو الراست وإذا قام المؤذن بالخروج عن المقام والتحويل إلى آخر فكثيرًا ما يكون من مشتقات المقام الأصلى كنوع من الزخرفة والبراعة فى الأداء، مع إضافة بعض الزخارف داخل الإيقاع الحُرّ غير الموزون الذى يبنى عليه الأذان.
تتكون المقامات الموسيقية الشرقية من جزءين أو جنسين هما جنس الأصل وجنس الفرع، وجنس المقام هو طبيعته، أمّا المقام نفسه فهو الحالة المزاجية للجملة اللحنية، وكل جنس له أربع نغمات من المقام الموسيقى، الأصل النغمات الأربع الأولى، والفرع النغمات الأربع الأخرى.
وتختلف التكبيرات عن الابتهالات التى تؤدى فى الاحتفالات والمناسبات الدينية والتى تعتمد على الابتكار من المبتهل من حيث استخدام المقامات والزخارف اللحنية والإيقاع المتمثل فى تقطيع الجُمل والعبارات، فمن خلالها يستعرض المبتهل براعته فى ارتجال الألحان والانتقال بين الطبقات الصوتية الحادة والمنخفضة مع الحرية فى تغيير المقامات، ولهذا فهى تتشابه مع الليالى والموال التى ترتكز على التقاسيم الحُرّة فى الموسيقى الدنيوية.
كما نجد إنشاد المتعبدين والصوفيين داخل حلقات الذِّكْر بسيطرة بعض المقامات الموسيقية؛ فالإنشاد الدينى والصوفى ازدهر فى بعض مراحل الحضارة الإسلامية وكانت وظيفته تهذيبية وأخلاقية وتطهيرية ودعوية، قبل أن تشوبه بعض طقوس البدعة التى طالته أحيانًا.

محمد صديق المنشاوى

أمّا عن القصائد والموشحات الدينية فكانت تتلى فى إحياء الموالد وبعض الاحتفالات الدينية فى أسلوب تبادلى بين المنشدين والبطانة، والمنشدون هم مجموعة المشايخ الذين يتلون القرآن وينشدون التواشيح والقصائد، وقد يكون المنشد شيخًا واحدًا فقط، وتقوم البطانة وهم مجموعة من الرجال يتميزون بجمال الصوت بالرد عليهم.
وهذه الطريقة تتشابه مع الأساليب الغنائية التى تعتمد على وجود المذهب والكوبليه، حيث تقوم البطانة بأداء المذهب ثم يعاود المنشد أداء الكوبليه بارتجال وإبداع، ويستخدم المنشد المقام الموسيقى الذى وضعت فيه القصيدة وإذا أتيح له الارتجال فيقوم بلمس مقام قريب يشابه المقام الأصلى ثم يعود له مَرَّة أخرى، وتختتم غالبًا بأداء المنشدين والبطانة معًا، وأحيانًا تصاحب هذه التواشيح بآلات موسيقية كالدفوف فى بعض الابتهالات.
أمّا تنغيم آيات القرآن الكريم عن طريق التلاوة التى تستخدم فيها المقامات الموسيقية بشكل دائم من قبل المقرئين والتى تؤثر إيجابيّا فى جموع المسلمين وينتج عنها الرغبة لدينا لسماع الآيات الكريمة وخاصة إن كانت من أحد المشايخ أو المقرئين الذين يتمتعون بجمال الصوت فيزيد ذلك من خشوع المرء وقربه من دينه، كما تعمل على جذب انتباه السامع للتدبر وتفهم المعانى القرآنية
ويقوم المرتل باستعراض مهاراته الأدائية فى التلاوة من خلال استخدام المقامات الموسيقية التى تساعده على تطويع التنغيم لخدمة المعنى فى حدود لا تتنافى مع جلال وعظمة القرآن، وذلك عن طريق وضع زخارف لحنية دون إسراف كمَدّ بعض الكلمات أو الأحرف والتشديد عليها لإيضاح معناها وتيسيرها للمستمع، والتأكيد على بعض الأحكام الإلهية الواردة فى النَّص القرآنى، كما تكمن أهميتها فى تصويب النطق وسلامته وتوضيح معانيه وألفاظه مع إيضاح ما تيسر من أحكامه لزيادة خشوع قلب المؤمن إلى ربه. والانتقال وتغيير المقام أثناء التلاوة، فهو غير محدد بمعايير أو قواعد موسيقية ثابتة بل يرجع لذوق المقرئ وإحساسه حيث يعمل على زيادة جذب انتباه السامع وتشويقه.

نصر الدين طوبار

وكثيرًا ما يقف المقرئ عند المقام الأساسى ثم يتحول منه إلى مقام قريب وقد يلامس مقامات أخرى سريعًا ويعود للمقام الأصلى مع وضعه للزخارف اللحنية على بعض الكلمات أو الأحرف بطريقة جمالية نابعة من رغبته فى توصيل أداء وإحساس معين للمتلقى.
ولا يستخدم الإيقاع بصورته المتعارف عليها أثناء التلاوة القرآنية، ولكنها تتم عن طريق تقطيع المفردات اللفظية خلال عملية التلاوة وأحكام التجويد، فلكل مقرئ أسلوبه من حيث أماكن التنفس وكيفية تقطيع الآيات، ويعتمد الترتيل القرآنى على الارتجال اللحظى من المشايخ تبعًا لأحاسيسهم دون وضع صيغ مدونة أو قوالب محددة يسيرون على نهجها، لكنها انتقلت مشافهة عبر الأجيال المتلاحقة بعد نزول الوحى على المصطفى - صلى الله عليه وسلم- الذى قال: «زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحَسَن يزيد القرآن حُسنًا»، وقال «ليس منا مَن لم يتغن بالقرآن»، ويقول رب العزة سبحانه فى كتابه العزيز: «ورتلناه ترتيلاً».
مما لا يدع أى مجال للشك أن حفظ القرآن الكريم وترتيله وتجويده يعمل على تمكن الشخص من أحكام التلاوة القرآنية وأيضًا الإحكام الشديد من النطق السليم وحرفية استخدام المقامات الموسيقية والانتقال فيما بينها ببراعة وإتقان وذوق رفيع.
فالتراث الإسلامى جزء من تكويننا السيكولوجى الداخلى وفطرتنا التى نشأنا عليها؛ ومن ثم لا نستطيع أن ننكر الدور الذى أسهمت به التلاوة القرآنية فى تشكيل الوعى الموسيقى لدى عظماء الموسيقيين المصريين، كما كان بمثابة المدرسة الأولى التى أعطت الإرهاصات الموسيقية المبكرة فى أصول التلحين والغناء لجميع مشايخ الموسيقيين أمثال الشيخ سيد درويش وسلامة حجازى وزكريا أحمد ومحمد القصبجى وسيد مكاوى وحتى كوكب الشرق السيدة أم كلثوم فيرجع له جزء كبير من العبقرية الكامنة فى أدائها بجانب ما حباها الله بها من أحبال صوتية متفردة، لكن تعلمها وحِفظها للقرآن الكريم بأحكامه أثر فى نتاج هذه القيمة الفنية المصرية العالمية.

النقشبندى وأم كلثوم

وقد عمل هذا الرافد المهم فى التنشئة والتعليم لكبار الموسيقيين على خَلق رؤى إبداعية متميزة أثرت موسيقانا العربية بإسهاب ليس له مثيل من هؤلاء العمالقة فى أعمالهم من خلال التنوع والتجدد واتساع المدارك وحُسن توظيف الإمكانيات لخَلق إبداعات دعمت الروح الوطنية والمجتمعية والدينية والإنسانية لدى جموع المواطنين فى ألحان تغلفها مشاعر الرقى والأهداف النبيلة.
نجوم الدرجات
هناك العديد من الأسماء اللامعة من مشايخنا الأجلاء الذين أحسنوا التلاوة والتجويد وطافوا العالم بأسره من خلال حناجرهم الذهبية التى زادت المؤمنين إيمانًا وخشوعًا، وضربوا أروع الأمثلة للمقرئين مشايخنا المصريين الذين نفخر بهم، منهم أبو العينين شعيشع، محمود خليل الحصرى، طه الفشنى، عبدالفتاح الشعشاعى، نصر الدين طوبار، محمد الطبلاوى، مصطفى إسماعيل، أحمد نعينع، وأيضًا سيد النقشبندى أستاذ المداحين والمبتهلين، وغيرهم. ولكثرة مقرئينا المتميزين بأصواتهم المبدعة فقد اخترت ثلاثة من أجمل الأصوات التى نالت شهرة كبيرة فى هذا المجال.
نستلهم بالشيخ محمد رفعت 1882 - 1950 المعروف بالصوت الملائكى الذى يسبح بنا فى عالم الروحانيات، يضبط الأحكام بدقة واقتدار، صوته يشبه آلة الكمان التى تتقارب مع الصوت البشرى للإنسان بما يتميز به من مرونة وسلاسة، أبدع دراما التلاوة القرآنية التى صورها فى عقل المستمع، أى قدرته فى التحكم فى سيكولوجية السامع عن طريق تغيير نبرة الصوت ارتفاعًا وانخفاضًا حسب معنى الآيات المحكمة من كتاب الله العزيز.
كما يضىء المفردات بنطقها فى تأنّ يوضح مخارج الألفاظ، ثم يعود فيجمعها كلها فى جملة نغمية تتضمن جوهر المعنى الكلى للجملة القرآنية، وكان صوته الخاشع يغزو القلوب والوجدان فى قراءة عذبة خاشعة فى مساحات صوتية متباينة ما بين القرارات والجوابات، فكان أسلوبًا فريدًا فى التلاوة التى تجمع بين الخشوع والتمعن. والشيخ رفعت يستخدم العديد من المقامات أثناء التلاوة، ولديه قدرة على استخدام جنس المقام فقط وهو نصف المقام كما سبق وأشرنا.
وثانيهم الشيخ محمد صديق المنشاوى 1920 - 1969 ذو الصوت الرخيم، ومن الأصوات العذبة، امتاز بصفاء الصوت ونقائه، وأداؤه ثابت بسلاسة ومرونة وبالأخص مع البدء والانتهاء من كل مقطع من آيات الله، يستطيع أن يطوع خامة صوته لخدمة المقامات التى يتناولها بأداء متقن ومحكم فى منطقة القرارات أو الجوابات، وصوته يمثل الطبقة الوسطى بين الأصوات الرجالية أى المنطقة المعتدلة بين الحدة والغلظة وتسمى صوت الباريتون، ولديه قدرة كبيرة على إنهاء الآيات القرآنية باقتدار، كذلك استخدامه لكثير من المقامات أثناء التلاوة وانتقاله فيما بينها بتلقائية وعفوية، وكان يوظف المقام بما يخدم المعنى الذى سيقت الآية لبيانه، ويرجع ذلك لمرونة صوته بحرفية دون أن يشعرك بصعوبة فى أدائه.
ويعتبر من أكثر المقامات التى استخدمها الشيخ المنشاوى مقام النهاوند لما فيه من سمات تتقارب مع أكثر من حالة نفسية وسيكولوجية يمكن تطويعها بما يخدم تلاوته. كما يملك من نقاط القوة الكثير من الإحساس اليقظ بعلوم التجويد وبتمكنه يحيل المفردات والألفاظ إلى مشاهد كأنك تتابعها فى خيالك بمنتهى الدقة، هذا إلى جانب اعتماده على التكرار فى كثير من الأحيان مما يجعل المستمع يحلق بروحه فى أرجاء رحبة من عفو الله ورحمته، وكذلك حالة الخشوع والرهبة والإجلال لعظمة الخالق فى أحيان أخرى. والخلاصة أن الشيخ المنشاوى صوته يجلب الهدوء والراحة النفسية للتمعن فى مقاصد القرآن الكريم.

عبدالباسط عبدالصمد

أمّا الشيخ عبدالباسط عبدالصمد 1927 - 1988 ذو الحنجرة الذهبية وصاحب الصوت الأسطورى كما وصفوه، فكان دائم البحث عن المعنى والجمال، يمتلك أسلوبًا فريدًا فى ترتيل القرآن يلامس القلوب، وصوته الخاشع صافح قلوب وعقول من يستمعون لقراءته المتميزة فيزيدهم إيمانًا وخشوعًا وتضرعًا إلى الله عز وجل من آياته البينات وما فيها من حكم ووعظ ودعاء وابتهال.
تتميز تلاوته باعتماده على النّفَس الطويل والميل إلى الجوابات والانتقال من المساحات المنخفضة والمتوسطة بسهولة ويسر بأسلوب بديع أشبه بالحوار، ويرتكز كثيرًا على منطقة الجوابات الأكثر حدة، علمًا بأن طبقة صوته تصنف كإحدى طبقات الأصوات الرجالية التى يطلق عليها التينور، وبعد وصوله لسن النضج ومع التغيرات الفسيولوجية للإنسان تحول صوته إلى الباريتون وهى الطبقة الصوتية المتوسطة.
ورُغم عدم اعتماده على التلوين والفنيات كالزخارف المنغمة بكثرة، فإنه كان دائم استخدام مقامات ذات شرقية صميمة مثل الراست والبياتى والصبا فى كثير من الأحيان، وهذا لا يقلل من قيمة قدرته على الإبداع والتأثير فى وجدان المستمعين، خصوصًا لتمكنه من أحكام التجويد، والمدى الصوتى لديه كبير قد يزيد أحيانًا على «اثنين أوكتاف ونصف»، مما جعله يتغنى بالقرآن بحلاوة صوته وطلاوته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.