ننشر نتيجة انتخابات نادى القضاة بالمنيا.. «عبد الجابر» رئيسا    قفزة جديدة في سعر الذهب اليوم السبت 27 أبريل 2024    سعر الدولار اليوم السبت 27 أبريل 2024.. بكام في البنوك والسوق السوداء؟    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    قوات الاحتلال تقتحم قرية "حدب العلقة" في مدينة دورا جنوبي الخليل بالضفة الغربية    هجوم صاروخي حوثي على ناقلة نفط بريطانية في البحر الأحمر    اشتباكات واحتجاجات تهز جامعات أمريكية.. فض اعتصامات واعتقالات طلاب بسبب غزة    تفاصيل مقتل 4 يمنيّين في قصف استهدف حقل غاز في كردستان العراق    الأهلي ضد الترجي.. نهائي عربي بالرقم 18 في تاريخ دوري أبطال أفريقيا    الصور الأولى لحفل زفاف ابنة حسام حسن مدرب المنتخب.. ما سر غياب النجوم؟    أول رد من أحمد السقا على شائعة انفصاله عن زوجته مها الصغير    ملك أحمد زاهر تحتفل بعيد ميلاد والدها: «كل عام وأنت مصدر الأمان»    أحمد حمدي: لدي الثقة في الوصول لنهائي الكونفدرالية.. ودريمز منظم    مؤتمر كولر - هل يعود الشناوي في النهائي أمام الترجي    ننشر المؤشرات الأولية لانتخابات التجديد النصفي بنقابة أطباء الأسنان في القليوبية    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    قطر تصدر تنبيها عاجلا للقطريين الراغبين في دخول مصر    مصر ستحصل على 2.4 مليار دولار في غضون 5 أشهر.. تفاصيل    بالصور.. رفع المخلفات والقمامة بعدد من شوارع العمرانية    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    تصرف غير رياضي، شاهد ماذا فعل عمرو السولية مع زملائه بعد استبداله أمام مازيمبي    فاز ذهابًا وإيابًا.. الترجي يكرر تفوقه على صنداونز ويضرب موعدًا مع الأهلي في النهائي (فيديو)    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    السيطرة على حريق في منزل بمدينة فرشوط في قنا    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    تعرض للشطر نصفين بالطول.. والدة ضحية سرقة الأعضاء بشبرا تفجر مفاجأة لأول مرة    تعطيل الدراسة وغلق طرق.. خسائر الطقس السيئ في قنا خلال 24 ساعة    الأمن العام يكشف غموض 14 واقعة سرقة ويضبط 10 متهمين بالمحافظات    برازيلية تتلقى صدمة بعد شرائها هاتفي آيفون مصنوعين من الطين.. أغرب قصة احتيال    %90 من الإنترنت بالعالم.. مفاجأة عن «الدارك ويب» المتهم في قضية طفل شبرا الخيمة (فيديو)    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    بسبب سوء الأحوال الجوية.. قرار هام حول موعد الامتحانات بجامعة جنوب الوادي    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    طريقة عمل كريب فاهيتا فراخ زي المحلات.. خطوات بسيطة ومذاق شهي    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    بلاغ يصل للشرطة الأمريكية بوجود كائن فضائي بأحد المنازل    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    سميرة أحمد: رشحوني قبل سهير البابلي لمدرسة المشاغبين    أخبار الفن| تامر حسني يعتذر ل بدرية طلبة.. انهيار ميار الببلاوي    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرآن والألحان.. رسالة السماء على سُلَّم الموسيقى
نشر في اليوم السابع يوم 17 - 05 - 2018

هل لا يُحبّ الله الموسيقى؟ وهل الغناء رجس من عمل الشيطان؟ ولماذا اتّسعت حناجر المُطربين وتكلّست حناجر المُرتّلين؟ وكيف يُوصي الرسول بالتغنِّي ويجحد المُتّبعون الوصية؟ وهل يتداول القُرّاء على امتداد العالم قرآنًا واحدًا، أم أننا نتداول سُوَرًا ونصوصًا بعدد حناجر القُرّاء وأنفاس السامعين؟!

كان اليوم عاديًّا للغاية، إجازة أسبوعية تلعب فيها الساعة البيولوجية لعبتها الروتينية المكرورة، فتوقظك من النوم مبكّرًا. الأجواء مواتية لحالة روحانيّة تكسر البرنامج المعتاد، فتحتُ تطبيق «يوتيوب» عبر الهاتف، وبحثت عن مقطع مصوَّر للشيخ مصطفى إسماعيل، لتلاوة من سورة «ق» أدّاها في مسجد السلطان «أبو العلا» في ستينيات القرن الماضي، أعطيت أمر التشغيل واسترخيت في مكاني، ولم أكن أعلم أن الاختيار هذه المرة أوقعني في قائمة مقاطع ستسلب من اليوم هدوءه، وتقلب حالة الدّعة والخمول رأسًا على عقب.
محمد عبد الوهاب والشيخ مصطفى إسماعيل وفي اليسار الشيخ وزوجته
أنهى الشيخ مصطفى إسماعيل تلاوته، وبدأ مقطع آخر لصوت عَفيّ، يختزل في طاقته ميراثًا طويلاً من قوانين دولة التلاوة ودستورها، محمود الشحات أنور، الشاب الثلاثيني المتفجّر بالعنفوان والأُبّهة والاقتدار وامتلاك ناصية النَّصّ، رُحت معه في جولة المحاورة القديرة لقصة مريم وابنها البار الذي لم يَكُ جبّارًا عصيّا، ولم أنتبه إلا والتلاوة تُسلمني لصوت آخر، رخيم وقور، يتهادى على مقامي البياتي والرَّسْت بآيات من سورة آل عمران، وفي خلفيته آلة نفخ بالغة العذوبة والشجن، تتراوح بين البياتي والصبا والحجاز التركي، وبينما أحاول الإفاقة من دهشة التجربة وغرابتها، أسلمني المقطع لتجربة أكثر جنونًا، مطرب يكشف أداؤه عن عُجمة وعَنَاء في مضغ الحروف العربية، ينشد آيات من بعض قصار السور على موسيقى ذات طابع غربي، يتجاور فيها الجيتار مع آلة وترية، لا تقل غرابة عن صاحبها، مازجًا الآيات ببيت شعر من إحدى قصائد نزار قباني. أوقفت الفيديو بنهاية الأغنية، أو الترتيل المُلَحَّن - الحقيقة أن الوصفين غير دقيقين على أية حال - وبقدر الغرابة وعدم القدرة على التحديد والتوصيف كانت الدهشة، وبقدر الدهشة كانت الرغبة في البحث، والفضول للاكتشاف، والخطوة الأولى بين الآيات والنغمات على سُلَّمٍ موسيقيٍّ صاعد نحو السماء.
القراءة الافتتاحية من فيلم بابا عزيز
موسيقى وغناء وقرآن
في التجربة الأولى، التي كانت مقطعًا افتتاحيًّا لفيلم "بابا عزيز" للمخرج التونسي ناصر خمير، 2006، بإنتاج تونسي إيراني أوروبي مشترك، وظّف المُخرج الآيات مع خلفية موسيقية في افتتاحية يظهر فيه شخص وكأنه مسجون في حفرة، يدور حول نفسه بهيئة قريبة من رقص المولوية الصوفي، مع عرض "تترات" الفيلم الذي يناقش قضية التحوّلات الروحية، عبر استعراض رحلة عجوز متصوف مع حفيدته باتجاه اجتماع لجماعة من المتصوفة فوق أحد الجبال.
المنشد الراحل حمزة شكور والموسيقي أرماند آمار وعازف الدودوك ليفون ميناسيان
يبدأ المقطع، الذي وضع تصوّره الموسيقي الفرنسي من أصل يهودي مغربي، أرماند آمار، المتخصص في الموسيقى التصويرية للأعمال الدرامية منذ 1997، بتآلفات موسيقية من السُلّم الصغير الغربي، تُلامس مقام "النهاوند" الشرقي، يلعبها ليفون ميناسيان على آلة الدودوك Doudouk، وهي المزمار الشعبي في أرمينيا، تمتاز بأنها مزدوجة اللسان، تُنتج نغمًا دافئًا وخشيوميًّا، وهي من عائلة قريبة ل"البلابان" في أذربيجان وإيران والناي التركي المُعدّل من الناي التقليدي، ثم يبدأ المُنشد السوري الشهير حمزة شكور قراءة الآيات من 33 حتى 37 من سورة آل عمران.
انطلق "شكور" في قراءته من مقام "شوري" أحد تنويعات البياتي، وهو مقام مركب من "حجاز صول" في الجواب والقفلة "بياتي ري"، بأداء من منطقة القرار، مُوظِّفًا صوته العريض في إنتاج مسلك تطريبي تَحزيني، قبل أن يتحوّل في منتصف القراءة لمقام الرَّست، بينما ترتفع "الدودوك" إلى مجال الحجاز التركي، قبل أن تتراجع قليلا تاركة الواجهة لإيقاعات العازف كيرن شيميراني، التي أخذت طابعًا يشبه أجواء الحضرة الصوفية، وتآلفت مع خطوط وتقسيمات من مجالات الحجاز والصبا في الخلفية، تبدلت بينها آلات الناي التركي والعود التركي، و"أربجينون" التي تشبه الكمان لكن بأبعاد أكبر وصندوق أوسع، و"نيكل هاربا" الآلة السويدية الشعبية، التي تشبه عائلة الكمان أيضًا لكن بقياسات أكبر ومفاتيح تغيير على الجانب كمفاتيح القانون أو الأكورديون.
أغنية شمس للمطرب الإيراني محسن نامجو
أما التجربة الثانية الأكثر صدمة وإدهاشًا، فكانت عملاً غنائيًّا مستقلاً، وليس ضمن بنية درامية، للمُغنّي والمُلحن وكاتب الكلمات الإيراني محسن نامجو، المولود في 1976، وكانت أسبق بسنة تقريبًا من تجربة "بابا عزيز".
حاول "نامجو" في أغنيته صنع سياق حكائي بتضفير آيات من عدة سور، فاختار الآيات الثمانية الأولى من سورة "الشمس"، والأربعة الأولى من سورتي الضحى والمزّمل، والآيتين الأوليين من النبأ، والآيتين 27 و28 من الفجر، والآيات الأولى والثانية والثالثة والسابعة من سورة التكوير، بتصرفات بسيطة أحيانا في الترتيب أو أدوات التعريف، مع جملة "يُسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات" من قصيدة نزار قباني الشهيرة.
مزج المطرب الإيراني في أغنيته التي سمّاها "شمس" بين طابع الموسيقى الشرقية، وأجواء الروك والبلوز، المسيطرة على مشروعه الغنائي، والمعتمدة على مزج الصوت في تلويناته الأدائية بالجملة الموسيقية، مستعينا بالجيتار وآلة "سه تار" الإيرانية التقليدية، مع إيقاعات ذات طابع غربي، وتوظيف الغناء كمدخل إضافي للتوقيع، عبر مقاطع "آهات" تشبه النبر على فواصل زمنية متساوية، وقد اعتمد "نامجو" لحنًا للمذهب المتكرّر من مقام النهاوند، مع تنويعات للآيات من الصبا، وأداء يشبه الترتيل التقليدي لسورة الضحى بتنويعة على البياتي.
في معالجته لمزيج الآيات يسهل ملاحظة أن المطرب الإيراني سعى لبناء قصة درامية، وكأنه يتتبّع الأمر منذ نشأة الكون إلى الإسلام، ويربط الآيات بجملة نزار قباني التي تردّ كأنها على لسان إحدى أمهات المؤمنين، كفاصل كاشف عن عمق النص القرآني وأثره واستثنائيته. لاحقًا حرّك القارئ الإيراني الشهير عباس سليمي دعوى قضائية بحق "نامجو"، لتقضي المحكمة في 2009 بسجنه خمس سنوات، لكنه لم يقض العقوبة في ضوء إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية قبل القضية والواقعة كلها بسنوات.

مغامرات موسيقية ومشاحنات دينية
أثارت محاولتا حمزة شكور ومحسن نامجو جدلاً واسعًا وقت ظهورهما المتزامن تقريبا، ولكن تتبّع الأمر يكشف أنهما ليستا الوحيدتين في السنوات الأخيرة للاشتباك مع القرآن موسيقيًّا، وأن بابًا واسعًا من الجدل حول الأمر بدأ ينفتح منذ تسعينيات القرن الماضي، لو سلّمنا جدلاً بأنه كان مغلقًا.
سورة الفاتحة للمطرب التركي عمر فاروق
في 1992 أصدر التركي عمر فاروق ألبوما يحمل اسم "وراء السماء/ Beyond the Sky"، متضمنا محاولة لتلحين سورة الفاتحة، اعتمد فيها صيغة موسيقية مفتوحة، لا تستند لإيقاعات ظاهرة، وإنما عمد لتنظيم التدفق الإيقاعي في مقطوعته عبر تتابع فواصل موسيقية متجانسة، والاستناد لتقطيع الآيات بطريقة منتظمة، دون تخلٍّ عن ضوابط القراءة التقليدية. مرت التجربة بسلام رغم الاعتراضات، ولم يواجه "فاروق" متاعب قانونية، ربما لأن تركيا وقتها كانت في مرحلتها العلمانية، قبل أن تشهد فترة المد الإسلامي الذي تصاعد مع نجم الدين أربكان في التسعينيات واستمر حتى الآن مع إردوغان. ولكن بالتأكيد لم يكرر "فاروق" تجربته.
طلال سلامة ومارسيل خليفة وعمر فاروق ومحسن نامجو

في ديسمبر 1999 حركت النيابة العامة اللبنانية عريضة اتهام بحق المطرب مارسيل خليفة، تتضمن اتهامه ب«تحقير الشعائر الدينية»، في ضوء غنائه قصيدة محمود درويش "أنا يوسف يا أبي"، التي يقول في آخرها: «هل جنيت على أحد عندما قلت إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين»، إذ هاج وماج رجال الدين في لبنان، على رأسهم السنة، وفي طليعتهم مفتي البلاد وقتها محمد رشيد قباني، لتتحرك التهمة ويمثل مارسيل للتحقيق، وقتها قال في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية إنه لم يطلب البراءة لأنه لم يرتكب أي جرم، قبل أن تقضي إحدى المحاكم لاحقا ببراءته تأسيسا على انتفاء سوء النية، وعلى عدم استخدام الآية بكاملها، وأيضا "ترتيله لها بخشوع"، حسب ما قال الدفاع وهيئة المحكمة.
بعدها بسنوات، وتحديدا في أبريل 2014، شهدت أوركسترا جاكرتا تجربة ملفتة للمزاوجة بين الموسيقى والقرآن، إذ وضع الموسيقيّ الإندونيسي فيرو آديانسيا صيغة أوبرالية للآية 13 من سورة الحجرات «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى....»، غناها المطرب الأوبرالي فارمان بورناما، بتمكّن وروحانية يستحلبان طاقة صوته «التينور» اللامع، مرّ الأمر بهدوء تام في إندونيسيا، وكانت الضجة والاعتراضات من نصيبنا، إذ شنّ عدد من الدعاة ورجال الدين في مصر والسعودية هجومًا حادًا على التجربة.
أوركسترا جاكرتا والآية 13 من سورة الحجرات
في مارس من العام التالي اشتعلت أزمة حادة في المملكة البحرينية، بدأت من مسابقة بإحدى المدارس، قيل إن طالبًا مشاركًا فيها قدّم معالجة غنائية لآيات قرآنية بمصاحبة آلات موسيقية، بإشراف اثنين من المدرسين، وبينما نفت وزارة التعليم الواقعة، واستشهدت بتقرير المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي قال إن الأمر لا يعدو كونه ابتهالاً دينيًّا اقتبس آيتي "إياك نعبد وإياك نستعين إهدنا الصرط المستقيم" من سورة الفاتحة، شكّل البرلمان لجنة تحقيق، وأمرت النيابة البحرينية بحبس الطالب والمُدرّسَين احتياطيًّا بتهمة المساس بالدين، رغم أن اللجنة البرلمانية نفسها قالت إن «الطالب كان مُحترِمًا للدين وغير مستهزئ أو مستهتر»، واستمر الأمر مُثارًا حتى مارس 2016، إلى أن أُغلق بمعاقبة الطالب والأستاذين، وتنفيذ وزارة التعليم ثماني توصيات تخص المسابقات وخريطة المناهج وتدريس القرآن.
بعدها بشهور كان طلال سلامة على موعد مع أزمة شبيهة، في سبتمبر 2017، بتداول مقطع مصوّر من حفل نظمته الهيئة السعودية للترفيه، وشارك فيه "سلامة" بأغنية اسمها "وطن"، يقول فيها: "ما أجملك دين وملك/ ما أروعك ربّ الخلايق فضّلك/ بالسيرة والذكر الحسن/ محروسة من كل الفتن/ ومعوّذة برب الفلق/ من شرّ كل ما خلق/ يا سعودية يا أحلى وطن"، لتتأجج موجة هجوم على المطرب السعودي متهمة إيّاه بغناء القرآن وإهانة المقدسات، بينما قال ناشطون ومغردون على تويتر إن "سلامة" لم يُغنّ القرآن، وإن كلمات الأغنية تضمنت استخدام "معوّذة" بدلاً من "قل أعوذ"، ووضع "كل" ضمن بنية "من شر ما خلق"، حتى لا يصبح النص قرآنيًّا وفق الصيغة التوقيفية، متّهمين قطر بتوظيف حسابات وأشخاص موالين لها للنَّيل من طلال سلامة والهيئة السعودية للترفيه، في ضوء أزمتها مع الرباعي العربي، مصر والسعودية والإمارات والبحرين التي اشتعلت في يونيو من العام نفسه، لا سيّما أن أغنية "سلامة" قديمة ومعروفة منذ 2016.
القارئ الشاب محمد صلاح نافع
في محاولة أحدث منها، اقترب القارئ الشاب محمد صلاح نافع من صيغة أقرب للتلحين المباشر للقرآن، في قراءة لسورة "التين والزيتون"، فبينما حافظ "نافع" على أحكام التلاوة والتجويد بدرجة كبيرة، اقترب في تعاطيه صوتيًّا عبر تقنيات غنائية من الترخيم والوقفات والركوز والإمالات، لمستوى يكاد يكون غناء صريحًا للآيات.
بجانب المحاولات السابقة، كانت هناك محاولة في العام الماضي لجوقة "الفيحاء" في كنيسة "مار مارون الجميزة" بالعاصمة اللبنانية بيروت، قدمت خلالها أسماء الله الحسنى مسبوقة بأداء بين الترتيل والغناء للآية 180 من سورة الأعراف "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها..." على طريقة أقرب ل"الأكابيلا" التي تستعيض عن الآلات الموسيقية بالأصوات البشرية، مع الحفاظ على خط وتري في الخلفية، وبقدر تعدد المحاولات التي استعرضناها، وغيرها مما لم نستعرضه، وما سبقها من أفكار وأحلام لموسيقيين راحلين، سنأتي على ذكر بعضها، يبزغ ويتضخم السؤال المهم: كيف نقرأ القرآن؟
جوقة الفيحاء في كنيسة مار مارون الجميزة ببيروت
وصية الرسول في قراءة القرآن
المدخل الأول لتحديد الضابط الشرعي لقراءة القرآن لا يمكن أن يمر من طريق غير طريق النبي، حامل النص وصاحب وصيته، وقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن الرسول قال: "ليس منّا من لم يتغنَّ بالقرآن"، وأورد النسائي وأبو داود عن البراء بن عازب قوله صلى الله عليه وسلم: "زيّنوا القرآن بأصواتكم"، وأورد البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا: "ما أذن الله ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن"، ورُوي عن عقبة بن عامر أنّ النبي قال: "تعلّموا القرآن، وغنّوا به، واكتبوه، فوالله إنه لأشدّ تفصّيًا من المخاض من العقل"، وفي حديث ابن ماجه: "اقرأوا هذا القرآن بحَزَن فإنه نزل بالحَزَن"، وقال حذيفة: "إذا قرأتم القرآن؛ فاقرؤوه بحَزَن"، وروى حذيفة بن اليمان أن النبي قال: "اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها"، وتُورد كتب الحديث والسيرة القصة الشهيرة بين الرسول وأبي موسى الأشعري، إذ مرّ الرسول به وهو يقرأ ثم قال له: "لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود"، فقال أبو موسى: "لو أعلم أنك تستمع لحبّرتُه لك تحبيرًا"، ويُروى أن النبي قرأ سورة الفتح على راحلته فرجَّع في الحروف، حسب رواية عبد الله بن مُغَفَّل التي قال فيها: "رأيت النبي على ناقة له، يقرأ سورة الفتح، أو من سورة الفتح، فرجّع فيها...".
التغنّي لغويًّا هو تحسين الصوت، وعمليًّا هو التصرف في الصوت بالمدّ والإطالة والإمالة لتحقيق التطريب، واللحون جمع لحن، وهو أن يتفنن القارئ في قراءته ليُصدر أصواتًا مصوغة بأساليب معينة من قبيل التغريد والتطريب، والترجيع ترديد الصوت في الحَلق بكيفية قد ينتج عنها تغيير بنية اللفظ فيقترب من التلحين، والثابت من سابق الروايات وغيرها مما يقع في الباب نفسه، أن النبي دعا للتغني بالقرآن، مع ما يحتمله هذا من التصرف في النطق وتلوين الصوت، وحضّ على قراءته بألحان العرب وما فيها من تطريب وإمتاع، ورجّع في قراءته مردّدًا الحروف في الحَلق بما يحتمله الترجيع من إطالة في أزمان المدود وتغيير في زمن الحرف وتردّده، وبالتبعية تغيير بنية الكلمة.
وتحمل كثير من الروايات الصحيحة أدلّة مباشرة على اختلاف الصحابة حول قراءة القرآن في زمن النبي وفي حضرته، منها ما يرويه الطبري عن زيد بن أرقم أن رجلا جاء للنبي قائلا: "أقرأني عبدالله بن مسعود، وأقرأنيها زيد وأقرأنيها أُبيّ بن كعب، فاختلف قراءتهم، فبقراءة آيهم آخذ؟" فسكت الرسول، وعليّ إلى جانبه، فقال علي: "ليقرأ كل إنسان كما علم، كل حسن جميل"، وورد في الصحاح الستة أن عمر بن الخطاب سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما تعلّم من النبي، فأخذ بردائه وانطلق به، وبعدما قرأ كل منهما كما يقرأ، قال الرسول لكل منهما: "هكذا نزلت"، وفي الترمذي والنسائي أن رجلا قرأ عند عُمر فغيّر عليه، فاختصما عند النبي، فأجاز قراءة الرجل، فوقع في صدر "عمر" شيء، وعرف الرسول ذلك في وجهه فقال: "إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابًا أو عذابًا رحمة"، وحكى أُبيّ بن كعب رواية شبيهة، وطال الشكّ كُتّاب الوحي أنفسهم فيما ورد من روايات عن سعيد بن المسيب وعبد الله بن أبي السرح وابن خطل، فقال "سيد الناس" عن عليّ: "كان ابن خطل يكتب للنبي، فكان إذا نزل (غفورا رحيما) كتب (رحيما غفورا) فقال ابن خطل: ما كنت أكتب إلا ما أريد"، وأورد الواقدي رواية شبيهة عن ابن أبي السرح، وجاء في مسند أحمد عن عبدالله ابن مسعود: "تمارينا في سورة فقلنا (خمس وثلاثون آية أو ست وثلاثون آية)، فانطلقنا إلى رسول الله فوجدنا عليًّا يناجيه، فقلنا إنّا اختلفنا في القراءة، فاحمرّ وجه رسول الله، فقال علي: إن رسول الله يأمركم أن تقرأوا كما علمتم"، وورد في المُستَدرك وصحيح البخاري بحاشية السندي أن عبدالله بن عمر اختلف مع رجل على سورة (حم) فانطلقا إلى الرسول، فإذا وجهه قد تغيّر، وقال: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف"، ثم أسرّ إلى عليّ فقال: "إن رسول الله يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم"، ويكمل ابن عمر: "فانطلقنا وكل رجل منّا يقرأ حروفًا لا يقرؤها صاحبه"، وكتب السيرة والحديث تزخر بمئات الروايات في الباب نفسه.
وما تؤكده سوابق الروايات أن النبي ترك بابا مفتوحًا للسعة والتنوع في قراءة القرآن، حتى أنه قَبِل كل قراءة ما لم تُغيّر المعنى، وعلى تعدّد وتكرار مرات اختلاف الصحابة واحتكامهم له، لم يقض بخطأ أي منهم، أو يردّ قراءة قارئ، وقال في أكثر من رواية إنه سأل الله التخفيف حينما أنزل عليه القرآن، فخفّف حتى وصل لسبعة أحرف، والمعنى نفسه في رواية علي بن أبي طالب: "إن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شافٍ كافٍ".

القراءة بين التوقيف والألحان
في ضوء السعة التي أقرها النبي، ربما يصعب اعتبار القراءة بالألحان/ المقامات أمرًا مرفوضًا، ولكن الحادث أن كثيرين من الفقهاء لم يُقرّوها، فأفتى المالكية والحنابلة بكراهة التلحين، ويقول الإمام مالك: "لا تعجبني، إنما هي غناء يتغنّون به ليأخذوا عليه الدراهم"، ورُوي عن ابن حنبل: "الألحان لا تُعجبني، والقراءة بها بدعة لا تُسمع"، وعلى الجانب المقابل أقرها الحنفية والشافعية استنادا لروايات عن عُمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس وعبدالله بن مسعود وغيرهم، وذكر الطحاوي أن أبا حنيفة وأصحابه كانوا يسمعون القرآن بالألحان، وقال محمد بن عبدالحكم: "رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمير يسمعون القرآن بالألحان".
أما في معنى الغناء والتغنّي لدى الفقهاء، فيقول ابن الأنباري: "المراد به التلذّذ والاستحلاء له كما يستلذّ أهل الطرب بالغناء، وأُطلق عليه تغنّيًا من حيث أنه يفعل ما يفعل الغناء"، وقال الحافظ بن رجب الحنبلي في "فتح الباري": "المراد أن يجعله عِوَضًا عن الغناء، فيضرب به ويتلذذ به ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد غيره ذلك في الغناء"، وأكد أن هذا المعنى رُوي عن ابن مسعود، وتحدث الحافظ بن حجر عن صفة التغنّي قائلا: "ومن جملة تحسينه أن يُراعى فيه قوانين النغم، فإنّ حَسَن الصوت يزداد حُسْنًا بذلك"، ويقول ابن القيّم في "زاد المعاد" عن قراءة الصحابة: "كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويقرؤونه بشجىً تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة"، ويُورد الطبري عن عمر بن الخطاب قوله: "من استطاع أن يغنّي بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل"، وكلها تؤكد جواز التلذّذ بالقرآن والاستمتاع به والطرب بقراءته، وأيضا جواز الدُربة والتعلّم، إذ تزيد الاستطاعة بالمعرفة والتجريب والدراسة، ومنها دراسة المقامات والألحان.
مبعث الخلاف بين الفريقين، ومن تبعهم في وجهتي النظر، هو حدود التغني والتلحين، فبينما يرى المُقرّون أن القراءة بالألحان التزام بأمر نبوي مباشر في الدعوة للتغني بالقرآن وتحسين الصوت به وقراءته بحَزَن، يرى الرافضون أن هذا المسلك في القراءة يُهدّد سلامة اللفظ العربي ووقار النص القرآني، انطلاقًا من قولهم بتوقيفية القراءة وفق ما أقرّه العصر الأول، وعدم قبول التصرّف من قراء العصور التالية.
طبعة حديثة من كتاب الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين
مسألة توقيفية النص تفتح بابًا للتساؤل في ضوء اختلافات الصحابة والتابعين في القراءة، التي يقول فيها طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى": "تظاهرت الروايات أيضًا بأن المسلمين اختلفوا في قراءة القرآن أيام النبي نفسه، ولم يكن اختلافهم في اللهجات، وإنما كان اختلافهم في الألفاظ دون أن تختلف معاني هذه الألفاظ. وقد اختصم المختلفون إلى النبي نفسه فأجاز قراءتهم جميعًا، لأنها لم تختلف في معناها، وإنما كانت تختلف في ألفاظها"، ويقول الراغب الأصفهاني إن "ابن عباس" كان يُجوّز قراءة القرآن بمعناه، مستدلاًّ بما رُوي عنه أنه كان يُعلّم رجلا: "طعام الأثيم" في الآية 44 من سورة الدخان، فلم يُحسن الرجل نطق "الأثيم"، فقال له: "الفاجر بدل الأثيم"، وأخرجه ابن عبد البر والباقلاني وآخرون، ورُوي عن أنس في قوله في سورة المزمل: "إن ناشئة الليل هي أشدّ وطأ وأقوم قيلاً" أنه قرأ "وأصوب قيلاً"، فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي وأقوم، فقال: "إن أقوم وأصوب وأهيأ واحد"، وروى أبو زيد الأنصاري عن أبي سرار الغنوي أنه كان يقرأ: "فجاسوا خلال الديار" بحاء غير معجمة، فقيل له إنما هي "جاسوا"، فقال: "جاسوا وحاسوا واحد"، وذهب سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب والقرطبي، ونسبه ابن عبد البرّ لأكثر العلماء، إلى أن "المُراد بالأحرف السبعة سبع لغات في كلمة واحدة تختلف فيها الألفاظ مع اتفاق المعاني وتقاربها، مثل: هلمّ، وأقبل، وتعال، وإليّ، وقصدي، ونحوي، وقربي"، وقال أبو الفضل الرازي وابن قتيبة وابن الجزري إن الاختلاف في الأحرف السبعة على سبعة وجوه: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث، واختلاف تصريف الأفعال من ماضٍ ومضارع وأمر، واختلاف وجوه الإعراب، واختلاف النقص والزيادة، واختلاف التقديم والتأخير، والاختلاف بالإبدال، واختلاف اللغات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإظهار والإدغام. ووفق هذه المسموحات الواسعة فإنه لا يُتَوَقّع أن يُحدث الغناء أو التغنّي اختلافًا أعمق مما هو حادث بالفعل بين الرواة وقُدامى القراء.
كان المُتَّبع في القرون الثلاثة الأولى أن من قرأ على شيخ تبعه في قراءته، ومن قرأ على أكثر من شيخ له أن يتبع أحدهم أو يؤلف لنفسه قراءة من بين القراءات، ويُقال إن أبا جعفر الطبري المتوفى سنة 310 للهجرة جمع قراءته من اثنتين وعشرين قراءة، وكان من تلاميذه "ابن مجاهد" الذي اختار القراءات السبع الشهيرة، بينما روى الإمام الهذلي في كتابه الكامل خمسين قراءة، وروى أبو حاتم السجستاني أربعًا وعشرين قراءة، وذكر أبو عبيد وابن جرير أكثر من عشرين قراءة، وقال مكي بن أبي طالب: "ذكر الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة وأجلّ قدرًا من السبعة"، ويقول نافع: "قرأت على سبعين من التابعين، فما اتفق عليه اثنان أخذته وما شذّ فيه واحد تركته"، وقد اختلف راوياه وَرش وقالون في أكثر من ثلاثة آلاف حرف من قطع وهمز وتخفيف وإدغام وغير ذلك، وقرأ أبو عمرو على "ابن كثير" ويخالفه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف، وأخذ الكسائي القراءة من حمزة ويخالفه في نحو ثلاثمائة حرف، ويقول مكي بن أبي طالب عن سبب تقنين القراءات، إن "الرواة عن الأئمة كانوا في العصرين الثاني والثالث كثيرًا في العدد، كثيرًا في الاختلاف، فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا على القراءات التي توافق المصحف، على ما يسهل حفظه، وتنضبط القراءة به"، وقد انتقد كثيرون من العلماء ابن مجاهد في تسبيع القراءة، منهم تلميذه ابن أبي هاشم الذي قال في كتاب "البيان" مُضعِّفًا قراءة ابن عامر: "لولا أن أبا بكر شيخنا جعله سابعًا لما كان إسناد قراءته مُرضيًا، وكان سليمان بن مهران الأعمش أولى منه"، وقال القرطبي: "ما وُجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف فى حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم، فذلك لأن كلاً منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه، إذ كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض".
وصنّف الدارسون روايات القرآن على صور ستة، منها: المتواتر وهو ما نقله جَمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، والمشهور وهو ما صحّ سنده بأن رواه العدل الضابط ووافق العربية ولو بوجهٍ ووافق رسم المصحف العثماني واشتهر عند القراء، وما صحّ سنده وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وأجازوا القراءة بالمتواتر والمشهور فقط، ما يُعني أن قراءات عديدة لأربع صور من الروايات أخرجها المُصنّفون من عِداد القرآن، بينما كانت حاضرة ويُقرأ بها في زمانهم، ويبدو أن خلاف التوقيف لم يظهر إلا في القرن الرابع وما بعده، مع بدء التأسيس لعلم القراءات بشكل أكثر تماسكًا على يد ابن مجاهد ونفر من سابقيه ولاحقيه، فبينما تشير عموم المصادر إلى أن صحف أبي بكر لم تشتمل على الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، فإن عثمان بن عفان استند لهذه الصحف في نسخ مصحفه الجامع الذي أرسله للأمصار، مُوحّدًا القراءة على رسم واحد، إلا ما سمح به اختلاف القراءات نتيجة غياب نَقط الإعجام واحتمال قراءة الكلمة على أكثر من صورة، فساعد رسم المصحف بغياب النقط والشَّكْل على بقاء جملة قراءات لا تُخالف خطّه، فتعددت قراءات أهل الأمصار، ويُؤكد الرواة والمؤرخون أنه ترك الصحابة في زمنه يقرأون على غير ما في المصحف، وفي هذا تُنسب روايات عدة لعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهما.
إحدى مخطوطات مصحف عثمان بن عفان
النظر للمصاحف المتداولة الآن سيكشف عن أمر يمسّ مسألة التوقيف، فطبعة مصر من قراءة حفص عن عاصم عدد آياتها 6236 آية، وطبعة تونس لقراءة قالون عن نافع 6214 آية، وطبعة السودان لرواية الدوري عن أبي عمرو 6204 آيات، أما عن القراءات التي ربما تكون قد نشأت من مشابهة رسم الخط، فمنها ما جاء في سورة القصص: "فاستغاثه الذي من شيعته"، قرأها سيبويه "فاستعانه"، ومن سورة الروم: "غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيَغلبون" قُرئت: "غَلَبت الروم من أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيُغلَبون"، ومن سورة يس: "فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، قُرئت "فأعشيناهم" من العشى أي سوء البصر، ومن سورة الأعراف: "ولا تتبعوا من دونه أولياء"، قرأها مالك بن دينار: "ولا تبتغوا من دونه أولياء"، ومن سورة ص: "بل الذين كفروا في عزة وشقاق" قُرئت: "في غرّة وشقاق"، ومن سورة الأنفال: "يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال"، جاء في قراءة حكاها الأخفش: "حرّص المؤمنين..."، ومن سورة التكوير: "وما هو على الغيب بضنين" قُرئت: "بظنين"، ومن سورة الحجرات: "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا" قُرئت: "فتثبّتوا"، ومن سورة يوسف: "ليسجنّنه حتى حين"، قرأها ابن مسعود "عتّى حين" وهي لغة هذيل، ومن سورة الرعد: "فأما الزبد فيذهب جفاءً"، قرأها رؤبة بن العجاج: "فيذهب جفالاً"، ومن سورة يوسف: "ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق"، قُرئت: "إن ابنك سُرِّق"، وتشتمل كتب القراءات والتجويد والتراجم، بل وكتب النحو واللغة، على مئات الأمثال من اختلافات القراءات، في ضوء الأحرف السبعة، أو في ضوء مشاكلة الرسم وما أنتجته من تنوّع طوال عقود ظلت فيها المصاحف دون نَقط أو شَكْل، ووصل الاختلاف إلى قراءة النبي نفسه، حسب الروايات المتواترة في كتب الصحاح، وأوردها كتابا "قراءات النبي" لأبي عمرو الدوري والدكتور عطية أبو زيد محجوب، فمن سورة المائدة مثلا: "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، أن النبي كان يقرأها: "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم"، ومن سورة التوبة: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم"، كان يقرأها: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم"، ومن سورة الذاريات: "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"، كان يقرأها: "إني أنا الرزاق ذو القوة المتين"، كما تؤكد روايات عدّة أن النبي كان يتحلّل من الهَمز في غالب قراءته، بجانب الإمالة والمدود وبعض السمات في الوقف والهاء، بشكل قد لا يطابق ما أوردته كتب القراءات والتجويد لاحقًا.

هل يكره الله الموسيقى؟
ما تقدّم يؤكّد أن مسألة التوقيف، من حيث اعتبارها مانعًا يحول دون القرآن والألحان أو المقامات، ليست مسألة نهائية قاطعة ومُقيمة للحُجّة على القرّاء، فالقراءات السبع التي وضعها ابن مجاهد، وأوصلها اللاحقون لعشر، وأُضيف لها أربع قراءات قيل إنها شاذة، بينها من الاختلافات ما يطال المدود والإمالة والتفخيم والترقيق والهمز ونطق الحروف والكلمات، بل وبنيتها أيضًا، وكلها مسموحات للقراءة بالألحان، تضمن نظريًّا ألا يخرج أي قارئ في أي مقام عن رواية واحدة صحيحة على الأقل من الروايات الواردة في الآية نفسها، فلماذا إذن اعترض فريق من الفقهاء على القراءة بالألحان؟
الأقرب للمنطق أن شيئًا من الحذر اكتنف علاقة المسلمين بالغناء، في ضوء أنه ارتبط في جانب كبير منه بغناء الأنصاب والحانات في العصر الجاهلي، وأنهم ابتغوا بالرفض وسيلة لتنقية الدين من أمر يرونه شبهة، ولكن المشكلة أن هذا المسلك الفقهي لم يعتمده القرآن ولا الرسول، إذ لم ترد لفظة الغناء باشتقاقاتها في القرآن، ولم يرد عن الرسول قولٌ فصل في مسألة تحريم الغناء، وبينما يستند المُفسّرون والفقهاء لتأويلات، منها: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث" لقمان 6، و"اجتنبوا قول الزور" الحج 30، و"الذين هم عن اللغو معرضون" المؤمنون 3، وآيات أخرى شبيهة، مُفسّرين لهو الحديث وقول الزور واللغو باعتبارها الغناء، أو يستندون لحديث ابن خطل وجاريتيه اللتين كانتا تهجوان الرسول، وقال يوم فتح مكة اقتلوهم ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، متجاهلين أن الأمر مَردّه الهجاء والسبّ وليس الغناء، فإن كتاب الصحاح في الوقت نفسه تورد روايات عن الرسول تجيز الغناء، منها ما روته عائشة: "دخل عليَّ رسول الله وعندي جاريتان تُغنّيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله! فأقبل عليه رسول الله فقال: دعهما"، رواه البخاري ومسلم، وقالت عائشة أيضًا: "كانت جارية تغنّي عندي، فاستأذن عمر، فلما سمعته الجارية هربت، فدخل النبي يبتسم، فقال عمر: أضحك الله سنّك يا رسول الله، كأنه يسأله عن سبب ضحكه، فقال: كانت جارية تغني فلما سمعت خطواتك هربت، فقال عمر: لن أرحل حتى أسمع ما سمع رسول الله، فاستدعى الرسول الجارية فأخذت تغني وهو يسمعها"، ورُوي أن الرسول سمح بالغناء في زواج فاطمة، وأنه سأل عائشة في زواج بعض الأنصار: "هل أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم، قال: فبعثتم معها من يُغني؟ قالت: لا، قال أو ما علمت أن الأنصار قوم يُعجبهم الغزل؟"، وروى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد أن امرأة جاءت إلى رسول الله فقال: "يا عائشة أتعرفين هذه؟ قالت: لا يا نبي الله، فقال: هذه قينة بني فلان، تحبين أن تغنيك؟ قالت: نعم، قال: فأعطاها طبقًا فغنّت"، وروى ابن عبد ربه أن النبي مَرًّ بجارية تغني: "هل عليّ ويحكم إن لهوت من حرج" فقال: "لا حرج إن شاء الله"، والثابت أنه غنّى وترنم مع الصحابة يوم حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وكان يمدّ صوته ويُرجّعه، ويقول الدكتور شوقي ضيف في كتاب "الشعر والغناء في المدينة ومكة": "ظل الغناء بالمدينة في عصر الرسول والخلفاء الراشدين، ولم تكن تسرف فيه، إلا أنها على كل حال كانت تأخذ منه بنصيب، وهناك أحاديث كثيرة تؤكد أن الرسول لم يكن يُحرّم الغناء، بل على العكس كان يبيحه".
كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي
في مقابل من يُحرّمون الغناء من الفقهاء، وهم كثير، يقول أبو حامد الغزالي في باب "آداب الوجد والسمع" بكتاب إحياء علوم الدين، إن سماع الصوت الطيب من حيث أنه طيب لا ينبغي أن يُحرّم، مؤكّدًا أنه "حلال بالنص والقياس" مستشهدًا بسماع النبى لجاريتين تغنيان كما ورد فى البخاري ومسلم من حديث عقيل عن الزهري، وقال في موضع آخر: "من لم يحرّكه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فاسد المزاج ليس له علاج"، وبينما يُرجح البعض سبب التحريم من جانب فريق الفقهاء لدخول الموسيقى والإيقاعات على الغناء، فإن روايات أخرى تشير إلى أن الرسول استمع للغناء من القيان بالموسيقى والإيقاع، وأنه أعطى إحداهن طبقًا لتدقّ عليه وتغني، ولعل السبب الحقيقي للتشدّد مع الأمر ارتباط الموسيقى والغناء بمظاهر الوثنية والجاهلية، والرغبة في مجافاة هذه المظاهر، كاجتهاد من أصحاب هذا الرأي، لا يقوم عليه دليل قاطع من الكتاب والسنة.
المهم في الأمر، أنه رغم المرويات والآراء المتواترة، فإن الغناء لم ينقطع عن العصر الأول، وعُرف من المغنّين في هذه الفترة وما لحقها: طويس المولود سنة 11 للهجرة في المدينة المُنوّرة، ويُعدّ أول مغنٍّ في الإسلام، مارس الغناء في عصر الخُلفاء بعدما تعلّمه من أسرى الفُرس بالمدينة، وهو أول من أدخل العود الفارسي للغناء العربي، وتتلمذ على يديه كثيرون أشهرهم ابن سريج والدّلال نافذ ونؤوم الضّحى وفند وسعيد بن مسحج، والأخير التقط النغم من بعض رجال الفرس الذين استقدمهم عبد الله بن الزبير لترميم الكعبة وكانوا يُغنّون بالفارسية، وأيضًا سائب خائر، الشاعر والمغني الذي عاش في عصر الخلفاء الراشدين، وتعلم الألحان الفارسية من أسرى الحروب، وهو أول من ابتكر الإيقاع المُسمّى بالثقيل الأول، ومِن أشهر تلاميذه عزّة الميلاء وجميلة ومعبد، وممن مارسوا الغناء في العصر الأول بالمدينة سيرين بنت شمعون، أخت السيدة مارية القبطية وزوجة شاعر الرسول حسان بن ثابت وأم ولده عبد الرحمن، التي وفدت للمدينة بعد صلح الحديبية في 7 هجرية، وحنين الحيري، وابن محرز، ورحمان، ومحمد ابن عائشة، و"حبابة" التي عاشت بالمدينة في القرن الأول، والغريض المولود في مكة وتلميذ ابن سريج، وجميلة جارية بني سليم التي عاشت بالمدينة في القرن الأول وتعلمت الغناء من سائب خاثر، ومسلم بن محرز، وابن عائشة، وابن جامع المولود في مكة زمن الأمويين، وعُريب، وإسحاق الموصلي، و"بذل"، وهم من أشهر مغنيي العصر العباسي الأول.

القرآن لا يعادي الإيقاع
أغلب الظن أن فريقًا من الفقهاء التبس عليهم الأمر في مسألة القرآن والإيقاع، فمع اتهام المشركين للقرآن بأنه يحاكي الشعر، وارتباط الشعر والغناء في صورته البدائية بالإيقاع، رأوا مجاوزة الإيقاع إلى نمط مطلق وغير مقيّد من القراءة، ولكن النظر في الأمر يكشف أن القرآن نفسه لا يُعادي الإيقاع، إذ اعتمد ترددات وتمثّلات عديدة لإيقاعات الشعر في كثير من آياته، منها: "قل هو الله أحدْ" مع الوقف، و"إنّا أعطيناك الكوثرْ"، و"قل لو كان البحر مِدادا"، وغيرها من النماذج التي تشيع على امتداد النص، كما اعتمد التسجيع القريب من نمط التقفية في الشعر، وهو بناء إيقاعي موسيقي بالأساس، والتوازن السطري كما في سُوَر الشمس والكوثر والتكاثر وغيرها، إضافة إلى ترددات الفواصل المشاكلة لترددات فواصل الإيقاع، مثال آية "فبأي آلاء ربكما تكذبان" في سورة الرحمن، التي تتردد 31 مرة على فترات زمنية شبه متساوية، في مسلك إيقاعي لا تخطئه الأذن.
عرفت الثقافة العربية الإيقاع في الشعر، الذي استقرأه الخليل ابن أحمد الفراهيدي في القرن الثاني للهجرة، وقعّد للبحور ووضع الدوائر العروضية، ومن مدخل الإيقاع الشعري بدأ الغناء لدى طويس وسائب خاثر وعزة الميلاء وابن مسجع وغيرهم، ثم ما لبثوا أن ابتكروا الغناء المتقن الذي يفارق فيه المغنّي وزن الشعر إلى إيقاع مستقل للغناء، لتبدأ مسيرة تطوير الإيقاع وصولاً إلى الفارابي والكندي وابن سيناء وصَفيّ الدين الأرموي.
نص عن المزمار من كتاب الفارابي والدوائر الإيقاعية من كتاب الأدوار للأرموي
الإيقاع لغة من الوقع، وهو الضرب بالشيء، وأوقع المغني أي بنى ألحان الغناء على مواقعها وموازينها، يقول الفارابي في كتابه "الموسيقى الكبير": "إن الإيقاع هو النقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنِّسَب"، وقال ابن سينا في فصل الإيقاع من بحث الموسيقى بكتاب النجاة والإيقاع: "كل نقرة يُنقل عنها إلى نقرة أخرى، فإما أن تنتقل في مدة لا تمحي في نقلها عن الخيال صورة الأولى حتى تكونا في الخيال كالمتوافيين معُا، وإما ألّا يكونا"، ويُعرّف صفيّ الدين الأرموي الإيقاع في رسالته بأنه: "جماعة نقرات بينها أزمنة محدودة المقادير، لها أدوار متساوية الكمية على أوضاع مخصوصة، ويُدرَك تساوي تلك الأزمنة والأدوار بميزان الطبع السليم".
في العصر الأموي تنوّعت الإيقاعات لتصبح ستة: الثقيل الأول، والثقيل الثاني، وخفيف الثقيل، والرمل، وخفيف الرمل والهزج، وأُضيف لها لاحقًا خفيف الثقيل الثاني، وخفيف الهزج، لتصبح ثمانية إيقاعات. ومع ثباتها اندفع الموسيقيون لتوليد إيقاعات جديدة وفق نظرية الدوائر العروضية لدى "الخليل"، وممن أجدوا في هذا الفارابي وإخوان الصفا والأرموي، ووصلت اجتهادات الابتكار والتوليد في أحد الإيقاعات إلى 176 نقرة إيقاعية تم تركيبها حسب قواعد الفارابي، وسُمّي هذا الإيقاع "الفتح"، وقاد تطور الموشّحات في اتجاه آخر بابتداع الإيقاعات المتناوبة ضمن الموشّح الواحد، ثم بروز امتداد إيقاعي آخر عُرف ب"مراسيم زرياب"، إذ أصبح العمل يتشكل من مجموعة ألحان على إيقاعات متنوعة، عُرفت ب"النوبة الأندلسية"، وأنتج التوليد مئات الإيقاعات غير المتماثلة، اعتمادًا على أسلوب التوليد الرياضي الذي ابتدعه الفارابي بمزاوجة الوحدات الإيقاعية الصغيرة بحسبة التبديل والتوفيق، تأسيسًا على نظرية الدوائر العروضية في الشعر، وقد وثّق أستاذ الموسيقى السوري أحمد رجائي أغا القلعة 342 إيقاعًا متداولة في الموسيقى العربية، والأمر يفتح الباب لتخيّل إمكانية إنتاج مزيد من الإيقاعات مختلفة الأطوال، وربما إنتاج إيقاعات مفتوحة غير متكررة، تنسف فكرة التواتر والتكرار المتتابع التي تُخيف الفقهاء من الموسيقى.
في المسار ذاته، ابتدع صفيّ الدين الأرموي في كتابه "الأدوار" طريقة لتوليد المقامات، قياسًا على توليد الفارابي للإيقاعات، أي بآلية الدوائر العروضية أيضًا، عبر إعادة ترتيب الأجناس الموسيقية بتبديل وتوفيق، لاستنباط عقود ومقامات جديدة، ويتحدث الدكتور سعد أغا القلعة في بحث "الأجناس الموسيقية المتداخلة" الذي قدمه لمؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة 1992، عن أساس جديد للتوليد الموسيقي اللا مقامي، عبر تجنيس المقامات الأساسية والفرعية بمزاوجة الأجناس والعقود، لاستنباط مقامات جديدة للموسيقى الاصطناعية، ربما تصلح للغناء والقراءة بالتجريب والاستساغة، ويشير "القلعة" إلى أن عدد المقامات التقليدية الناتجة من تركيب ثلاثة أجناس فقط ضمن المقام الواحد يصل إلى 1332 مقامًا، وأننا لو قبلنا الامتداد المطلق للمساحة الصوتية وعدم تحديد عدد الأجناس، فإن النواتج المحتملة ستُصبح أكبر، وقد تصل إلى آلاف المقامات.
الجليّ من تتبّع الأمر أن علم المقامات ليس علما مُبتَدَعًا، وإنما هو استقراء للقيم الموسيقية والنغمية الشائعة في غناء الناس وقراءتهم للقرآن، كما استقرأ أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو، واستقرأ الخليل إيقاعات الشعر، أي أنها علم سابق على القرآن، من حيث كونها قِيَمًا موسيقية مُوزّعة في الكلام والغناء ومتنامية على امتداد قرون، ولكن اللبس بشأنها حدث مع التقعيد الذي صنع منها معمارًا مُتماسكًا وجَليًّا أمام الفقهاء، فشعروا بشيء من الريبة بشأنه، لم يشعروه وهو موزّع ومتناثر في كلامهم وقراءتهم، وهي النقطة التي يفسرها المؤرخ الموسيقي كمال النجمي في مقال "عظماء المقرئين ومستقبل التغني بالقرآن"، الذي نشرته مجلة الهلال في عددها التاريخي عن القرآن، ديسمبر 1907، بقوله: "نشأ التغني في مكة والمدينة نشأة طبيعية في ظل القرآن، ولكن الحدود الصوتية الفنية التي كان يتحرك فيها المتغنون جعلت التغني أقرب إلى المصحف المرتل الذي نسمعه الآن، فلم يكن متاحًا للمتغني في الصدر الأول إلا حيّز معلوم شديد البساطة تتحرك فيه أوتار حناجر القراء. كان الغناء العربي نفسه غير موجود بكيانه الضخم الذي لم يتكامل إلا بعد منتصف القرن الثاني. فلم يكن معقولا والأمر كذلك أن يتغنى المتغنون بالقرآن في الصدر الأول إلا بما أُتيح لهم من بسائط العلوم الموسيقية، في أبعد صورها عن التعقيد والتركيب والتكثيف، فكان مدّ الصوت وترقيقه ورفع طبقته بلا دُربة صوتية ولا معرفة موسيقية"، ويتابع النجمي مقاله: "فلمّا اتّسعت علوم الغناء والموسيقى اتسع القراء في التغني. وبدلاً من الأصوات الفطرية غير المُدرّبة ظهرت أصوات مدرّبة مصقولة تتغنى بإحكام ومعرفة بمواقع النغم".
الدكتور طه حسين والدكتور شوقي ضيف والمؤرخ الموسيقي كمال النجمي
نقطة أخرى في مسألة الإيقاع يكن التقاطها عبر مسألة الاقتباس من القرآن، إذ أجاز الفقهاء الأمر مع النثر والشعر، ومنها ما نقله تاج الدين السبكي عن أبي منصور البغدادي: "أبشر بقول الله في آياته/ إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، وأورد السيوطي في كتاب "الحاوي للفتاوى" أمثلة كثيرة للأمر، وقال المرجع الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الله إبان قضية مارسيل خليفة: "لا نجد أية إساءة في تضمين القصيدة آية قرآنية، كما لا نجد أن تلحين هذه القصيدة المتضمنة للآية يمسّ قداسة القرآن أو يسيء إليه"، وهو ما يدفع لإعادة النظر في شأن الغناء والتوقيع، فإذا جاز الاستشهاد بالقرآن في الشعر، مع ما يحمله هذا من إنزاله على أوزان الشعر وإيقاعاته، وإذا كان القرآن نفسه لا يكره الإيقاع ولم يقاطعه، فإن كراهة القراءة بالألحان والمقامات من باب أنها تُنزل القرآن على الإيقاعات وتسلسل النغمات، لا وجه لها فيما يسوقه المعترضون.
يقول الإمام ابن رجب: "قراءة القرآن بالألحان، بأصوات الغناء وأوزانه وإيقاعاته على طريقة أصحاب الموسيقى، رخّص فيها بعض المتقدمين إذا قُصد الاستعانة على إيصال معاني القرآن إلى القلوب للتحزين والتشويق والتخويف والترقيق"، وبينما يقول ابن تيمية في جامع المسائل بمجموع الفتاوى: "أما ما أحدث بعدهم من تكلف القراءة على ألحان الغناء فهذا يُنهى عنه عند جمهور العلماء، لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه للقرآن بالغناء"، فإنه هو نفسه في فتوى أخرى يُزهّد الناس في أحكام التجويد، قائلا: "ولا يجعل هِمّته في ما حُجِب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمدّ الطويل والقصير والمتوسط، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه"، ناسفًا فكرة التوقيف في قراءة الآيات، وفاتحًا الباب جزئيًّا للتصرّف النسبي المتفاوت بتفاوت قدرات الناس ومعارفهم.

أذن مُصغية ولسان معترض
في محاولة للاقتراب من الحالة الراهنة لجدلية علاقة القرآن بالألحان ضمن بنية المجتمع بأطيافه وتنوعاته، أعددنا استطلاعًا مُكثّفًا للرأي، تضمّن خمسة أسئلة عن وجهة النظر في الموسيقى والغناء، وقبول قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية، وفكرة تلحين القرآن بنغمات اصطناعية أو بالصوت البشري وحده، وسبب الرفض أو القبول، والقارئ المُفضّل ومرجع تفضيله، وشمل الاستطلاع عيّنة قطاعية من 150 شخصًا.
توزعت العينة التي توصلنا لها عبر عدد من المحررين ومراسلي الصحف بالمحافظات وبعض مسؤولي الأوقاف والناشطين في الحقل الفني من هواة ومحترفين، بواقع 50 شخصًا من قراء القرآن والمنشدين والأئمة والخطباء من اتجاهات فكرية ومذهبية مختلفة، بمراعاة تنوع المستويات العمرية وفئات التعليم من المتوسط حتى مرحلة الدراسات العليا، و50 من الجمهور العادي من الجنسين، بحصص متساوية لمستويات الأعمار والتعليم والوضع الاجتماعي والخلفية الريفية والحضرية، و50 من المطربين والملحنين ودارسي الموسيقى والغناء، بدءًا من الطلبة حتى أساتذة الجامعة والعاملين بالفرق الحرّة والرسمية.
لم تأت النتيجة النهائية للاستطلاع صادمة أو مفاجئة، ولم تنحرف عن مستوى الاستقطاب المسيطر على النظر لجوانب الموضوع، فيما يخص الموسيقى والغناء، أو قراءة القرآن بالمقامات، فقد قال 70% من إجمالي العينة إنهم لا يرون في الموسيقى والغناء شيئًا مخالفًا للدين، ولكن توزّعت هذه النسبة بين فئات العينة بشكل مختلف، فبينما رأى 40 من شريحة القراء والمنشدين والخطباء الموسيقى حرامًا، بنسبة 80% من حجم العينة الفرعية للشريحة الأولى، اتفق معهم 5 أفراد فقط من الجمهور العادى بنسبة 10% من عيّنة الشريحة الثانية، ولم يتفق معهم أي شخص من شريحة دارسي الموسيقى وممارسيها، وجاء الأمر معكوسًا تقريبًا في مسألة قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية، إذ عارضها 90 شخصًا بنسبة 60% من العيّنة الإجمالية، بواقع 40 من الشريحة الأولى و50 من الشريحة الثانية، وأقرّها 60 شخصًا بنسبة 40%، بواقع 10 من الشريحة الأولى و50 من الشريحة الثالثة.
فيما يخص تلحين القرآن، رفضت الشريحة الأولى من العيّنة الأمر بشكل كامل، سواء باستخدام آلات موسيقية أو الاكتفاء بالأصوات البشرية، وقَبِلَها 10 أفراد من الشريحة الثانية شريطة تجنّب الآلات الموسيقية، وقَبِلتها الشريحة الثالثة كاملة، ولكنها انقسمت بين قبول توظيف الموسيقى الاصطناعية بواقع 10 أفراد، والاكتفاء بالصوت البشري وطاقته الجمالية والتعبيرية بواقع 40 فردًا، لتخرج النسبة النهائية في هذه النقطة ب60% للرفض التام، و33.5% للقبول المشروط بتجنّب توظيف الموسيقى، و6.5% تقريبًا للقبول المطلق بحضور كامل للآلات والتوزيعات.
الشيخ مصطفى إسماعيل
أغلب الأسباب التي ساقها المُعترضون على تلحين القرآن تلخّصت في تصوّرهم لحُرمة الأمر بنصوص دينية، وتوقيفية القراءة القرآنية وفق الروايات المعتمدة في علم القراءات وقواعد التلاوة والتجويد، ورؤيتهم لقدر من التعارض بين جلال النص القرآني وفكرة التلحين، أو خوفهم من مغامرات الموسيقيين وخيالهم، أما الموافقون على الأمر فتوزّعت آراؤهم بين عدم وجود نص واضح يُحرّم تلحين القرآن، وتأثير التلحين في تحسين الصوت وجودة التلاوة، والأثر النفسي والروحي الذي ستُحدثه هذه الطريقة في قراءة القرآن وتلقيه، أما فيما يخص السؤال الأخير عن القارئ المفضل، فقد جاءت القائمة بالترتيب: عبد الباسط عبد الصمد 40 شخصًا ب26.6%، ومصطفى إسماعيل 35 شخصًا ب23.3%، ومحمود الشحات أنور 31 شخصًا ب20.6%، والسيد متولي 21 شخصًا ب14%، ومشاري راشد العفاسي 9 أشخاص ب6%، وعبد الرحمن السديس 6 أشخاص ب4%، وسعود الشريم 5 أشخاص ب3.3%، وماهر المعيقلي 3 أشخاص ب2%، ودارت أغلب أسباب التفضيل حول إجادة التعبير بالصوت عن المعنى القرآني، والتطريب والإمتاع، وحالة الشجن التي يثيرها القارئ في نفس السامع.
عبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل وسيد متولي ومحمود الشحات أنور

في خيارات الإجابة عن السؤال الأخير، وضعنا ثمانية أسماء تمثل اتجاهين، مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد والسيد متولي ومحمود الشحات أنور، ممثلين لفئة القراء الذين تتنوّع قراءاتهم بين عدد من المقامات الموسيقية، الأصلية والفرعية، وتصل لمدىً بعيد في التطريب، أما على الجانب المقابل، وفي ضوء صعوبة أن تجد قارئًا مقاطعًا للمقامات بشكل كامل، وقع الاختيار على عبد الرحمن السُّديس وسُعود الشريم ومشاري راشد وماهر المعيقلي ممثلين للقُرّاء البعيدين عن المسلك المقامي الثري والمتنوع، إذ يقرأ كل منهم بمقام واحد ثابت تقريبًا، وأحيانًا يجاوزون المقام إلى قراءة أقرب للحياد الموسيقي ضمن بنية ترتيل منتظمة إيقاعيًّا، مع خُلوّ واضح من التلوينات وتذبذبات الخزينة النغمية لمصفوفة الموسيقى المقامية، ولكن المفارقة في إجابات المشاركين في الاستطلاع، أنه في مقابل رفض 60% لتوظيف المقامات في قراءة القرآن، جاءت تفضيلات 84.5% تقريبا من المستطلعة آراؤهم في صالح فريق التطريب "المقامي" في القراءة، إن جاز التعبير، وانحازت أسباب التفضيل للطاقة التعبيرية والقدرة على التطريب والشجن أو التَّحْزِين، وهي قِيَم موسيقية غنائية بالأساس، حتى لو منحناها أسماء أخرى، ما يشير إلى قدر من التناقض يخيّم على الوعي العام بالمسألة، حتى بين قطاعات من المتخصصين في العلوم الدينية والموسيقية، وليس عامة الجمهور وحدهم، وكأنك أمام أُذن تُصغي وتستحسن، ولسان يرفض ويستهجن في الآن ذاته، ربما في ضوء التباس مفاهيمي وغياب للتحديد والوضوح المعياريين في التسمية والتوصيف، سواء لمدارس التلاوة، أو للموسيقى وعلوم المقامات، أي أننا في هذه النقطة أمام سوء فهم بالدرجة الأولى، أكثر من كوننا أمام قناعات حقيقية مؤسَّسة على ظهير معرفي.
القارئ الشاب محمود الشحات أنور
تجربة حية لمؤاخاة القرآن والموسيقى
المصادفة وحدها قد تقودك لصيد ثمين، كأن تلتقي أحد الأصدقاء القدامى دون موعد أو ترتيب، ووسط عشرات الموضوعات المثارة في الحوار، تشير إلى الموضوع الذي يشغل تفكيرك، وتواصل العمل عليه بحثًا وقراءة، متحدّثًا بنشوة وشغف عن تتّبعك الشاق لرحلة الوفاق والشقاق بين القرآن والموسيقى طيلة أربعة عشر قرنًا من الحياة الممتدة والمتجددة لهما في أرواح الناس وحناجرهم، وتحكي عن تجربة فيلم "بابا عزيز" وما فيها من مزاوجة حوارية شجيّة بين لحن موسيقي ولحن قرآني، فيفاجئك صديقك المستمع بترقّب واهتمام، بأن له صديقًا غيرك يشغله الأمر، لكنه يمارسه بالفعل، مُستغلاًّ دراسته وممارسته للموسيقى، صانعا شيئًا شبيهًا بما تحكيه عن تلاوة "بابا عزيز"، فتشعر وكأنك مسافر وضع إحدى قدميه في محطة الوصول، وتطلب لقاء هذا الشريك البعيد في الهاجس نفسه، فيستئذنك صديقك في سؤاله، وتنصرفان على وعد منه بتحديد مقابلة في أقرب فرصة، حال موافقته على الأمر.
مشاري راشد العفاسي وعبد الرحمن السديس وماهر المعيقلي وسعود الشريم
بعد يومين هاتفني الصديق المذكور، مُبشّرًا بقبول صديقه للقاء، وحدّد موعدًا في اليوم التالي بأحد مقاهي وسط القاهرة، التقينا وتعارفنا وبدأ الحوار، تحدثنا عن أعلام قراءة القرآن، وتاريخ المقامات والموسيقى الشرقية، وما يتردد تاريخيًّا عن محاولات بعض الموسيقيين للاشتباك مع النص تلحينًا وتوقيعًا، كان الحديث عموميًّا بطيئًا، دون اقتراب من مسألة بحثي الشخصي واشتغالي على الموضوع، ودون حديث من الصديق الجديد عن تجربته وعلاقته بالأمر، لكنني ألمحت لتجارب التفاعل الموسيقي مع النص القرآني في إيران وتركيا وتونس ولبنان وغيرها، دون أسماء أو تفاصيل، وعلى امتداد الحوار الذي استمر ساعتين بدا الوافد الجديد مُتحفّظًا نوعًا ما، رغم قدر من الفضول كان يلمع في عينيه بين وقت وآخر، لكنني كنت أعلم منذ البداية أن اللقاء الأول قد لا يصل بنا لشيء، تبادلنا أرقام الهواتف وافترقنا على وعد بلقاء آخر.
منذ اللحظة التالية لانتهاء اللقاء قرّرت أن أترك الهدف أسبوعًا ثم أدعوه لمقابلة ثانية، لكنه لم يترك لهذا السيناريو فرصة للاكتمال، إذ بادر في اليوم التالي بمهاتفتي طالبًا اللقاء، حدّدنا موعدًا والتقينا بمفردنا هذه المرة، وكان التخلّي عن الصديق المشترك مؤشّرًا إيجابيًّا على الارتياح وتطوّر الحوار في الاتجاه المنتظر، وهو ما حدث بالفعل، إذ انطلق صديقي الجديد من تلقاء نفسه متحدّثًا عن افتتانه بفكرة المزاوجة بين القرآن والموسيقى، وقبوله التام لها، وحجم ما يُمكن أن يُحدثه العناق بين التلاوة والعزف من ثراء للنص والنغم، فتحت هاتفي وأسمعته المقطع الحاضر معي دومًا من فيلم "بابا عزيز"، اندهش ولمعت عيناه مع تقدّم القارئ في آيات "آل عمران"، وتقدّم العازف على سُلّم البياتي، وما إن انتهى المقطع حتى بدت عليه حالة من الارتياح والسلام النفسي، عبّر عن استغرابه من كونه لم يسمع المقطع من قبل، ثم صمت برهة قبل أن يُصرّح بأن له هو وأصدقاؤه تجربة شبيهة، وأنهم يُنظّمون لقاءات دورية أشبه ب"البروفات" للتدريب على التقنية وتطويرها، تحلّيت بالجرأة والطمع وطلبت مشاركتهم أحد هذه اللقاءات، وكان أكثر جرأة وكرمًا ممّا أتوقع، ووافق على الأمر.
في موعد لاحق التقينا بشارع قريب من منزله، واصطحبني إلى المكان الذي يلتقي فيه شركاء التجربة، فوق سطح المنزل، وصلنا وتتابع وصول الباقين، اكتملت المجموعة وأمسك كل منهم آلته، "محمد" صاحب الدعوة على "الكمان"، مينا على الناي، آسر على العود، ومصطفى للقراءة والترتيل والإنشاد (الأسماء مستعارة حسب رغبتهم) طلبت سماع التجربة التي حدّثني عنها، فأشار ل"مينا" الذي بدأ العزف على مقام الصبا، وانطلق "مصطفى" بآيات من سورة مريم على المقام نفسه، وعلى مدى 10 دقائق كاملة تبادل القارئ والعازف حوارًا صوتيًّا موسيقيًّا، انتقل مصطفى من درجة الدوكاه إلى درجة الرست، متبدّلاً من الصبا إلى الرست والنهاوند، بينما تبدّل "مينا" في درجة الدوكاه بين الحجاز والكرد، لم تَبدُ التجربة ناضجة بدرجة كاملة، ولكنها لم تَخلُ من إحساس ذكيّ وشعور مُتّقد.
القارئ الراحل الشحات محمد أنور
أسأل عن سبب الالتفات للأمر وخوض هذه المغامرة، فيرد "محمد" مبتسمًا بأن "مينا" صاحب الفكرة، إذ كان له جارٌ يتعمّد رفع صوت القرآن كلما أمسك الناي وبدأ تدريبه اليومي، ولاحقًا أصبح "مينا" يتعمد الوقوف في النافذة المجاورة والعزف من طبقة الجواب ليثير ضيق جاره كما يفعل معه، مُعلّقًا بابتسامة ساخرة: "مسيحي طائفي"، يضحك "مينا" ويلتقط طرف الحوار، قائلاً إنه اقترب من الأمر بالمصادفة البحتة، إذ كان يتزامن الموعد اليومي الذي خصّصه للتدريب مع تشغيل أحد الجيران لتسجيلات قرآنية للشيخ الشحات محمد أنور، كما عرف لاحقا، ومرة بعد مرة بدأ يضع يده على القيم الموسيقية والتسلسلات النغمية والمقامية في القراءات التي يسمعها، بويحاول محاكاتها، ثم عرض الأمر على "محمد" والمجموعة، لتبدأ تجربتهم المشتركة معًا.
السؤال الأكثر إثارة في الأمر كان بشأن "مصطفى"، الشاب العشريني الذي درس في أحد معاهد القراءات التابعة للأزهر، وتعلّم الإنشاد على يد أحد المنشدين المعروفين، وفي سياق طبيعي يُفترض أن يكون معارضًا لمثل هذه التجربة، وهو ما يؤكّده "مصطفى" بالفعل، قائلاً إنه احتاج وقتًا طويلاً حتى يستوعب الفكرة ويستسيغها، وما زال يشعر بشيء من الحرج والخوف بشأنها، ولكن ما يطمئنه أنها تجربة شخصية يتفق أطرافها على عدم طرحها على نطاق واسع، وأنها تتم من أرضية إجلال للقرآن وسعي لاستكشاف عظمته، وليس من أرضية إهانته أو الانتقاص منه.
قضيت مع المجموعة ثلاث ساعات كاملة، منعوني من التصوير أو حتى التسجيل الصوتي، في ضوء تفضيلهم لأن تظل تجربة شخصية خالصة، ولكن خلال هذه الساعات استمعت لسبع تجارب مختلفة ومتنوعة، إحداها اقتربت من صيغة يمكن القول إنها محاولة لإقامة جملة موسيقية موازية ومساوية للجملة اللغوية، في قالب يتلمّس التلحين على أرضية تعبيرية، وكانت الحصة الأكبر من التجارب الباقية ثنائيات مقامية يشترك فيها القارئ مع إحدى الآلات على طريقة "بابا عزيز" أيضًا، مع قدر من الانتقالات المحسوبة، ولكن الأكثر إدهاشًا في القائمة تجربتان كان القارئ يُحلّق فيهما وفق بنية مقامية ثابتة، بينما كانت الآلات الثلاثة (العود والناي والكمان) تلعب ثلاثة خطوط/ ألحان مستقلة في الخلفية، في صيغة "بولوفونية" متعددة الأصوات، تتحاور كل منها مع القارئ، وتتحاور كلها معًا، صانعة بناء معماريًّا متعدد الطبقات، ومتعدد الدلالات أيضًا.
الشيخ سيد مكاوي في سورة الضحى
مقامات مقدسة.. قراء ومطربون في دولة القرآن
على صعيد رحلة التجاور القرآني الموسيقي، بدا مع الاقتراب من القرن العشرين أن تحوّلاً كبيرًا يتشكّل في علاقة القرآن بالموسيقى، لم يكن تحوّلاً باتجاه الدمج والمؤاخاة، وإنما كان أقرب للإزاحة التي تُجسّر المسافة بين الحقلين، فغادر فريق من الشيوخ مجالس القراء والمنشدين إلى مجالس الملحنين والمطربين، كان في طليعتهم الشيخ إسماعيل سكر، والشيخ حسن جابر، والشيخ إبراهيم الفرّان، والشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، والشيخ محمد عثمان، والشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ أبو العلا محمد، والشيخ درويش الحريري، والشيخ سلامة حجازي، والأخير بدأ رحلته بتعلّم القرآن وقراءته، والعمل مؤذّنًا ومنشدًا في مسجد الأباصيري بالقاهرة، قبل أن يتحوّل للغناء ويصبح أحد رواد المسرح الغنائي، بتشجيع عبده الحامولي وفتوى بالإجازة من صديقه الإمام محمد عبده، وأضحى "حجازي" بهذا التحوّل واحدًا ممن قادوا الغناء لمسالك تعبيرية، بجانب هيكله التقليدي المستند للتطريب والزخارف والحليات الموسيقية، عبر توظيف الموسيقى لشرح وتفسير الكلام والاشتباك معه، ومحاورته والدوران حوله، بما يخلق أثرًا نفسيًّا مرتبطًا بمراد الكلام ومحموله ومعانيه العميقة، واستمرّت خطوات التعبير على أيدي سيد درويش وزكريا الحجاوي وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي وسيد مكاوي، وصولاً إلى إمام عيسى، وجميعهم من خلفية دينية، وبدأوا بتعلّم القرآن قبل الانتقال لحقل الموسيقى، وامتدّ التحول حتى كارم محمود، الذي بدأ حياته قارئًا للقرآن في المساجد، ثم انتقل للغناء وحاز شهرة وضعته في الصف الأول لمطربي الصنف الثاني من القرن العشرين.
القراء محمد بيلير وحامد شاكر ويونس اسويلص ورعد الكردي وعبد الله البريمي
في سوريا، شهد النصف الأول من القرن الماضي بروز الشيخين علي الدرويش وعمر البطش، اللذين أجادا القرآن ثم تعلّما الموسيقى، وكانا يتردّدان على زوايا الطرق الصوفية، قبل أن يشتغلا في الغناء والمسرح، وتتابع المسار بين طبقات القرّاء وشيوخ الموسيقى السوريين، والأمر نفسه حدث بدرجات متفاوتة بين قراء وموسيقيي العراق وإيران وتركيا وتونس والمغرب والخليج العربي، ويمكن ملاحظته بتتبع مسارات رموز الغناء والإنشاد في هذه المجتمعات، أو تتابع مدارس القراء ومسالكهم، سواء إلهان توك وفاتح سليم وفاتح قايا وحافظ بيلير وغيرهم في تركيا، أو ضاري العاصي وأحمد خورشيد وعامر الكاظمي ورعد الكردي وغيرهم في العراق، أو عبد الله جابر والحذيفي والعجمي والسديس والشريم وغيرهم بالسعودية، أو عبد الله البريمي وخليفة الطنيجي وصلاح بو خاطر وأسامة الصافي وغيرهم بالإمارات، أو عباس سليمي وجواد فروغي وكريم منصوري وحامد شاكر نجاد وغيرهم بإيران، أو رشيد العلايني وعلي البراق ومحمد كتو وياسين إعمران ومصطفى البحياوي والعيون الكوشي ويونس اسويلص وغيرهم في المغرب العربي.
الشيخ مصطفى إسماعيل يغني موّالاً من مقام السيكا
على الضفة المقابلة، كانت الإزاحة تتمّ بإيقاع مغاير، ولكنه كافٍ للكشف عن صورة للتعاطي مع القرآن تختلف عمّا درج عليه الأمر قرونًا، فكان الشيخ محمد رفعت الذي أجاد توظيف المقامات في القراءات القرآنية، وفي الوقت نفسه أدّى عددًا من الأدوار والأغنيات للإذاعات الأهلية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كما أوردت مصادر عديدة وأثبت رجاء النقاش في كتابه "كلمات في الفن"، والقارئ الشيخ علي محمود الذي كان أستاذًا بمعهد الموسيقى، والشيخ محمد عمران الذي لم تَخلُ جلساته من الغناء، وله مقاطع مصوّرة يؤدي فيها أغنيات شهيرة، منها أغنية "حلم" للسيدة أم كلثوم من مقام السوزناك، وهو مقام مركب من (الراست في درجة دو، والحجاز في درجة صول)، والشيخ محمد صدّيق المنشاوي الذي يروي ابنه أن "أحد الموسيقيين الكبار في الستينيات عرض عليه أن يُلحّن له القرآن، فقال له: "يا سيدي، لقد أخذت الموسيقى من القرآن، فكيف تُلحّن أنت القرآن بالموسيقى"، والشيخ مصطفى إسماعيل بثروته النغمية والمقامية التي تجاوزت 19 مقامًا في تلاواته، وأيضًا ببعض التسجيلات ذات الطابع الغنائي، منها تسجيل لمدخل موال من مقام "السيكا" أداه خلال أحد اللقاءات الإذاعية، إضافة للهجرات العكسية من الغناء والإنشاد للتلاوة، وأبرز نماذجها طه الفشني الذي بدأ حياته مُنشدًا قبل أن يتحول للقراءة، حاملاً معه حزمة من تقنيات الأداء والتلوين الطربي التي انطبعت على أسلوبه وحنجرته ومجالات أدائه.
الشيخ محمد عمران في أغنية "حلم" لأم كلثوم من مقام سوزناك
في مرحلة تالية، بدأت حالة من الاندماج والاندغام بين القرآن والموسيقى تتحقق في حناجر عشرات القراء، منهم عبد الباسط عبد الصمد، الذي كان يقرأ بالمقامات الأساسية وبعض تنويعاتها، وكان يجيد العزف على العود، ويمتاز صوته بجواب لامعٍ لا يفقد طاقته الشعورية وقدرته على التحزين والتطريب في أبعد مجالاته ارتفاعًا، مع تحكّم مُتقن في الوقف والإمالة والركوز، وعبد العزيز حصّان، أستاذ المقامات والتلوين النغمي، المُجِيد لسبع قراءات والقادر على الانتقال بين خزينة نغمية ومقامية تكتنز بالمقامات الأساسية وكثير من فروعها، مع تعبيرية تُغلّف أداءه، وابتكارات مدهشة في الوقف بصورة تُثري القراءة موسيقيًّا ودلاليًّا، كأنه يُقدّم طرحًا تفسيريًّا للآيات، والسيد متولي، الذي يملك صوتًا لامعًا متباعد الضفاف، مع إجادة للمدُود والعُرَب بصورة تضعه في عداد المطربين، وتوظيف للمقامات الأصلية لإنتاج متواليات تعبيرية ودلالية للآيات، ومحمد الهلباوي الذي حصل على إجازة التجويد من الأزهر ثم درس في معهد الموسيقى العربية، جامعًا بين تلاوة القرآن والإنشاد والتواشيح، وله تجربة مع أوبرا مرسيليا الفرنسية في مزج الموشحات بألحان "موزار"، ومحمود الشحات أنور، صاحب النفس الطويل والتنوّع بالغ الثراء بين القرار الرخيم والجواب شاهق العلوّ، مع مسحة مبهرة من امتزاج التطريب بالتحزين، وقدرة على الانتقالات المقامية السَّلِسَة وخلق تفاوتات إيقاعية أفقيًّا ورأسيًّا، وصنع نسيج نغمي ومقامي متعدد الأبعاد، بتجاور المقامات والتلوين في الجوابات والقرارات وارتفاع الصوت وانخفاضه، والحصري والفشني والبهتيمي والمنشاوي والنقشبندي والطبلاوي والشعشاعي والبنّا وطوبار وأبو العينين شعيشع وشعبان الصيّاد وحَجّاج السويسي وأحمد الرُّزيقي وسيد سعيد وراغب غلوش وحمدي الزامل وحجاج الهنداوي وعبد الفتاح الطاروطي وعشرات غيرهم، في كل المدارس والأجيال، أسّسوا لموجة هادرة من التطريب القرآني.
القارئ الراحل سيد متولي عبد العال في تلاوة من مقام الرست
آباء الغناء ومحاولات تلحين القرآن
لم تكن تجارب حمزة شكور ومحسن نامجو وعمر فاروق ومارسيل خليفة وغيرها ممّا أوردناه من قبل، المحاولات الوحيدة للمزاوجة بين القرآن والموسيقى، فالتاريخ البعيد يؤكد أن آباء الموسيقى والإيقاعات العربية كالفارابي والأرموي وابن سينا والكندي وإسحاق الموصلي وزرياب، وغيرهم ممن يضيق المقام عن ذكرهم، نشأوا في حظيرة القرآن، والتاريخ القريب يشير إلى محاولات مباشرة من عبد الوهاب والسنباطي وزكريا أحمد وسيد مكاوي وغيرهم لتأسيس هذه المزاوجة، ليس وفق رؤية تلاواتية قائمة على المقامات والمعمار الموسيقي فقط، وإنما وفق رؤية تلحينية تعبيرية شاملة.
القارئ الراحل محمد عبد العزيز حصّان
ربما كان الظهور الأول لفكرة تلحين القرآن حديثًا عبر دعوة تضمّنها مقال "القرآن والفنون"، في عدد مارس 1956 من مجلة "الأدب" التي كان يصدرها الشيخ أمين الخولي، إذ دعا كاتبه للمزاوجة بين القرآن والفنون الحديثة في إطار تقديم رؤية عصرية جمالية، وفي أغسطس 1958 نشرت صحيفة الأهرام خبرًا بعنوان «خمس سور من القرآن تم تلحينها» أوردت فيه أن مفتش الموسيقى بوزارة التعليم، واسمه صالح أمين، بدأ تلحين عدّة سُوَر لتوظيفها ضمن المناهج، وفي أكتوبر 1959 قالت صحيفة الأخبار إن زكريا أحمد يستعد لتلحين القرآن، وهو ما أشار صبري أبو المجد في "موسوعة أعلام العرب" إلى أنه كان رغبة قوية لدى "زكريا" لتوظيف التلحين في التعاطي مع القرآن، دون آلات موسيقية، سعيًا لحفظ المقامات العربية من التبدّل أو الضياع، في ضوء ما قاله هو نفسه في أحد الحوارات من أن "تجويد القرآن وقف عند حدود التطريب، وآياته تستحقّ أن تُلحّن تلحينًا تعبيريًّا يخدم ما فيها من صورٍ ومعانٍ، بعيدًا عن الاستعراض التقليدي للمقام وبراعة المقرئ"، لكنه اصطدم برفض الأزهر، ولعلّ هذا ما يُفسّر فكرة الإعادة التي أشار لها صالح جودت في مقال "مات شيخ الملحنين.. أراد أن يعيد تلحين القرآن"، الذي نشرته مجلة المصوّر بعد وفاة زكريا أحمد في 1961، إذ تؤكد الأخبار والوقائع الموثّقة أن الشيخ كانت له محاولات سابقة، وتجارب متلاحقة لإعادتها.
سورة الضحى بصوت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب
أبرز من حاولوا تلحين القرآن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وربما يرتبط الأمر بنشأته في أجواء دينية، بين "الكُتّاب/ مكتب تحفيظ القرآن" بمسجد سيدي الشعراني، وترتيله للقرآن في شبابه، كما تورد رتيبة الحفني في كتابها "عبد الوهاب.. حياته وفنه"، وتتلمذه على يد الشيخ علي محمود، قارئ القرآن وأستاذ الموسيقى، وتشير إحدى القصص المتردّدة عن علاقتهما إلى أنه في العام 1941 وخلال تلحين قصيدة الكرنك التي كتبها الشاعر أحمد فتحي، وانتقى منها "عبد الوهاب" عشرين بيتًا لغنائها، تعطّلت قدرات موسيقار الأجيال عند البيت الثالث عشر الذي يقول "أنا هيمان ويا طول هيامي..." فلجأ لأستاذه علي محمود، الذي أسعفه بانتقالة غيّرت أجواء الأغنية بأداء يقترب من طابع الشيوخ، ضمن بنية مقام "الرست" ذي القدرات الصوتية الواسعة، ليعود اللحن بعد هذه الانتقالة السريعة إلى أجواء عبد الوهاب الرومانتيكية الناعمة.
غلاف الهلال 1970 عن القرآن وموضوع المصور 1961 عن الشيخ زكريا أحمد
لعل أول محاولة لتعشيق عبد الوهاب للموسيقى مع أجواء النص القرآني كانت في قصيدة «دعاء الشرق» للشاعر محمود حسن إسماعيل، خلال خمسينيات القرن الماضي، إذ اعتمد لحنًا افتتاحيًّا للكورس كأنه ترتيل قرآني، تبعه رياض السنباطي خلال الستينيات في "الثلاثية المقدسة" للشاعر صالح جودت، في تجربة أدّتها "أم كلثوم" كأنها ترتيل أيضًا، على خطٍّ موسيقيٍّ واحد، فقيرٍ تقريبًا، ودون إيقاعات، ويقول عنها السنباطي في أحد الحوارات: "غنّت أم كلثوم آية من القرآن، وغيّرنا فيها حتى لا تبدو آية، هي والضحى والليل إن ما سجى، فلم نقل إذا سجى، حتى لا يُقال إنني أُلحِّن القرآن، وإنما هي محاولة من بعيد".
في عدد أصدرته مجلة الهلال في ديسمبر 1970 بعنوان "القرآن.. نحو رؤية عصرية جديدة"، أعدّ الكاتب ضياء الدين بيبرس تحقيقًا حول "تلحين القرآن بين أهل الفن ورجال الدين"، وفيه رفض الشيوخ الأمر برُمّته، وقال عبد الباسط عبد الصمد إن "القرآن مُلحَّن بطبيعته"، وفضّلت أم كلثوم إغلاق الباب من الأساس، بينما دعم عبد الوهاب الفكرة وقال إن له محاولات سابقة فيها، وصفها بالخاشعة والناضجة، مُفرِّقًا بين التجويد والتلحين، فالتجويد مدّ الحروف زمنيًّا لتحقيق الاستقامة والوضوح، بينما التلحين مجال دلالي يُعطي الآيات ما يناسبها من معانٍ، وبرّر رأيه بالقول إن "الآيات متباينة وسريعة الانتقال، ويؤدّيها القراء على نمط واحد، وقد يكون من الأفضل أن يتباين التعبير تباينًا يجعل المستمع يتدبّر الآيات، فتدبُّر القرآن هو منطلقي إلى فكرة تلحينه"، وأضاف: "أُقدِّر الخوف الذي قد ينبعث في الصدور، وأطمئن المشاعر الغيورة على الدين، فالقصد من كلمة تلحين عندي هو أداء كلام الله أداءً يُحاول أن يتفق بقدر الإمكان مع معانيه، وطبعًا أتصوَّر أن يستلزم الأمر نوتة موسيقية"، وأيّد السنباطي الأمر، مشترطًا أن يتصدّى له من تتوفّر فيهم شروط محددة، أبرزها العلم بالموسيقى والقرآن، ومعاصرة كبار القراء، وخوض تجربة روحية معه، ورأى أن هذه الشروط تنطبق عليه هو وعبد الوهاب فقط، متابعًا: "إذا لم ترتقِ الألحان إلى المعاني النورانية التي تنبثق منه، فحينئذ يجب ألا يُلحَّن القرآن".
الشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ عبد الباسط عبد الصمد يعزفان على العود

رأي أم كلثوم الذي أورده التحقيق يصطدم بما نقله عنها رياض السنباطي في أحد الحوارات، بقوله: "كان من أحلامنا أن أُلحِّن وتُغنّي سورة الرحمن، وقد حاولت شيئًا من ذلك، ولكن خفت"، بينما يقول أنيس منصور في مقال منشور بالعام 2004، إن عبد الوهاب "أسمعنا تلحينه لآيات من سورة الرحمن، وسألنا هل يمكن مصاحبة اللحن بموسيقى هادئة؟ لكنه ونحن أيضًا تردّدنا في ذلك، فسوف يساء فهمه"، وأشار أنيس منصور إلى أنه أراد أن يلتفت أحد إلى ذلك في تقليد الأذان بإحدى أغنياته، والتفت الناس، لكنهم لم يذهبوا لأبعد من أنه حاول أن يؤذّن، فلا أحد يقدر أن يقول إن عبد الوهاب يحاول أن يُلحّن القرآن"، ولكن أقوى ما أورده أنيس منصور وأكثره صدمة، قوله: "في إحدى ليالي رمضان جمعنا، نحن بعض أصدقائه، وقال: سوف أُسمِعكم شيئًا وأرجو ألا تُعلّقوا عليه، وأسمعنا تلحينًا لنصف سورة الرحمن مع موسيقى هادئة في الخلفية.. الله يا أستاذ، وبس".
الشيخ سيد مكاوي ورياض السنباطي والشيخ زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب
بجانب المحاولات السابقة، تتردّد حكايات عن محاولات للشيخ سيد درويش، والشيخ سيد مكاوي وغيرهما للاقتراب من القرآن تلحينًا، لكنها روايات غير ثابتة، ويظل الثابت أن فريقًا عريضًا من قُرّاء القرآن استفادوا من الطرب ودراسة الموسيقى، وطابورًا طويلاً من المُغنّين والمُلحّنين استفادوا من دراسة القرآن والإلمام بعلومه، وتبادلوا الفائدة، وهو ما يُلخّصه قول الشيخ المنشاوي في أحد الحوارات: "علّمت السنباطي القرآن وعلّمني المقامات"، وقد أخذت تجليات القرآن في مسار التطريب أبعادًا عدّة، سواء الفريق الذي دشّن طريقة الغناء المشايخية المعتمدة على اللعب بالإيقاع والترقيص والإمالة وترجيف الصوت وتعدّد المقامات في العمل الواحد واستخدام "ومضات" مقامية سريعة للانتقال بين الأجناس المختلفة، أو الفريق الذي خرج من عباءة غناء الشيوخ إلى نمط غناء مُتقن، يستدعي تقنيات الإنشاد وفيضه الزاخر من التلوينات والتطريب والشحن الوجداني، وتتّضح فيه المُدود والعُرَب في أداء مُتأنٍّ، ويتخلّى عن ترقيص الصوت، ويترك مجالاً واسعًا لكل مقام، بعيدًا عن الانتقالات الحادة والسريعة القائمة على ومضات خاطفة. وهو ما يُفصح عن نفسه بقوّة في تسجيلي محمد عبد الوهاب وسيد مكاوي لسورة الضحى، فرغم اختلاف الروح والصوتين وطبيعة المجال المقامي، فإن قدرًا من عِناق الغناء وتقنياته مع القرآن وعلومه، يبدو واضحًا ومُعلنًا عن نفسه في المحاولتين.
الشيخة مبروكة في تلاوة من سورة الإسراء
هل سرق المُتشدّدون نصف القرآن؟
الاشتباك مع مسألة موسيقى القرآن لا يمكن أن تتجاهل نقطة مهمة، تخصّ مساحة الثراء الطبيعي للنص، خارج جدل المَوسَقة والتلحين، وهو الثراء الطالع من حناجر البشر بتنوّعها، وعلى اختلاف مجالاتها الجمالية والتعبيرية، الثراء الذي لا يكتمل إلا بحضور المرأة والرجل جنبًا إلى جنب.
لن يكون البحث عن المرأة في رحلة تداول النص بحثًا شاقًا، ولكنه لن يحمل عطايا بقدر حضورها وتأثيرها اجتماعيًّا وثقافيًّا، فبين مئات الأسماء المتواترة في كُتب القراءات والتفاسير وعلوم التجويد، ستلحظ أسماء أمهات المؤمنين، عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم سَلَمة، على استحياء، وبتردّد يقترب من النُّدرة أكثر من الوفرة، بينما منطق الأمور يتّسع لتخيّل أن مئات الحافظات والقارئات حضرن بقوة في العصر الأول، وتناسلن وسلّمن الراية لأجيال بعد أجيال، وأنه ربما جرى تغييبهن عمدًا وبسبق إصرار.
إذا أحصيت قرّاء القرآن الآن، فالمؤكد أنك لن تجد بينهن امرأة واحدة، بينما يحمل لنا التاريخ القريب أسماء عشرات من البارعات، منهن "أم محمد" التي ظهرت في عصر محمد علي، وأحيت الليالي وسط قادة الجيش، وقرأت في قصر السلطان باسطنبول، وكريمة العدلية التي ذاع صيتها في بداية القرن العشرين، وتروي مجلة "الراديو المصري" في أحد أعداد أبريل 1936 أن الإذاعة قدّمتها مرتين في يوم واحد، الأولى في السابعة صباحًا قارئة للقرآن، والثانية مطربة في الحادية عشرة مساءً، وتزوّجت الشيخ علي محمود، القارئ الشهير وأستاذ الموسيقى العربية، الذي تتلمذ على يديه محمد رفعت وطه الفشني وزكريا أحمد وأم كلثوم وعبدالوهاب وكامل البهتيمي، وكانت "كريمة" أحبّ تلاميذه إلى قلبه.
الشيخة منيرة عبده في تلاوة من سورة آل عمران
يضم سجل قارئات القرن العشرين الشهيرات في مصر، الشيخة مبروكة، ومنيرة عبده، التي ذاع صيتها في 1920، وانضمت للإذاعة مع انطلاقها في 1934، وخوجة إسماعيل التي كنت مسؤولة عن التلاوات النسائية في الإذاعة منذ تقديمها للمرة الأولى في 19 أبريل 1936 بثلاث تلاوات في يوم واحد، وسكينة حسن، التي احترفت الإنشاد وقراءة القرآن، وسجّلت عددًا من الأسطوانات، ويروي إبراهيم عناني، عضو اتحاد المؤرخين العرب، أن الإذاعة اعتمدت 30 قارئة في 1934، لكنهن اصطدمن لاحقًا بفتوى ظهرت مع بدء الحرب العالمية الثانية بأن صوت المرأة عورة، ومن المفارقات في هذا الأمر قصة الشيخة أم السعد، التي تخصّصت في القراءات العشر ومنحت الإجازة لمئات القراء من أنحاء العالم الإسلامي، وكان سندها من أعلى الأسانيد وأشهرها بين دارسي القرآن، لكنها ظلّت ممنوعة عمليًّا، بالعُرف وتشدّد الفقه، من الحضور المُعلن بين القرّاء وأساطين التلاوة.
بالنظر للتاريخ، سنكتشف أن المرأة كانت حاضرة بقوة في عالم القرآن، فيحكي كتاب "أسد الغابة" عن الصحابية أم ورقة الأنصاريّة، التي استأذنت النبيّ في أن تتخذ مؤذّنًا في بيتها، فأذن لها، ويُروَى أنه كان يذهب لها ويسمع القرآن منها، وتشير كتب السير لعشرات أخريات أجدن القرآن حفظًا وترتيلاً، منهن أم الدرداء الكبرى، وأمها خيرة بنت أبي حدرد، وعمرة بنت عبد الرحمن، وأختها، وأم هشام بنت حارثة، المذكورة في صحيح مسلم، ورابطة بنت حبّان أَمَة علي بن أبي طالب، وحفصة بنت سيرين الأنصارية، التي قال عنها إياس بن معاوية: "ما أدركت أحدًا أُفضّله عليها"، واستمر الأمر في العصور التالية حتى زُبيدة بنت أبي جعفر المنصور في العصر العباسي، التي يُروَى عنها أنه كانت لها مائة جارية يحفظن القرآن، وكان يُسمع في قصرها كدويّ النحل.
الشيخة سكينة حسن في تلاوة من سورة النجم
وإذا نظرنا للمغرب العربي والأندلس، فسنجد عشرات النماذج التي توردها كتب التراجم، منهن عائشة القرطبية، التي قال عنها ابن حيان: "لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعادلها علمًا، وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف"، و"فضل القيروانية" التي كتبت مصحف جامع عقبة بن نافع، وعائشة البوزيدي، وأم العلاء العبدرية، وأم العز العبدرية، وزينب القرقولية، وعائشة الفاسية، وخديجة الدكالية، وخديجة الحميدي، ورحمة المكناسية، والسبع كُن أستاذات في سبع قراءات ويُجوّدن بها، ورُقيّة اليعقوبية التي كانت تُفسّر القرآن، وصفية بنت المختار وكانت مُلمّة بعلوم التفسير والتجويد، وللاغيلانة ابنة الفقيه محمد غيلان، وكانت قارئة وفقيهة تفتي النساء، وحبيبة الكتّاني، وشقيقتها خديجة، وتتسع القائمة لعشرات الحافظات من بيوت الفاسي، وابن سودة، والكتانيين وغيرها.
النظرة الفقهية للأمر تكشف أن عشرات الفقهاء دأبوا طوال قرون على ترديد أن صوت المرأة عورة، وما زال كثيرون من المشتغلين بالدين يذهبون المذهب نفسه، بينما لم يثبت في القرآن أو عن الرسول ما يؤكد هذه الرؤية، وعن هذا تقول الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، إن الأصل في الأمر أن صوت المرأة ليس عورة، وكانت الصحابيات يجلسن فى المحافل العامة ويشاركن بآرائهن، ولم يقل النبي أو أحد من الخلفاء الراشدين لهن إن أصواتكن عورة، بينما تُسجّل كتب السيرة روايات تؤكد أن الرسول استمع للغناء من نساء، وإذا جاز سماع المغنّيات مع ما يتداوله الفقهاء من شكوك حول الغناء، فالأَولى أن يكون سماع القرآن من النساء أحبّ وأكثر قبولاً.
النقطة المهمة في هذا الأمر، أن تغييب المرأة عن ساحة القراءة ليس مجرد سلوك اجتماعي وثقافي يخص بنية المجتمع وتركيبتها، ولكنه سرقة أو تبديد مباشر لنصف طاقة الموسيقى وثروة النغم في القرآن، فإذا تجنّبنا المقامات الموسيقية تمامًا، والتفتنا للمقامات الصوتية وما تختزنه الحناجر من نغم ومدارج تبيان وتعبير، سنجد أن الحناجر البشرية مُوزّعة على ستة مستويات، أو أنواع للأصوات: (سوبرانو، وميزو سوبرانو، وكونترالتو، وتينور، وباريتون، وباص)، وإذا كان لكل واحد من الستّة مجاله الموسيقي والأدائي، حتى ضمن بنية المقام الواحد، وكانت الثلاثة الأولى للحناجر النسائية، في مقابل ثلاثة للرجال، فإن تغييب النساء عن قراءة القرآن عسفًا، وبتوظيف موجّه للمرويات والتفاسير، هو في جوهره تغييب مباشر لنصف موسيقى القرآن التي تُنتجها الحناجر، أو سرقة عمديّة لها.

التجويد المُغلق والتَّرَنّم المفتوح
كان غناء العصر الجاهلي قائمًا على ترديد وزن يناسب وزن الشطر الشعري، وقد يُعاد إنتاجه مع الشطر الثاني أو يدخل عليه تغيير، وكان الغالب على الأمر توافق إيقاع الغناء مع إيقاع الشعر، ولم يتغيّر هذا إلا بظهور أسلوب الغناء المتقن الذي ابتكره "طويس" ومن تبعه من مغنّيي المدينة بعد الاختلاط بأسرى الفرس، وينقل المسعودي في "مروج الذهب" أن "الحُداء في العرب كان قبل الغناء، حيث كانوا يحدون به الإبل، وإنّ أول السماع والترجيع فيهم، ثمَّ ما لبث أن اشتُقّ منه الغناء، وانتشر بين العرب، حيث كان لهم به ولع شديد، وبالنسبة لقريش لم تكن في بادئ الأمر تعرف غير غناء النُّصُب، ثم ظهر فيها عزف العود المصاحب للغناء، وأقبلوا على غناء الجواري"، وإذا كان مناط الخوف من القراءة بالألحان في فكرة "التوقيع"، فإن في مقابل الغناء المنضبط بإيقاع ظاهر، هناك "الموّال"، وهو غناء ارتجالي بدأ في العصر العباسي، يعتمد على مقام موسيقي في إطار مُطلق مَسرود، لا تنتظم أضلاعه انتظامًا رياضيًّا متكرّرًا، ولا يحكمه إيقاع منضبط ومتساوٍ، أي أنه نمط من الترنّم الحرّ أو المفتوح، الذي لا يُقيّده زمن إيقاعي صارم، يشبه بدرجة كبيرة نمط التغنّي التقليدي بالقرآن، الذي شاع في العصور الأولى، ومن الأشكال أيضًا "النوبة الأندلسية" وهي تلحين في مقامات مختلفة، بإيقاعات مختلفة ومتباينة، يتم التبديل بينها في نسيج واسع متعدّد الانتقالات.
أما في علوم القرآن، لم يُعرف "التجويد" اصطلاحًا وعلمًا إلا مع القرن الرابع الهجري، والثابت أنه قام على الاستقراء الناقص، كما حدث الأمر في النحو، بُغية وضع أسس معيارية وصياغة ضوابط توقيفية للقراءة، وبحسب ابن الجزري فإن أول مُصَنّف في التجويد "القصيدة الخاقانية" الرائية لموسى بن عبيد الله في أوائل القرن الرابع، تبعه أبو الحسن علي بن جعفر السعيدي المتوفَّى في القرن الخامس، في كتابه "التنبيه على اللحن الجليّ واللحن الخفيّ"، ثم مكّي بن أبي طالب القيسي في كتابه "الرعاية"، وأبي عمرو الداني في كتابه "التحديد"، الذي يقول في مقدمته: "ما علمت أن أحدًا من المتقدمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب"، ما يشير إلى أن مسألة التوقيف في القراءة ووضع أحكام وضوابط لها لم تكن على صورتها الحالية قبل القرن الخامس، وفي كتاب "فن الترتيل وعلومه" يحدّد الشيخ أحمد الطويل مراتب القراءة بأنها: "التحقيق، أي المبالغة في المدود وتمثّلها القراءة الحجازية برواية ورش عن نافع، والترتيل أي إتقان الوقوف وتمثّلها القراءة الكوفيّة برواية حفص عن عاصم، والحدر أي القراءة السريعة برواية قالون عن نافع"، ولكن تقسيمًا آخر يعتمد مراتب القراءة باعتبارها: التحقيق والتدوير والحدر، ويقول إن الترتيل هو صفة الإبانة والإيضاح الحاضرة في المستويات الثلاثة، بينما التدوير هو مستوى وسيط في سرعة القراءة مع التبدّل بين السرعة/ الحدر، والبطء/ التحقيق، وبحسب التقسيمين فإن مراتب القراءة لا تعدو كونها مسالك إيقاعية للتعامل مع القرآن لإنتاج مستويات من الألحان.
وفي عملية التلحين يمكن أن يعمد المُلحّن لطريق من اثنين: إما أن يضع فكرته مرفقة بإيقاع محدّد، أو أن تكون الفكرة مُرسلة دون إيقاع محدّد، ليأتي الإيقاع تاليًا، أو يمكن الاستغناء عنه والاستعاضة بآلة نبر كالعود لتنظيم إيقاع اللحن، أو أن يكون التنظيم قائمًا على الغناء وصوت المغنّي نفسه، إما بالفواصل المتماثلة، أو بالركوز وأزمان الوقف والترخيم وتأخير النبر، وبينما يرتبط الغناء بالتلحين، فإن للتلحين نفسه مستويين: الموزون بالإيقاع، أو المطلق المسرود، وفي الأخير ينتظم الإيقاع عبر ضبط الفواصل وتوالي الجمل النغمية المتماثلة، ولا يُشترط في التلحين استخدام الموسيقى كمظهر وحيد للغناء، إذ يمكن الأداء بالصوت وحده، ويمكن أيضًا اعتماد الصوت وسيلة لتوليد الموسيقى، كما في طريقة ال"أكابيلا" ونموذجها الأشهر أغنية "طمني كلمني" للمطرب الراحل محمد فوزي، إذ يتم توظيف الأصوات البشرية في لعب الجمل اللحنية من مستويات الأصوات والتآلفات المختلفة، لتلعب دورًا مزدوجًا في آن، هو الخلفية النغمية، والتنظيم الإيقاعي، صانعةً حالة التطريب الكاملة.
الفنان محمد فوزي والمجموعة في أكابيلا "كلّمني طمّني"
الإجادة والإمتاع.. عناق القراءة والطرب
الطرب بحسب كتاب الدكتور معلا غانم "طَرَب وعُرَب" يتجلّى في حروف المدّ، بينما تتجلّى العُرَب في الحركات (فتحة، ضمة، كسرة، سكون)، فحركة السكون تعطي الأرضية الثابتة، أي مستوى الصمت المعياري، ما يبرز حركتي ما قبلها وما بعدها، بينما تعطي الشدّة قمة صوت الحركات، والمسافة الفاصلة بين المستويين هي المجال العُرَبي، أي أن الطرب فن ظاهر والعُرَب طرب خفيّ أو مُبطن، إذ إنها نمط في الإيضاح والإفصاح اللغوي، ومن هذا الباب يمكن القول إن كل قارئ مُجيد يمتلك مجالاً عُرَبيًّا واضحًا، أي يمتلك شطرًا من الطرب، ومع قدرته على توظيف حروف المدّ توظيفًا ممتعًا وجماليًّا، فإنه يحوز الطرب من جوانبه، أي يصبح مُطربًا بالقرآن، وهذا ينطبق على قُرّاء العصر الأول، وعلى فقهاء العصور التالية الذين حرّموا التطريب بالقرآن، بينما يتحقّق التطريب في قراءاتهم، وفق نطاقات ثقافية وجغرافية متنوعة بتنوع المنشأ ومسار المعرفة.
يُمكن ملاحظة فارق التأثّر والتأثير الثقافيين للمجتمعات في أنماط الأداء القرآنية، بالنظر إلى خريطة انتشار القراءات ومسالك القُرّاء في أدائها، فبينما تنتشر قراءة الدوري عن أبي عمرو في السودان، بطبيعتها المناسبة لحناجر أهل المنطقة من شيوع الإمالة وقلة العناية بالهَمز، تشيع قراءة ورش عن نافع في المغرب بطابعها المقترب من الحدر، بما يتناسب مع أجواء الموسيقى والغناء الأندلسيين المنتقلين للمغرب العربي، وبينما تفوح رائحة المقام العراقي التقليدي في قراءات وأذان العراقيين، الذي يحتاج صوتًا قويًّا عريضًا ذا مساحة ممتدة في الجواب والقرار والميانة والبحّة، يعتمد النجديون على التحزين بقماشته التقليدية، ويؤسس القرّاء المصريون معمار تلاوتهم على الخزينة النغمية لأنماط الغناء المُتقن وسلالم وتآلفات المقامات الموسيقية، والغريب أنه بينما يقرأ المغاربة برواية "ورش" المصري، يقرأ المصريون برواية حفص الكوفي، وهي رواية سهلة ويسيرة تساعد على التمكين والتحقيق، وتخلو من التعقيد الذي يشيع في روايات أخرى، ككثرة الإمالة في قراءة حمزة والكسائي وخلف، وإشباع المدّ في المنفصل والمتّصل، والسَّكْت المُتكرّر على الهَمز الذي قبله ساكن، موصولاً كان أم مفصولاً، والوقف على الهمز في قراءة حمزة وهشام، وإمالة هاء التأنيث في الوقف عند الكسائي، والمدود في قراءة ورش، أو صلة ميم الجمع وسكونها واختلاف المدّ المنفصل في قراءة قالون، والصلة المتكررة في قراءة ابن كثير المكي وأبي جعفر المدني، وكثرة الإدغام للمثلين المتقاربين في رواية السوسي عن أبي عمرو، أو العمل في الهمز المتتالي في كلمة أو كلمتين عند نافع وابن كثير.

علوم الموسيقى وعلوم القرآن
يقول الجاحظ عن الموسيقى: "كانت في نظر الفُرس أدبًا، وفي نظر الروم فلسفة، أما في نظر العرب فأصبحت علمًا"، ويقول ابن خلدون في فصل صناعة الغناء ضمن مقدمته الشهيرة، إن "أول ما ينقطع في الدولة عند انقطاع العمران صناعة الغناء"، التي يُعرّفها بأنها "تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع كل صوت منها توقيعًا عند قطعه فيكون نغمة، ثم تُؤلّف تلك النغمات بعضها إلى بعض على نسب متعارفة"، ويُفسّر عدم تطور الغناء إلا بعد توسع الدولة الإسلامية وتناميها بأن "صناعة الغناء تنشأ في مجتمعات الترف التي تجاوزت مراحل الضروريات إلى الكماليات، ليبدأ المجتمع التفنن في المتع".
ويُميز الدكتور نداء أبو مراد، عميد كلية الموسيقى في الجامعة الأنطونيّة بلبنان، في كتابه "السيمياء المقاميّة"، بين اللغة واللسان والكلام في علم اللسانيات، فاللغة كفاية مشتركة عند البشر، واللسان يوازي المقام الموسيقي المحدّد للتخاطب من خلاله، والكلام يسري عبر نظام محدد لإنسان محدد في لحظة محددة، ويشير لثلاثة أنساق موسيقية: النسق الإبراهيمي الذي يؤدي الكلمة في قراءة ترتيلية تبليغية، ونسق تشاركي ديني يقود للنشوة، نراه في قالب التوشيح بين الشيخ والبطانة أو التحميلة بين العازف والتخت، ونسق إنشادي يتمثل في الأهازيج الشعبية، وهي أنساق غير منفصلة تمامًا، ويحدث أن يتداخل أحدها مع الآخر لتُنتج أنساقًا جديدة تحمل سمات مشتركة وآليات توصيل وإمتاع مبتكرة، ويصل في فكرته إلى أن درجات الارتكاز النغمية (البيوت) هي التي تُشكّل أساس الجُمل اللحنية للمقامات، كما تُشكّل الحروف تراكيب الكلمات، ويمكن اقتباس منهجيات حديثة كنظرية النحو التوليدي لدى نعوم تشومسكي لفهم آلية إنتاج النصوص الموسيقية انطلاقًا من بنية المقامات، وبالتبعية إنتاج مزيد من النصوص والنغمات.
أستاذ الموسيقى نداء أبو مراد
أما عن المقامات نفسها، فالمقام الصوتي هو مستوى اهتزاز النبرات ومجالها الزمني والتردّدي، وهو الطابع الذي يمتاز به صوت مُعين، فصوت الأسد يعطي مقام الرست، والديك يعطي الصبا، والمقام الموسيقي بناء يتكون من أجناس وعقود، فكل مقام يتكوّن من جنسين أساسيين وأجناس فرعية، وكل جنس أربع درجات صوتية، وأحيانًا ثلاث، أما العقد فهو تآلف خمس درجات صوتية، وتتوزّع المقامات بين مستويين بنائيين فيما يخص الفواصل: مقامات تحتوي على ثلاثة أرباع النغمة (الحجاز والصبا والرست والسيكا والبياتي)، ومقامات حدّها نصف النغمة (النهاوند والكرد والعجم)، ولكل من المقامات الأساسية الثمانية وفروعها مجالات دلالية، فالصبا مقام عاطفي جياش بالمشاعر يليق بالآيات الروحانية ويصلح للتحزين والتطريب ويناسب آيات الحزن والندم وأهوال يوم القيامة، والنهاوند يبدأ من أول السُّلَّم لأعلاه وهو مقام السراب وضياع الأمل ويغلب عليه الحزن والخشوع ويناسب آيات الشوق والحب والمناجاة، والعجم فيه قدر من التعظيم والرفعة والصخب والرجولة ويقابل سُلّم "دو ماجير" في الغناء الغربي وتكون كل نغماته "بيكار" أي في صورتها الأصلية دون رفع أو خفض ويناسب آيات العزة والنصر واستشعار الهيبة والجلال الإلهي، والبياتي مقام أُنس وطَرَب وهو ذو مدى مُتّسع للأحوال المُتقلّبة والمتبدّلة ويدل على الحزن في بعض فروعه ويناسب آيات التوحيد والعقيدة، والسيكا وهو مقام تطريب وإمتاع ذو طابع عاطفي حاد يمتاز بالبطء والترسّل ويدفع للتدبر والتفكر في الآيات وإظهار الفرحة والسرور، والحجاز مقام شوق وحنين مُفعم بالحزن يصلح للتأمل والآيات الحزينة أو المتعلقة بيوم القيامة، والرست مقام قوي قويم يمتاز بالأُبّهة والفخامة والمرونة ويصلح لاستعراض الصوت والتطريب ويناسب آيات القصص والتشريع والجنة ونعيمها، والحجاز التركي ويمتاز بالحزن والأسى وبمجال رحب في أدائه الموسيقي، والكُرد سلس في أدائه قريب من الأذن يبدأ من درجة (الري) وينتهي بها ويصلح لآيات الإرشاد والتوجيه ومعجزات الأنبياء وعظمة الله وصفاته.
الطبيعة التعبيرية للنغمات أشار لها ابن سينا بقوله: "بعض النغمات يجب أن تُخصَّص لفترات معيّنة من النهار والليل، ومن الضروري أن يعزف الموسيقار في الصبح الكاذب نغمة راهوي، وفي الصبح الصادق حسيني، وفي الشروق رست، وفي الضحى بوسليك، وفي نصف النهار زنكولا، وفي الظهر عشاق، وبين الصلاتين حجاز، وفي العصر عراق، وفي الغروب أصفهان، وفي المغرب نوى، وفي العشاء بزرك، وعند النوم مخالف"، والأمر نفسه أوضحه صفي الدين الأرموي في حديثه عن شدّ أوتار الآلات، أو الدوزان، قائلا: "منها ما تؤثر قوة وشجاعة وبسطًا، وهي ثلاثة: عشاق وبوسليك ونوى. أما رست ونوروز وعراق وأصفهان فإنها تبسط النفس بسطًا لذيذًا لطيفًا، وأما بزرك وراهوي وزيرافكند وزنكولا وحسيني فإنها تؤثر بحزن وفتور".
وبجانب المقامات وطبيعتها هناك ملمح يميز قارئًا عن قارئ، يُعرف ب"الراحلة"، ويُقصد بها الحدّ الذي يتعامل به الصوت مع النغمات صعودًا وهبوطًا، وهي أربع رواحل: الحجازية وتعتمد على المرونة ونحت الصوت بنحافة ودقة دون تفخيم أو تطريب، وراحلة التطريب وهي مستويات متصاعدة تعتمد على تنغيم الصوت وانفتاحه وتتطلب مهارات كبيرة، والعراقية وهي راحلة تحزين تمتاز بالخشوع وإبراز الآهات والشجن، والشامية وتعتمد على التحقيق والتشديد على المَخرَج، والأفريقية وتشيع في السودان والصومال وتشاد ومالي والسنغال، ولا تتحرّى المخرج، معتمدة على القصبة الهوائية والحلق، فيصدر الصوت فيها قصيرًا نحيلاً دون مطّ أو تنغيم.
الشيخ محمد رفعت في أحد الابتهالات الدينية
قراء الألحان يكتبون دستور التلاوة
أهم ما يتجلّى من استعراض كل هذه الجوانب، أن دعوة الرسول للتغنّي والتحزين وتزيين القرآن بالأصوات لا يمكن أن تتحقّق إلا بقدر من الإضافة التي يصنعها الصوت البشري، وإذا كان الكلام في ذاته مُحايدًا، فإن التحزين والتزيين والتغنّي صفات أداء لا قراءة عادية عارية من الموسيقى، إذ لن يتحقق لقارئ أن يتغنّى ويتحزّن إلا لو سكب شيئًا من شعوره بالنص، وطبع به صوته، مؤدّيًا بمدّ وتلوين وتفاوتات إيقاعية، وهي القيم نفسها التي تحملها المقامات الموسيقية، وهكذا يمكن القول إن الرسول - ولو لم يُشر للمقامات في دعواه، إذ لم تكن عُرفت وقتها - فإنه في حقيقة الأمر لم يكن يقصد بهذه الدعوة إلا ما نعرفه الآن من القراءة بمقامات الموسيقى.
الشيخ محمد عمران مع عبد الوهاب والشيخ سيد النقشبندي مع أم كلثوم
الناظر في القيم الموسيقية للمقامات العربية سيجد أن من بين ثمانية مقامات أساسية، سبعة مقامات تنحو للحزن، في مقابل مقام وحيد يقترب من البهجة في شكله الأساسي، ولكن بعض تنويعاته تنتج أنماطًا أدائية تحزينية، ما يؤكد أن توظيف المقامات في خدمة القراءة لا يخرج بالأساس عن دعوة التحزين، كما لا يخرج عن دعوة التغنّي، وإذا كان الأمر على تشعّبه وامتداد ضفافه لا يشي بصورة من الصور بأن القرآن أو الرسول حرّما الغناء أو الموسيقى، أو حرّما التغنّي بالقرآن، أو قراءته على الألحان والمقامات، فإن سؤالاً مُركّبًا يُثار حول مُنجز فقهي ضخم ينحو منحىً مُعارضًا ومُتشدّدًا تجاه الأمر، ولا يردّ هذا السؤال أو ينفيه أن التغنّي قائم بالفعل، إذ إن بقاء التعاطي الفقهي مع الأمر على صورته الموروثة، يسمح لمن شاء من المتشدّدين بأن يُخرج طوابير القُرّاء في عموم البلدان الإسلامية حاليًا من حظيرة القرآن وضوابط القراءات السليمة.
القول الذي يحتج به البعض بتوقيفية القراءة لا يبدو أنه يصمد طويلاً أمام اختلاف وتنوّع القراءات القائمة، وأضعافها من الاختلافات التي طمرتها عملية الانتقاء للقراءات الأربع عشرة الصحيحة والشاذة، من بين عشرات القراءات التي أطلق عليها الراصدون والجامعون رصاصة قاتلة وواروها التراب، ورغم هذا فإن ما يتوفّر في القراءات المُعتمدة حاليًا من مسموحات في المدود والهمز والإمالة والترقيق والتفخيم والإدغام، يكفي لإنتاج أنماط عديدة ومُتّسعة من التغنّي، وفق ضوابط لا تخرج على صحيح النص، وفي الوقت ذاته تستفيد من المُنجز الموسيقي والمقامي الكبير الذي أنتجته الثقافة الموسيقية العربية والإسلامية.
الثابت في الأخير، أن تجارب حمزة شكور ومحسن نامجو وعمر فاروق ومارسيل خليفة وطلال سلامة وأوبرا جاكرتا وغيرها، وإن تعدّدت الملاحظات بشأنها، فإنها تظل احتمالاً قابلاً للتكرار وإثارة الضيق والملاحظات، في ضوء رؤية فقهية رسميّة تُغلق الباب في وجه المزاوجة العميقة بين القرآن والمقامات، والتجريب في هذا الإطار، ولكن رغم هذه الرؤية التضييقية، ما زال مئات القرّاء على امتداد البلدان العربية والإسلامية يكتبون دستور دولة التلاوة في شكله العصري المتطوّر يومًا بعد يوم، بحناجر حدودها التقديس والإيمان بالنص الذي لا نهاية لإعجازه البديع، وملؤها الأنغام والمقامات التي لا نهاية لسحرها وتجلّياتها المبدعة.
القارئ المصري محمود الشحات أنور
القارئ المصري عبد الفتاح الطاروطي
القارئ الإماراتي عبد الله البريمي
القارئ العراقي عامر الكاظمي
القارئ العراقي رعد الكردي
القارئ المغربي يونس اسويلص
القارئ الإيراني حامد شاكر نجاد
القارئ التركي محمد بيلير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.