مما لاشك فيه أن فن تلاوة القرآن الكريم وتجويده هو من الفنون التي احتلت مكان الصدارة ، مما عرفته الحضارة الإسلامية من فنون الإنشاد الديني . . وقد كان لمصر منذ الفتح الإسلامي إسهامات كبيرة في هذا المجال . ولقد شهد فن التلاوة في مصر ازدهاراً كبيراً - كما يقول د. نبيل حنفي محمود - خاصة في العقود الأربعة ، فيما بين ثلاثينات وسبعينات القرن الماضي / العشرين ، مما جعل بعض أهل العلم يقولون: "القرآن الكريم نزل بمكة ، وقُرئ في مصر ، وكُتب في اسطنبول". والقرآن الكريم - حسب قول الشيخ " أحمد عامر" الأمين العام المساعد لنقابة قُُرَّاء ومُحَفظي القرآن الكريم "عبارة عن 28 حرفاً ، هي الحروف الأبجدية ، إذا نَطقت كل حرف في مكانه وأعطيته حقه ومساحته التي حددها علماء الصوتيات ، وفقهاء اللغة ، دون تَعد من حرف علي حرف ، أو إعطاء جزء من حق حرف لجاره ، فاعلم أنك ستجد سهولة ويسراً في حفظك للقرآن الكريم" التلاوة ومقررات التجويد والترتيل لكن إذا اطلعنا علي مناهج ومقررات التجويد والترتيل في الجامعات المصرية والعربية، سوف نجد أنها خالية من كيفيات وأوصاف ونعوت جليلة لقراءة النبي وتلاوته وتَرتيله وتَرسلِه ، فقد كان يحب الصوت الحسن في قراءة القرآن ، ويعجبه ويشده للاستماع إليه، ويثني علي صاحبه، وكان يرغِّب في التغني بالقرآن، ويحث علي تحسين الصوت في تلاوته، ومن أوصاف ونعوت تلاوته أمور تعد من اصول علم قواعد التجويد والتغني بالقرآن وتحبير الصوت به، يجب أن يعرفها كل دارسٍ لكتاب الله تعالي، ولا يجب استبعادها من مقررات التلاوة والترتيل . ونظراً لغياب هذه الأوصاف ، من المقررات الدراسية وكتب التجويد، نجد أن الناس استحدثوا أصواتاً وألحاناً وأوزاناً ومقامات ، أُقحِمتْ علي فن التلاوة ، وذلك تحت شعار تحسين الصوت، مستغلين في الترويج لها الأحاديث الشريفة الواردة في الحث والترغيب علي تحسين الأصوات في تلاوة القرآن، واستغلوا تشبيه النبي- صلي الله عليه وسلم- لحسن تلاوة "أبي موسي الأشعري" وجمال صوته ، بمزمار "داود" عليه السلام ، وقالوا إن "داود" كان يقرأ "الزابور" بسبعين (مقاماً) ، فحذفوا كلمة (لحناً) ووضعوا بدلاً منها كلمة (مقاماً) . ولقد كان تشبيه النبي - صلي الله عليه وسلم- حسن تلاوة "أبي موسي الأشعري" وجمال صوته بمزمار "داود" عليه السلام ، خاصاً بالصوت فقط ، ولا شك أن (الزابور) يمكن أن تليق به مثل هذه الألحان ، وذلك لأنه خال من الأحكام ، فهو عبارة عن مواعظ وتسبيح وتحميد وتمجيد . إن أوصاف ونعوت قراءة النبي - صلي الله عليه وسلم- للقرآن الكريم ، لاشك أنها تُشكِّل لطلاب حفظ القرآن الكريم ومقرراته نبراساً ونوراً ، يضيء لهم قواعد الترتيل والتلاوة وتعصمهم من كل دخيل . نعم إن التغني والتَرَنم بالقرآن الكريم وتجويد لفظه وتحسين الصوت في تلاوته ، من شأنه أن يبعث علي الإنصات ، كما أنه أوقع في النفوس وأنفذ إلي القلوب ، وأبلغ في التأثير ، وأعون علي الفهم والتدبر ، وكل ذلك إنما يحصل بتطبيق قواعد التلاوة ومراتب الترتيل ، لا بالمقامات والأوزان الدخيلة المستحدثة . ولقد عرفنا من شيوخنا ، من ليس له حسن الصوت ولا معرفة بالمقامات والألحان ، إلا أنه إذا قرأ أطرب المسامع ، وأخذ من القلوب بالمجامع ، واجتمع علي الاستماع إليه أمم من الخواص والعوام ،بل من يعرف اللسان العربي ومن لا يعرفه..!! جبريل المعلم . . كان يدارس النبي- صلي الله عليه وسلم- القرآن في كل رمضان : لقد أرسل الله تعالي رسوله جبريل عليه السلام ، ليعلم النبي - صلي الله عليه وسلم-كيفية التلاوة والقراءة ، وأمره تعالي بأن ينصت لقراءة جبريل ، فإذا ما انتهي جبريل من القراءة، كان عليه أن يتابع التلاوة بنفس الكيفية ، كما نهاه عن العجلة في التلاوة ، ووعده ببيان المعاني وبعدم نسيانه للقرآن الكريم . . "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيانَهُ" «19» القيامة . . "فَتَعَالَي اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يقْضَي إِلَيكَ وَحْيهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً. ." (طه) . . "سَنُقرئُكَ فلا تنسي" (الأعلي) ولم يترك الله تعالي النبي - صلي الله عليه وسلم- ولم يكله إلي نفسه وحفظه للقرآن ، فكان يرسل إليه جبريل مراراً وتكراراً ، ليذكره ويعارضه ويدارسه القرآن ، في كل رمضان ، وذلك تأكيداً للحفظ وبياناً للناسخ والمنسوخ ، وقد عرض جبريل عليه السلام القرآن علي النبي- صلي الله عليه وسلم- مرتين في العام الذي قُبضَ فيه. ولما خاف النبي - صلي الله عليه وسلم- أن يشق علي أمته في تَعلُّم القرآن الكريم ، علي حرف واحد ، توجه إلي الله تعالي بالدعاء، يسأله التخفيف ، وراجع جبريل عليه السلام أكثر من مرة ، يسأله الزيادة من الحروف تخفيفاً علي أمته . . قال "أقرأني جبريل علي حرف واحد فراجعته ، فلم أزل أستزيده ويزيدني ، حتي انتهي إلي سبعة أحرف" (متفق عليه) . لقد استجاب الله تعالي لدعاء نبيه - صلي الله عليه وسلم- وأوصل هذه الحروف إلي سبعة ، كلها كافٍ شافٍ ، وبذلك وَسَّعَ الله تعالي علي أمة محمد - صلي الله عليه وسلم- في قراءة القرآن الكريم علي وجوه متعددة ، ولم يكن منها المقامات والأوزان المستحدثة . وروي عنه أنه اتخذ حزباً من القرآن ، وكان يكره أن يؤخره ، وعندما سمع الصحابة ترتيله وترسله ، كانوا يحاكون قراءته ووصفوها بأوصاف ونعوت جميلة . ولقد نقل الصحابة رضي الله عنهم للتابعين وصفاً دقيقاً لتلاوته فكانوا يقلدونه أيضاً ويحاكون قراءته ، التي وصلتهم من الصحابة ، ولقد روي الإمام أحمد ، عن أبي عَوَّانة عن موسي بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جُبير قال : قال لي ابن عباس : "أنا أحرك شفتي ، كما كان رسول الله - صلي الله عليه وسلم- يحرك شفتيه" وقال لي سعيد بن جبير : "وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه." ، فهذا ابن عباس يقلد النبي - صلي الله عليه وسلم- ويحاكيه في قراءته وهذا سعيد بن جبير يقلد ابن عباس ويحاكيه فيما قلد فيه النبي - صلي الله عليه وسلم- . ويصف "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه قراءة النبي - صلي الله عليه وسلم- فيقول :"كان إذا قرأ قرأ حرفاً حرفاً بترتيل ، ويحدر حدراً." وقد سمع ابن عباس قراءة النبي في حجرته فقال : "لو شاء حافظٌ أن يحفظها لفعل" . ولقد حفظت "أم هاشم بنت الحارث" سورة (ق) - 45 آية ، من سماعها لقراءة النبي - صلي الله عليه وسلم- وذلك لسلامة وعذوبة تلاوته ، ولشدة وضوح حروفها . وهذا "عبد الله بن مسعود " يقول " أخذت من في رسول الله - صلي الله عليه وسلم- أكثر من سبعين سورة " وكان يمدحه ويثني عليه ويحيل علي قراءته ويقول : " من سره أن يقرأ القرآن غضاً طرياً ، فليقرأ بقراءة ابن أم عبد " - يقصد عبد الله بن مسعود . وكان يرَتّل السورة ، فيمد حروف المد مداً ، ويقطِّع في قراءته آية آية وحرفاً حرفاً ، وكان في تلاوته يتدبر ويفكر ويتأمل ، فلم يكن يمر بآية تخويف إلا دعا الله تعالي واستعاذ به ، ولم يكن يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورَغِبَ إليه وشكره، وما سُمِعَ في التلاوة أحسن من صوته ، وكان يحث ويرغب في تحسين الصوت عند قراءة القرآن الكريم . فقراءة القرآن الكريم بالمقامات والأوزان ، ليست من قراءة النبي - صلي الله عليه وسلم- في شيء ، وكل من قرأ علي خلاف قراءته وما نقله أئمة القراءات وهو يستطيع ذلك ، يعد مخالفاً ، لأن صفة التلاوة متواترة كتواتر القرآن الكريم ، وكيفية القراءة توقيفية ، وقد قال :اقرأوا كما عُلِّمتم " (صححه ابن تيمية). نعم إن تحسين الصوت وتزيينه مطلوب بقدر الإمكان وبقدر الاستطاعة، أما تعليم هذه المقامات المزعومة وتنزيل ترتيل القرآن عليها، بخفض الصوت ورفعه ليوافق النغم الموزون، فهذا ما أنكره العلماء وتشددوا فيه . مراتب الترتيل ولقد لبث الناس في الصدر الأول للإسلام يقرأون بالترتيل بأنواعه وكيفياته الثلاث (تحقيقاً وتوسطاً وحدراً) وتلك هي من المراتب المأمور بها في الترتيل ، حتي طرأ علي الترتيل ما يعرف بالمقامات والألحان . "فعندما تأسس الجامع الأزهر بالقاهرة 359ه / 970م علي يد "جوهر الصقلي" ، أحد قواد "المعز لدين الله الفاطمي" ، أول خلفاء الفاطميين في مصر ، شهدت مصر اهتماماً عظيماً من الخلفاء الفاطميين بقراءة القرآن بالألحان . . " المفسرون وعلماء الحديث إن ما أحدثه المُتَكلِّفون في تلاوة القرآن الكريم بالألحان والمقامات (بَياِتي - حجاز - سيكا - وغيرها) . . جعل الكثير من العلماء يؤولون أحاديث النبي - صلي الله عليه وسلم-الواردة في الحث علي تحسين الصوت ، علي معني ترقيق القراءة. وقد ذهب فريق من علماء الحديث إلي القول بأن المقصود بهذه الأحاديث التي جاءت في هذا الصدد ، هو الحث علي اتباع قواعد التلاوة الصحيحة والابتعاد عن كل ما هو نشاز في تلاوة القرآن الكريم، وأنه إذا ما اتبع القارئ هذه القواعد، وكان ملماً بعلوم القراءات وأحكامها ، فسوف تأتي تلاوته حسنة جميلة ، تنفد إلي القلوب والعقول. وفسر بعض العلماء قوله "زَينّوا القرآن بأصواتكم " ، أنه ليس المقصود بذلك تزيين آيات القرآن الكريم وكلماته - حاشا لله وتنزه كلامه سبحانه وتعالي عن ذلك - بل المقصود هو تزيين وتجميل طريقة التلاوة ، وذلك باتباع القواعد الصحيحة، التي إذا ما اتبعها القارئ فسوف ينطلق صوته جميلاً غضاً طرياً ، نتيجة التزامه بقواعد القراءة، كما كان يفعل وكما وصلتنا متواترة . وأجمع المفسرون وعلماء الحديث ، أن التغني بالقرآن وتجويده ليس معناه الغناء بمفهوم عصرنا الحالي ، إنما هو إعطاء الحروف حقها من اتباع المد وتحقيق الهمز وإتمام الحركات وتوفية الغُنَّات وتفكيك الحروف، وذلك في إطار إيقاع خفي ، يتولد من النغمة التي يقرأ بها القارئ. وهناك العديد من الفتاوي والآراء التي تُحرِّم تلاوة القرآن الكريم علي المقامات الموسيقية ، علي أساس أنه لا يجوز مطلقاً ، خلط المقدس / كلام الله تعالي ، بكلام البشر وصنعهم وابتداعهم / الموسيقي ، والتي تعد - حسب العلماء - من أدوات ومقدمات الفسق والمجون . أما بخصوص بعض الأحاديث ، الواردة عنه مثل الحديث الذي رواه (أبي هريرة) رضي الله عنه : "ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي يتغني بالقرآن ويجهر به" ، وحديث "معاوية بن قُرَّة"، عن "عبد الله بن مغفَّل" : "قرأ النبي - صلي الله عليه وسلم- في عام الفتح، في مسيرٍ له سورة الفتح، وهو علي ظهر راحلته / ناقته ، فرجَّع في قراءته"، وقد فسر علماء الحديث ذلك بأن النبي - صلي الله عليه وسلم- ضرب المثل أكثر من مرة علي مفهومه للتغني وأنه ليس المقصود به الغناء، أما ترجيعه أثناء تلاوته وهو علي ظهر ناقته، اثناء سيرها، فإن ذلك كان ترجيعاً اضطرارياً، أي أنه لم يكن مقصوداً، فقد كانت الناقة تهز جسده الكريم أثناء سيرها وهو فوق ظهرها . وأما "الإمام القرطبي" رضي الله عنه ، نجده قد حَرَّم استخدام المقامات والأوزان في تلاوة القرآن الكريم ، فعندما سمع بعض قراء عصره ، يقرأون بهذه الألحان والأوزان المحدثة ، حكم علي قراءتهم بالحرمة ، بل ودعا عليهم ، وشبه تلحين قراءتهم بلحون أهل الفسق والكتابيين . وقد أنكر الإمام "أبو زهرة" رحمه الله تلاوة القرآن الكريم بالألحان والتطريب ، وقال عنها إنها ألحان أعجمية . وأنكر معظم أهل السلف هذه القراءات التي تستخدم المقامات والأوزان ، بل ونهوا عن سماعها ، وقالوا عنها إنها (غناء) وليست من التلاوات القرآنية الصحيحة. وخلاصة القول. . إن أصل هذه المقامات والأوزان المُحدَثة - حسب أئمة القراءة - هي من الغناء الفارسي ، وهي دخيلة علي الترتيل ، المأمور به في تلاوة القرآن الكريم ، كما أنها لا صلة لها مطلقاً بعلم القراءات ولا بقواعد التجويد. وما ورد عن النبي - صلي الله عليه وسلم- من التغني بالقرآن ، فإنه ليس من هذه الألحان المحدثة بشيء ، وإنما المراد به هو تحسين الصوت ، وتحقيق اللفظ وحفظ الحروف ، ومراعاة الوقف ، مع الابتعاد عن كل ما هو نشاز في القراءة والتلاوة ، وبهذا تخرج أصواتنا في تلاوتنا للقرآن ، غضة طرية حسنة خاشعة ، تخلب العقول والقلوب ، فيكون لها أعمق التأثير في العقل والقلب معاً .