المواطن الإيطالى إيتالو كالفينو ذكى جدا، وبالتعبير الدارج «قرارى»، وهو أيضا لا مرئى جدا؛ لذا فقد ألّف كتابا سماه «مدن لا مرئية» وهو يقول عنه رواية، ونحن نقول له: لا يا إيتالو لا، إنه ليس رواية، وإنما هو قريب جدا من كتب التاريخ والتراث والطرائف واللطائف، أو هو بالأدق نتف متناثرة من التراث مجمعة مثلما نرى عند الكتّاب الذين ينتقون قصصا وحكايات وطرفا من التراث فيعرضونها على القراء بشكل مختصر أحيانا أو بشكل ممسوخ فى أحيان أخرى. وكالفينو مثقف كبير وداهية لا شك؛ ويحمل معارف تراثية مكينة ولها خصوصيتها وخطرها، فأنت إذا ما استعرضت بعض أعماله الأدبية فسوف تعرف ذلك تماما، ولك أن تقرأ تلك العناوين: «قصة آدم، أجدادنا، قلق المصائر المتقاطعة، لو أن مسافرا فى ليلة شتاء».. وهم فى إيطاليا يطلقون عليه «الساحر» وأحيانا يطلقون عليه «الخرافى». وهو فى الوقت نفسه يجيد لغات كثيرة ويقرأ بلغات أكثر، فهو فضلا عن إجادته الإيطالية يجيد الفرنسية والإنجليزية والإسبانية (كونه مولودا فى كوبا)، وأعتقد أيضا أنه يلم ببعض العربية.
وروايات إيتالو فيها غموض وفيها سحر وفيها متاهات وفيها رموز وفيها شطحات ومغامرات، وبها أيضا ولع كبير بالأساطير والقصص الشعبى، وهو ما نجده صريحا جدا فى روايته «مدن لا مرئية» تلك التى نتسمّع من بين سطورها أصداء كثيرة من أعمال تراثية كبرى مثل ألف ليلة وليلة العربية، وحكاية جنجى اليابانية والديكاميرون الإيطالية وغيرها؛ لكنّ التأثر الأكبر والأوضح نراه فى كتاب «آثار البلاد وأخبار العباد» لصاحبه زكرياء بن محمود القزوينى الذى يسبق كالفينو بما يقرب من ثمانية قرون. والقزوينى جاء من قزوين، ثم رحل إلى دمشق وتولى قضاء واسط والحلة فى زمن المستعصم العباسى، وكان عالما فى التاريخ والجغرافية، ولقد كان كتابه العمدة «عجائب المخلوقات» أول كتاب يعالج هذا اللون من العلوم، ثم وجدناه يواصل هواياته ومغامراته فى الكتابة عن المخلوقات والأكوان والعمران البشرى، فكان هذا الكتاب اللطيف الظريف المعلم «آثار البلاد وأخبار العباد» الذى جمع فيه معلومات قيّمة عن كل ما وقعت عليه عيناه فى البيئة المحيطة به وفى بيئات أخرى ساح فيها وعمل وبحث عن الرزق والأصدقاء والسراب والذات والونس. وقد راح فى هذا الكتاب يتتبع أخبار المدن الكبرى والصغرى، وطفق يفتش عن الحاجة الداعية إلى بنائها وتصميم مرافقها ومنشآتها وبنيتها التحتية، ثم راح بعدها يصف لنا تلك المدن ويعدد آثارها ويحكى عن حال أهلها ويسرد نوادرها وحادثاتها الكثيرة.
لكن القزوينى عندما جمع تلك المادة الهائلة المهولة عن مدنه الأثيرة ربما لم يتحر الدقة الكاملة فى بعض المواضع، وقد يكون تعمد ذلك؛ لأنه أحب أن يغدق على مدنه وشواهده قدرا معقولا من الخيال الخلاق وغير الخلاق، ومن ثم نجد الأحداث التى يسردها قد جنحت كثيرا نحو الخرافة والأساطير. فهو عندما يحدثنا عن بلد اسمه «شمخ» يقع بأرض اليمن يقول إن من عجائبها أن بها شقّا ينفذ إلى الجانب الآخر، فمن لم يكن راشدا عاقلا لن يقدر على النفوذ فيه، وقد دعم هذا القول الخرافى بانتحال بعض أبيات الشعر موجودة بالكتاب لمن يريد أن يطلع عليها. كما نراه يحدثنا عن بلد بالهند يقال له «أرام» فيه هيكل به صنم نائم يسمع منه بعض صفير، فيراه الناس قائما، فإذا فعل ذلك كان دليلا على الرخص والخصب فى تلك السنة، وإن لم يفعل ما فعله فيكون ذلك دليلا على الجدب والفقر فى هذه السنة. وفى الهند أيضا يحدثنا عن بلد اسمه «كلبا» به تمثال كبير عبارة عن عامود طويل فى نهايته بطة نحاسية سمينة أمامها عين، وفى يوم عاشوراء تدخل البطة منقارها فى هذه العين فيخرج منها ماء متدفق كثير يكفى المدينة شربا وطبخا واستحماما أكثر من عام. وفى موضع آخر نرى صاحبنا القزوينى يحدثنا عن بلد مشهور عندنا فى القصص الشعبى، ولا نعرف إن كان هذا البلد حقيقة أم خيالا، وهو «بلاد واق الواق» التى تحدث عنها المسعودى فى كتابه الخرافى الهزيل «أخبار الزمان» فى صورة أبعد من الخرافية.. ويقول القزوينى إنها تقبع فى بحر الصين؛ لذا فهى تدل فى ثقافتنا على البعد الكبير، ويقال إنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى شجرة بها ثمرة كبيرة على شكل نساء معلقات من شعورهن يصدرن صوت «واق واق» وكان هذا الصوت عندهم دليلا على التطيّر والتشاؤم، ومن ثم الانعزال عن ممارسة نشاطات الحياة. ومن عاش فى ريفنا فى الزمن البعيد الجميل يتذكر تلك الجنية التى كانت تقبع آخر الليل تحت الجميزة العجوز وقد نكتت شعرها وأطلقت الشرر من عينيها فترعب ذلك الفلاح الذى يمتطى حمارته راجعا بعد سهرة حلوة من عند أهل زوجته.
ولم ينس القزوينى أن يحدثنا أيضا عن بلاد تحمل كل صفات المدينة الفاضلة التى يكون كل شيء فيها على الشَّعرة حتى الحجر فى الأرض، فهو يقدم لنا بلدا اسمه «شيلا» يقع عند أطراف الصين، كل شيء فيه طيب ورائحته طيبة ولا يُرى فيه ذو عاهة أو مرض أو بَرص. والمياه والأحجار لها رائحة العنبر، والجو ليس به هوام أو حشرات أو عوادم أتوبيسات، وهذا البلد لم يدخله إنسان إلا وأبد فيه حتى يخرج منه محمولا على الخشبة. لكنّ القزوينى لم يرد أن يأخذ كل مساحة الكتاب فى التحدث عن الأساطير؛ ولكنه أفرد مساحة أخرى ليست بالقليلة ليحدثنا عن مدن واقعية موجودة فى حياتنا نعرفها جيدا ويوجد منا من زارها وعرف معلومات عنها ليست بالقليلة، فهو يحدثنا عن يثرب ونجران واليمامة وبيت لحم والإسكندرية وإخميم ومراكش وصفين والخليل، وغيرها من المدن المشهورة التى نتوق إلى زيارتها أو الإقامة فيها. أما صاحبنا الإيطالى الجميل إيتالو كالفينو، فقد وصف مدنه بأنها لا مرئية، وهو «غويط» كما قلنا آنفا؛ لأنه أراد أن يهرب من المسئولية الأدبية، وحاول أن ينسلت بدهاء و«معلمة» من تهمة السطو على صديقه الطيب القزوينى، فوجدناه وقد راح يغلّف حديثه عن المدن بغلاف أدبى برّاق فيه طرافة وفيه صور جمالية وفيه أحداث وسرد ودراما وعقدة، وفيه أيضا حوار بين شخصيات تتصارع مع بعضها البعض. فمثلا حينما أراد أن يجهل علينا ويتوّهنا راح يحدثنا عن بلد اسمه «ديوميرا»، لكننا نكتشف أن هذا الاسم ليس اسم بلد وإنما هو اسم ممثلة إيطالية معروفة ولدت فى العام 1899م، وقد قال عن مدينته إنها تحوى ستين قبة، وشوارعها مرصوفة بمادة الرصاص وبها مسرح من الكريستال وديك من الذهب كديك شهر زاد يصيح على البرج كل صباح. وعلى المنوال نفسه يحدثنا عن مدينة تسمى «دوروثيا» التى هى فى الأساس اسم قديسة إيطالية شهيدة لها جذور تركية، وقد ذكرت قصتها ضمن سجل القديسين «السنكسار» الذى أعده القديس المؤرخ جيروم، وهو يصف هذه المدينة فيقول «إن أبراج الألومنيوم الأربعة الطالعة من بين جدرانها تحمل سبعة أبواب مع جسور متحركة تعمل بنواضب تمتد فوق الخندق الذى يزود بالماء أربع قنوات خضر تجتاز المدينة تقسمها إلى تسعة أقسام كل واحد بثلاثمائة دار وسبعمائة مدخنة عملاقة. ولقد أراد إيتالو أن يقلّد القزوينى، فراح يقدم لنا بعض المدن الحقيقية؛ لكنه يدّعى أن ما يوجد بهذه المدن الحقيقية ليس حقيقيا، فهو يحدثنا مثلا عن مدينة «أولند»، وهى فى الغالب مدينة حقيقية تقع فى دولة السويد، وهى مكونة من ستة آلاف جزيرة وقعت بها حروب كثيرة وغرائب أكثر، وهو يقول عنها واصفا إياها «إنك إذا ما مضيت بعدسة مكبرة ورحت تصطاد بأناة فقد ترى فى مكان ما نقطة ليست أكبر من رأس دبوس، إذا نظرت إليها بلطف وظرف راحت تكبر وتكبر حتى تتكشف بداخلها السطوح والهوائيات ونور السماوات والبحيرات وسباقات الخيل».. وفى السياق نفسه يحدثنا عن مدينة اسمها «أندريا» التى تقع جنوبإيطاليا على البحر الأدرياتى مباشرة، حيث يصفها بأن كل شارع بها يتبع ملك أحد النجوم السماوية. وأخيرا، فأنا لا أريد أن أضرب لك أمثلة أكثر من ذلك حتى لا أضيّع وقتك وأفوّت عليك متعة القراء خصوصا إذا كنت من القراء الذين لا يكتبون أو كنت من الكتّاب الذين يقرأون، فكتاب صاحبنا القزوينى موجود لمن أراد البحث والتمحيص ومتعة الاكتشاف والتنقيب، كما أن كتاب صديقنا العزيز كالفينو موجود لمن أراد التأمل والتدقيق والفهم، وأظن أن مسعاك سوف ينجح فى هذا وسوف ينجح أيضا فى ذاك.