كل إنسان جديد ألقاه.. قارّة.. لم أكتشفها بعد! قارّة، أمد إليها جسورى أو أنسفها فى لحظة! قد أبدو مزاجية، ولكنى أعترف أن داخلى مجموعة من الضوابط الروحية الصارمة! «مغرورة أنا»! ربما! وكان راديو «مونت كارلو» يذيع الأخبار القصيرة المكثفة ويعلن أن «موجة الصقيع» لاتزال مستمرة فى أمريكا وأوروبا. كنت أحس بصقيع آخر فى نفسى يتوق شوقًا لشمس حنان.. حين دق جرس التليفون فى مكتبى، وكان المتحدث هو «عمر الشريف» يدعونى على الغداء فى فندقه الذى يقيم فيه «جرين براميدز» الواقع فى حضن شارع الهرم، الراقد على كتف بيت العميد يوسف وهبى!
جاءت دعوة عمر الشريف بصوته المعبأ بدخان الطائرات وتثاؤب ضباط المطارات ساعة الفجر.. فى وقتها تمامًًا! أحب الأشياء فى حينها، لا قبل ولا بعد! صحيح أنا لا أحب حفلات النجوم وكرنفالات المشاهير، ولكن الإغراء الوحيد أن مائدة غداء عمر لن تزيد على خمسة أشخاص فقط! يبدو أن عمر الشريف يعلم بكراهيتى الشديدة للدعوات والسهرات التى يبدو فيها الإنسان وكأنه فى صالة ترانزيت.. ينتظر طائرته المسافرة! ولكن لماذا قبلت دعوة عمر الشريف بهذه السرعة وبدون تردد؟! ليس عندى دوافع شخصية، فأنا لست واردة أو مطروحة كنجمة، علاقتى بالناس - كل الناس - عبر سطورى، كلماتى، داخلى! وأنا أميل إلى الرأى القائل إن «النجم هو ذلك الشخص المشبوه الذى من واجبه أن يرد على كل الاتهامات الموجهة إليه صوابًا أو خطأ، لكنى أصارحكم أننى تذكرت عبارة ناظم حكمت الشهيرة: «أجمل البحار لم نخضها بعد..»، وقلت فى سرى: «أفضل الرجال لم نتعرف عليه بعد»، ولهذا قررت أن ألبّى دعوة «نجمنا المصرى» على الغداء خصوصًا إذا كانت الجلسة يظللها حنان وأبوة ذلك الرجل الذى أعطى شبابه وظل مستمرًا فى العطاء حتى قدمت له «السنون» اعتذارها المهذب عن العطاء «يوسف وهبى»! ماذا أرتدى لهذا الغداء؟ أنتم تظنون أننى لا أطرح على نفسى مثل هذه الأسئلة، وهذا غير صحيح! إننى مؤمنة بما تقوله فرانسوا ساجان: «خطيئة المرأة الأولى ألا تكون امرأة»، صحيح أنا لن «أبهر» عمر الشريف بأنوثتى، فأنا لست «باربرا سترايسند» بخفة ظلها الصاروخية وجمالها المتوحش! وأنا لست «أينوك إيميه»، ذلك «البركان الأنثوى» الذى لا ينفجر بسهولة! وأنا لست «جيرالدين شابلن» «المرأة العطر» وأنا لست «صوفيا لورين»، الجسد المعبأ بألغام الأنوثة! أنا لا أملك شيئًا من بطلات عمر الشريف وصديقاته.. كل شىء أملكه من أسلحة فى رأسى، عقلى، بكل تواضع هو البوابة الكبرى إلى داخلى، إلى عالمى ومتاهاتى! لهذا ارتديت بلوزة كشمير بيضاء وبنطلون قطيفة أسود برمودة وبوت أسود! فى الموعد.. فى الموعد المحدد ذهبت إلى بيت يوسف وهبى، أنا دقيقة فى مواعيدى، وأول رجل عرفته كرهته لأنه «لطعنى» ساعتين فى ميدان عام.. وعندما جاء لم يكلف نفسه مشقة الاعتذار.. ولأنه عاملنى كعمود النور.. كرهته وقطعت علاقتى به وقلت له: احترم مواعيدك أولاً.. ثم احترم المرأة التى تنتظرك! تذكرت - الآن - أن عمر الشريف بكياسة شديدة قال: «سأتأخر نصف ساعة لأنى أنقل حقائبى من فندق «شيراتون» فى مصر الجديدة إلى «جريدن براميدز» وسوف تقضين هذا الوقت مع يوسف بك.. هل تمانعين؟ وقلت لنجمنا المصرى: بالعكس، هذه فرصة لأرى الفارس التى كان ينخلع قلب السيدات والفتيات فى الثلاثينيات لرؤياه من خلف مقاصير المسرح! إن يوسف وهبى ظل يتربع فوق القلوب سنوات طويلة، كفتى العصر، ابن الباشا الذى هجر القصور.. إلى الفن! وعندما قابلت يوسف وهبى ورأيت أحد أقاربه يعاونه على الحركة وهو يتكئ على عصا، انخلع قلبى - هذه المرة - شفقة، ولكن شفقة ممزوجة بالإعجاب لرجل مخلص للمسرح كل هذا الإخلاص، فمازال يوسف وهبى يحكى عن أيام رمسيس، مازال يجترّ حكاياته وكان يحكيها لأول مرة، ويحس بسعادة لصداها على الآخرين! ولأنى لم أر يوسف وهبى كثيرًا، فقد ضحكت من قلبى وهو يحكى بطريقته عشرات الحكايات ويعتب على التليفزيون أنه لا يذيع مسرحياته.. ويخشى أن يذيعها التليفزيون على «قناتيه» بعد أن يصبح خبرًا يسكن التاريخ! الذى هزّنى فى يوسف وهبى أنه يتنكر لجسده العليل، العاجز أحيانًا عن الحركة المتكئ على عصا ويتصرف بإحساس الشباب. ويمطرنى يوسف وهبى بأسئلته: لماذا اخترت عنوان «شىء ما» لبابى؟ لماذا تزوجت من مهندس وليس كاتبًا مثلى! لماذا أحيط نفسى بغموض يجعل بعض الناس يتصورون أنى شخصية وهمية مثل الشخصيات التى اخترعها إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور وإبراهيم الوردانى؟ إن يوسف وهبى حاضر الذهن.. ولم يختم بعد زمنه بالشمع الأحمر، هذه ملاحظتى الرئيسية عليه، خلال نصف الساعة التى جلسنا معها ننتظر عمر الشريف. وجلس يوسف وهبى يحدثنى عن فكرة قبوله تحويل جزء من بيته الكبير إلى فندق، روى لى عن صديقه الشاب الطموح «إسلام شلبى» القادر - على حد تعبيره - على تحويل الأوهام والأحلام إلى حقائق مجسدة! قال لى: كان إسلام يحمل فى جيبه الفكرة وكان ذكيًا فى عرض السيناريو، تمامًا كأنه يقدم لى فكرة مسرحية، قال إنه لا يريد أن يبنى «فندقًا» بالمعنى التقليدى، ولكنه يريد أن يغنم «واحة» تقترب من هدوء البيت ودفء جدرانه، بل أخذ أثاث البيت القديم الذى عشت معه كل عمرى.. وحين كان العمال يرفعونه، بكيت، ولكن إسلام قال بذكائه: يا يوسف بيه، تقدر أى لحظة تشوفه.. ده بيتك، واحنا ضيوفك! فجأة ويوسف وهبى يحدثنى عن «سعيدة هانم» زوجته التى تعتذر عن مقابلتى لأنها مريضة، وكانت تود التعرف إلى شخصى المتواضع.. طب.. عمر الشريف! يا إلهى.. كم هو وسيم، وسامة الرجولة! فهو ليس أنيقًا بمقاييس أناقة السيد «سمالتو»، أشهر مصمم عالمى لأزياء الرجال، أناقته فى بساطته يعاند ربطة العنق! لم أره - إلا نادرًا - فى الصور يلبس ربطة عنق! لها دلالة عندى، إنه ضد كل شىء يمنعه من الحرية والتحرر حتى ولو كانت ربطة عنق! وعمر الشريف فنان مازال - بعد كل هذا النجاح والفشل - يحتفظ بحرارة جمهوره، فلما رآه عامل فى الفندق حياه وهو يقول له: «اللهم صلى على النبى»، قال عمر الشريف: يا سلام مش ممكن الواحد يسمع الكلمة الحلوة دى إلا فى مصر.. قال لى عمر إن ما ينقصه بعنف هو دفء العلاقات الإنسانية.. هذا الدفء الذى يحيط «الإنسان» وليس «النجم»، لأن النجم كما يقول عمر: لابد أن يكون فى ؟؟؟؟؟«الفورمة» لا يبدو عليه نظرة ضعف.. لابد أن يكون نجمًا طوال الوقت وهذا محال! دخل عمر! دخل عمر الشريف الصالون الذى كنا نجلس فيه «العميد يوسف وهبى» وأنا وراء عمر الشريف.. جاءت مديرة العلاقات العامة للفندق مدام حجازى ومعها صديقة فارعة الطول، كدت أشعر بالضيق، لولا أن عمر الشريف قال همسًا: مفيش حد غريب! وأخذت «أحلل» مشاعر ضيقى.. بينى وبين نفسى، هل هى أنانية المرأة.. أن تحب أن تكون «مركز» الاهتمام دون أخرى؟! هل هو ضيقى بأحد لا يعرف أبجدياتى وأخشى أن يتكلم كل منا فى وادٍ.. رغم أنه تجمعنا مائدة واحدة؟ لا أعرف بالضبط مصدر ضيقى.. ولكن «رقة» عمر الشريف أذابت أى مشاعرمفاجئة داهمة! حين تعانق يوسف وهبى وعمر الشريف شعرت أن الأب يحتضن ابنه الغائب، لست أدرى لماذا خامرنى هذا الإحساس! هل لأن يوسف وهبى قال إن عمر الشريف يمثل له شبابه بكل نزواته؟! ربما! أخذت أطيل النظر فى عمر الشريف دون أن يلحظ أحد، للمرأة نظرة خاصة تختلسها ولا تلتقطها أعتى الرادارات! أجمل ما فى عمر الشريف كرجل عيناه! أنا أشعر أن عينى الرجل «فهرس» كامل لمشاعره، آماله، آلامه، طموحاته، عذاباته! عينا عمر الشريف تأخذانك، تخطفانك، باختصار تدبران «حادث خطف» من نوع فريد! ولكن شيئًا ما فى عينى عمر يجعله يبدو كالملاح العائد بعد غربة طويلة فى بحار بعيدة، يريد أن يستريح على صدر امرأة.. تفهمه! لا شىء فى الدنيا أجمل من هذا «الفهم المغرور»، ذلك الفهم المتبادل بين امرأة ورجل، كل منهما يعامل الآخر كحبيب وابن! وعمر الشريف - كما قرأت - جرّب المرأة، عرف كل أنواع النساء، ولكنه يقينًا لم يعرف الحب! ولا أعرف متى انحسرت شطآن عمر الشريف، ودخل صدفته المليئة بطعم الملح والعلقم! لابد أنه تعب من السفر، رغم أن السفر يجرد الإنسان من «انتصاراته» الصغيرة، حين يكتشف أنه «نملة» وسط ملايين البلايين من البشر! لكن المؤكد أن حقائب عمر الشريف تعبت من السفر! قال عمر الشريف ونحن نمرق من بيت يوسف وهبى إلى حديقة فندق جرين براميدز: الستات فى مصر احلوت جدًا، حقيقى يا يوسف بك، نسبة الجمال ارتفعت، زمان كنا نقول فيه واحدة حلوة فى مصر الجديدة، فيه ست جميلة فى المنصورة، وفيه بنت ما حصلتش فى المنيا! قال يوسف وهبى: ربما تكون - يا عمر - أساليب التجميل قد تطورت! رفض عمر الشريف هذا المنطق، وقال: لأ.. الجمال الطبيعى، وفيه صحة، وفيه رقة، وفيه أناقة، يعنى ستات كتير تلفت النظر، وتغطى على أى جمال مشهور بالجمال! بصراحة أحب الرجل الذى لا يتعمد إطراء المرأة بألفاظ منمقة، أحب الرجل العفوى الذى يجمع بين دهشة الأطفال واتزان الرجال! وصارحت عمر الشريف برأيى. قلت له: إن جمال المرأة لا مقاييس له، إنه ثقة بالنفس، وانتشاء غامض.. ورغبة فى احتضان العالم! قال عمر الشريف بصوته المتعَب «بفتح العين»: أنا أقصد أن جمال المرأة المصرية صار «حاضرًا» بعد أن كان غائبًا، قلت: المرأة الجميلة تترك شيئًا ما فى «بصيرة» الرجل قبل بصره! هتف يوسف وهبى بصيحته التقليدية: - هذا هو الجمال يا عمر! قلت أستطرد متكئة على تشجيع يوسف بك: ست حلوة لازم تحدث فى الرجل خفقانًا عقليًا لا قلبيًا.. فقط! قال عمر الشريف وكنا قد وصلنا لقاعة يوسف وهبى حيث أعدت مائدة الغداء: على أى حال، الجمال نسبى! وافقت بدون تردد على رأى عمر وقلت: وقف طبيب أنف وحنجرة مشهور أمام لوحة الموناليزا رائعة دافينشى وقال: تعبير الوجه لامرأة تشكو فى الواقع من التهاب فى الحنجرة! وضحك عمر الشريف بصفاء الطفل الذى لم يعرف عذاب الحياة فى فنادق تسبقه حقائب، وضحك يوسف وهبى وهو يقول لى: ألم تتأكدى بعد يا مدام أشرف أن لعمر الشريف عينًا راسبوتينية! وبحلق عمر الشريف فى وجهى بحركة طفولية فيها شقاوة.. فخجلت.. وضحكت! قاعة يوسف وهبى.. قاعة يوسف وهبى.. قاعة كلها دفء، تعطينى إحساسًا بذراعين قويتين تطوقانى بشدة، ولكن بحنان! أحب الجدران الخشبية البنية اللون، الدافئة، تردنى إلى الشجرة لا إلى الآلة! جلست بجوار عمر الشريف وهو شرف خاص لى.. وأخذت أشم رائحة المكان، قال يوسف وهبى: أحيانًا يشم الإنسان رائحة بخور.. دون أن يعرف مصدرها! قال عمر الشريف: فعلاً يا يوسف بك ده بيحصل معايا أحيانًا! قال يوسف وهبى بسعادة وكأنه ينتظر هذه اللحظة ليتحدث فى موضوعه المفضل: «دى روح بتزورك يا عمر»! ركز عمر الشريف فى كلام يوسف وهبى عن الأرواح، ولكنه قال ليحسم الأمر: ده موضوع عايز قعدة خاصة.. الكلام فيه ليس للمشاع. قلت لعمر الشريف: ما أوجه الشبه بينك وبين يوسف وهبى؟ قال يوسف وهبى: أرد أنا بالنيابة عن عمر، باعتبارى الطرف الثانى! كلانا يلتقى فى ثلاثة موضوعات: الفلوس والنساء والخيل! هتف عمر الشريف: بالضبط يا يوسف بك.. أنا واحد من الناس، كسبت كتير أوى، ولعبت أكتر، وخسرت مبالغ ملهاش حصر وأصبحت الآن أتحاشى أماكن اللعب.. وعندى إرادة فولاذية! قال يوسف وهبى ضاحكًا: شرحه! استطرد عمر الشريف يقول: بعض الناس حظها سيئ فى اللعب، ورائع فى الحياة وأنا من هذا الفريق.. ولذلك أى خسائر تهون، أضحك كلما كسبت مالاً.. وأضحك كلما خسرت بعض المال، المهم أن «يحيا» الإنسان، الشهرة تضطهد حرية الإنسان فى التعبير عن نفسه وفى مصادرة رغباته الطفولية، أنا نفسى أروح الحسين عند الدهان! آخذ واحد نيفة وأشرب مية لفت! ضحك يوسف وهبى وقال بأسلوب مسرحى: ولد مصرى.. منقوع فى مصر.. وواحشه مية اللفت! قلت لعمر الشريف: وحظك مع النساء! قال بسرعة: علاقتى بالمرأة علاقة زبون الفندق.. بالفندق! إنهما يتعارفان، يمضيان وقتًا، ثم يفترقان! ومن فندق لفندق تمامًا مثل من امرأة لامرأة.. وكل امرأة نوع خاص، وما يعجب امرأة لا يعجب أخرى، لا قواعد مكتوبة ولا دساتير تعامل مع المرأة، كل ست فى الدنيا «دنيا»! أعجبنى فى عمر الشريف هذا الفهم المرتكز على الخبرة، ربما أكثر ألف مرة من ثقافة الكتب! أعجبنى فيه أنه لا يضع «قوالب» فى أحاديثه، سمعته من إذاعة الشرق الأوسط ليلة أربعاء، كان بسيطًا ورائعًا، كان يحكى عن نفسه بعفوية وبدون جمارك أو نحنحات تقليدية، حديثه ينطبق عليه قول «مورافيا» أديب إيطاليا الكبير: أحاديث الفنان الصادقة جزء لا يتجزأ من فنه! تأملت الكراسى التى نجلس عليها.. إن كراسى «السرايا» التى كان يسكن فيها يوسف بك فى زمانه، إنها كراسٍ لها ظهر من الجلد المحفور! ذوق وجمال.. أسرنى لدرجة أن صديق يوسف بك «إسلام شلبى» جاء يجلس معنا، يحيينا ويحتفى بنا، كان عمر الشريف ويوسف وهبى يتهامسان قطعت الهمس بسؤال عن «الخيل»، قال يوسف وهبى: إن الخيل العربية الأصيلة هى نجم الخيل. قال عمر الشريف: أنا اشتريت أحلى خيل، ولكن مفيش حصان كسب معى، صمتنا.. وكانت الأطباق قد بدأت تأخذ طريقها أمامنا.. وأنا لست «أكولة».. فبدا حوار غزل بينى وبين الأطباق الشهيرة.. انتهت باستسلامى، لاحظت أن عمر الشريف طلب فنجان قهوة سادة قبل الغداء.. ولاحظت أنه اكتفى بثلث الكمية الموضوعة فى الأطباق ولاحظت نهمه للسلطة الخضراء.. وهو يقول: مش ممكن الواحد ياكل حاجة صابحة زى ما بيدوقها فى مصر، وحين عرف عمر الشريف أن إدارة الفندق سويسرية قال: المهم أن أدواته كلهم شباب مصرى طموح ومثقف، وبيجيد اللغات. العطر - بالمناسبة - الذى أشمه فى عمر الشريف هو «التواضع»! فجأة فجأة قطع يوسف وهبى الصمت الذى خطفته الأطباق الشهية وراح يسأل عمر الشريف: صوفيا لورين جميلة يا عمر زى السينما؟ سؤال يوسف بك يعيده إلى شباب زمانه. قال عمر: صوفيا من عمرى.. وزى القمر، وأفضل مما كانت وأنا أعتقد أن المرأة الناضجة هى صوفيا لورين، وحينما أقول الناضجة، أقصد الجمال والفهم والأنوثة. قال يوسف وهبى لعمر: شكلك غلبان جدًا، لم تتذوق بعد طعم الاستقرار، مش كده؟ وكأن يوسف وهبى مس شغاف قلب عمر الشريف، وتحسس أحزانه الخاصة، لأنه قال: يبدو أن الاستقرار الوحيد فى حياة الإنسان يحدث للإنسان مرة واحدة.. حين يمدد جسده وينزل إلى حفرة ويتمتم الناس: من التراب وإلى التراب نعود! كانت لفتة فلسفية حلوة من عمر الشريف رغم رياح التشاؤم التى تهب علينا! قطعها يوسف وهبى حين قال: فاكر فيلم «إشاعة حب» يا عمر؟ قال عمر الشريف: كان وقت شغل لذيذ كله حماس وحب، وأحلام، أنا شخصيًا لما أفتكر الأيام دى أفتكر إن كان لى بيت أرجع إليه! ألقى مخلوق ينتظرنى! إسلام شلبى يقول دفاعا عن أطباق الفندق الشهية: الكلام فى الصالون مع القهوة، ولكن عمر الشريف يقول لإسلام شلبى: أنا أحسن أوقات الكلام عندى على الغدا وعلى العشا، دى أوقاتى المفضلة حتى فى الاتفاق على عمل، قلت فى سرى: الفنان إنسان تحكمه عادات صغيرة، لأنه طفل كبير، سألت عمر الشريف عن برجه فقال: الحمل يوم 10 أبريل، وسألت يوسف وهبى عن برجه فقال: السرطان، 14 يوليو! قال عمر: قرأت لك كلمة عن سلطان الأبراج على الإنسان ولم أفهم هل تؤيدين هذا أم تعارضينه؟ قلت: لا أحب الإبحار فى دنيا المجهول.. أنا إنسانة ضائعة، لا عيب من خوفى، إنه تمامًا مثل أحد ملامحى! تدخل يوسف وهبى فى الحديث، دنيا المجهول، دنيا واسعة.. ولكن ما أريد أن أقوله لعمر: وجوده ضرورى فى مصر، فنان مثلك لابد أن تكتب له أفلام خاصة! وكان رئيس التحرير «لويس جريس» قد جاء ومعه الرسام الفنان عبدالعال، وتدخل لويس فى الحديث بسرعة وقال: إن النموذج الذى يصفك يا أستاذ عمر أنك «شهريار الحزين»، فقال عمر وهو يفكر فى اللقب..: ده حقيقى.. بدأ عبدالعال يحبس عمر الشريف فى فرخ من ورق أبيض كان عمر يتحرك ولا يهدأ على حال.. وريشة عبدالعال تلهث خلفه وعندما شعر عمر بموقف عبدالعال، فرض على نفسه صمتًا خاصًا.. بحيث يتيح لريشة الفنان أن تعبث بملامحه المصرية التى جعلت منه نجمًا عالميًا.. مرموقًا! عاد لويس جريس يقول لعمر: أنت تحتاج لقصة من تاريخنا القديم، حتى ولو كان أسطورة، حتى لو كان عملا من أعمال توفيق الحكيم كشهرزاد التى تناولها كثيرون.. ولايزال لها ثراؤها! قال عمر الشريف باهتمام شديد: المهم اختيار العمل لأنى أريد أن أضيف إلى السينما فى مصر شيئًا، مش عايز أبقى واحد مشهور استفاد من وجوده والسلام.. عايز أكون باعمل دور، ما يعملوش إلا عمر الشريف! فجأة فتح إسلام شلبى التليفزيون وكان «الأهلى» يلعب، التفت عمر بكل جسده إلى الشاشة يرقب «اللعب».. وتذكرت أن أشهر أصدقائه هو صالح سليم الذى فتحنا عيوننا على مهاراته التى لا تنسى! فجأة قال عمر الشريف: باسمع أسماء جديدة فى الفن والكورة، أنا لم أر فيلمًا مصريًا من 20 سنة، لم أر أفلامًا إلا للمليجى وفريد شوقى.. ودلوقتى أشوف أسماء لا أعرفها.. ولكن يبدو أنها عملت حاجة.. أعجبنى تواضع هذا الفتى.. عمر الشريف لاحظت أنه لا يأكل شيئًا ويشرب ماء النيل بكثرة! .. وتململ وتململ عمر الشريف قليلا.. وتسربت مسحة من الكآبة إلى ملامحه التقطها لويس جريس فسأله: مالك يا أستاذ عمر! «لويس جريس مهذب للغاية ولا ينادى أحدا باسمه المجرد، ويروى عنه أنه كان مدعوًا عند أصدقاء، فلما دخل شاب مهذب يضع بابيون أسود ويقدم له المثلجات، وقف ليحييه ويشكره.. ثم اكتشف فيما بعد أنه جرسون»! قال عمر الشريف: مش معقول! لسه بافكر فى الشغل، الإنسان يذهب عمره هباء، أنا أصرح لكم بأن خمسة عشر عاما من حياتى راحوا سدى دون أن أستمتع بالحياة، نعم حققت طموحى، لكن لازم أعيش المهم الحياة نفسها مش ممكن أشتغل خصيصًا عند الشهرة والمجد، خطر كان عظيمًا، لكن لازم أعيش كمان، عايز إنسان جنبى، عايز أتذوق عاطفة، عايز أقضى وقتًا مع أصحاب إنما شهرة، شهرة، مجد، شغل، فلوس.. مش معقول! ثم صمت عمر وقال: تعرفوا أنا بالعب ليه فى الكازينوهات العالمية لأنى أجلس مع نفسى ساعات.. وأعيش لحظة المغامرة! أنا لم أعش الحب بعد فاتن. قلت لعمر: ولكنك عرفت الكثيرات، قلتها وأنا مؤمنة أن الحب يغسل الإنسان يعيده نقيا، حقيقيا، دامعًا.. نظيفًا! قال عمر الشريف السوبر ستار، الرجل الذى يعرف مائة واحدة: قطعا فاشل فى حياته العاطفية، لأن امرأة واحدة تفهمنى وأفهمها، دليل حب، عايز أستريح على صدر ست يهمها أمر عمر البنى آدم، مش النجم! قال يوسف وهبى: المرأة فى إمكانها أن تسعدك وقد تشقيك! قال عمر: المرأة الفاضلة، نعمة.. بس هى فين؟ قال لويس جريس: امرأة فاضلة من يجدها، كمن وجد اللؤلؤ فى قاع البحر، هذه كلمات سليمان الحكيم الشهيرة! عمر الشريف يقول: الحب فى حياة الفنان هو الدافع الوحيد للحماس، للعمل بمتعة، لتحمل صعاب الحياة، للإفلات من حفر ومطبات الدنيا! واستطرد عمر يقول: أنا لا أندم على ما فات من حياتى، لأنها حياتى! قال لويس جريس: أستاذ عمر، لو عادت عقارب الزمن للوراء، تختار نفس حياتك! قال عمر الشريف: أختار نفس المشوار، لغاية اللحظة دى، أنا جاى أسكن هنا فى جرين براميدز عند يوسف بك وإسلام.. جنب أصحابى! انتهى الغداء.. الذى استمر - كالغداء الفرنسى - ساعتين ونصف الساعة - وشعرت أن عمر الشريف يريد أن يدخن فى حديقة الفندق الهادئة ويأخذ فنجانًا من القهوة.. واستأذن يوسف بك لأنه من عشاق النوم ظهرًا.. وقال وهو يضحك: عادة قومية يا عمر يا اخويا! جلسنا فى حديقة الفندق، كنت أحس بسعادة داخلية، فقد كسرت إحساسًا بالوحشة كان يسيطر علىّ قبل دعوة الغداء، وتأكد لدى أن تشابهًا كبيرًا بين عمر الشريف ويوسف وهبى مع بعض الاختلافات وتأكد لدى أن عمر الشريف يعود كالملاح المشتاق بشاطئ بلاده.. وتأكد لدى أن عمر الشريف قد تعب.. وأن التعب مرسوم فوق جبهته.. وإن كان هذا يزيده جاذبية فما يزيد الرجل - فى عين المرأة - جاذبيته، كفاحه وعناده مع الحياة، وعمر الشريف معاند عظيم ومكافح أعظم ذاق طعم النجاح والشهرة وعرف طعم الفشل ومرارته وعرف آلاف النساء ولم تهزمه واحدة باختياره وعرف غرف الفنادق أكثر من غرف البيوت المفعمة بالدفء وصراخ الأطفال. حين انحنى عمر الشريف يقبل يدىّ مودعًا كجنتلمان.. شعرت أننى كسبت صديقًا امتدت بينى وبينه جسور سريعة. ولاتزال موجة الصقيع مستمرة فى أمريكا وأوروبا فقط، أما فى قلبى وصدرى فالدفء يغطى مساحة هائلة!