ربما يحمل فنجان القهوة أو الشاى فى الصباح إرثًا ثقيلًا من الحكايات.. مغامرات ورحلات سافرها عبر الزمان والمكان تحتاج للتأمل والإنصات الجاد.. لقاء شخصى يحتاجه كل منا ومشروبه المفضل كل صباح ليتمكن من لقاء العالم أو لقاء نفسه ربما!!.. تاريخ العالم فى ستة أكواب، هو كتاب لتوم ستانديدج.. يحكى تاريخ المشروبات لشعوب وحضارات قديمة مثل البيرة فى مصر القديمة والنبيذ فى اليونان وروما، وحديثة مثل الشاى فى الصينوبريطانيا.. الكوكاكولا وأمريكا!! القهوة.. أو الشراب الرصين، وفجأة مع ومضة تضاء حقيقة الأشياء..!! أراد فرنسيس بيكون فى كتابه المنطق الجديد 1620، استعادة العلوم.. هدم صرح المعرفة الإنسانية وإعادة بنائه على أسس جديدة صلبة. ازدهرت العقلانية الجديدة فى أوروبا.. وانتشرت روح البحث العقلانى هذه فى التيار الرئيسى للفكر الغربى على مدى القرنين التاليين وبلغت ذروتها فى حركة تسمى التنوير.. كان هذا النهج التجريبى الذى اعتمده العلماء يطبق على الفلسفة والسياسة والدين والاقتصاد خلال هذا العصر.. ولهذا السبب تجاوز المفكرون الغربيون حكمة القدماء وفتحوا أنفسهم لأفكار جديدة ودفعوا حدود المعرفة إلى ما بعدها.. وخرج هذا العصر من التقديس العقائدى للسلطة سواء فلسفية أو سياسية أو دينية وجاء بالنقد والتسامح وحرية الفكر.. وبدأت أوروبا الغربية بالخروج من الضباب الكحولى الذى استمر قرونًا.. وكانت القهوة شراب الجرأة ومثالًا للحداثة.. باختصار مشروب مثالى لعصر العقل. مشروب العقلاء اكتشفت القهوة مصادفة، عندما لاحظ راعى إثيوبي نشاطًا ومرحًا بقطعانه بعد تناولها لكرز أرجوانى معين، فتناولها بنفسه ثم لاحظ قدرتها التحفيزية وبهذه الحكاية الرومانسية يؤرخ لبداية معرفتها.. وهناك حكاية أخرى تتعلق باكتشافها باليمن فى منتصف القرن الخامس عشر فى بلدة موكا.. حين عثر عليها رجل يدعى عمر مصادفة بالصحراء ثم أنقذه توتها من الموت جوعًا وعطشًا ولاحظ أثرًا للقوة والنشاط التى منحتها له.. عرفت أوروبا القهوة خلال القرن السابع عشر.. وأتاحت نقاشًا حول تطوير الذات.. حيث إن المشروبات الأكثر شيوعًا لا تساعد على التطور مثل البيرة والنبيذ-حتى بوجبات الإفطار- التى كانت أكثر أمانًا بكثير من الماء لأنه كان عرضة للتلوث.. ولأنها تصنع من الماء المغلى قدمت بديلًا جديدًا وآمنًا للمشروبات الكحولية.. أولئك الذين استبدلوا شرب الكحول بالقهوة بدوا فى حالة تأهب وتحفيز بدلًا من الخمول والتغييب وتحسنت نوعية وكمية عملهم.. ساعدتهم القهوة فى تنظيم يوم العمل وإيقاظهم فى الصباح والبقاء بحالة ذهنية فائقة ونشاط حتى نهاية يوم العمل.. وكانت فى البداية مشروب الكتاب ثم أصبحت الشراب المفضل للمثقفين والعلماء والتجار أو من يشتغلون بالمعلومات ممن يؤدون أعمالًا عقلية بالأساس لا بدنية فساعدتهم القهوة فى تنظيم يوم العمل.. ثم اعتادت عليه الأمم ويمكن لمفكرى القرن السابع عشر التأكيد على أنهم قد تجاوزوا حدود العالم القديم وبشروا بآخر جديد بذلك المشروب.. وانعكس انتشار العقلانية الجديدة فى جميع أنحاء أوروبا على انتشار مشروب القهوة الجديد.. التى أصبحت نقيضًا للكحول.. وبُشر بأن القهوة تشفى المعدة وتعزز القدرات العقلية.. تريح الذاكرة وتحيى الحزن.. وتؤنس الأرواح الوحيدة دون جنون الخمر!! صراع الكحول والقهوة تبناها الصوفيون لأنها تبقيهم متيقظين ليلًا للعبادات والذكر..وانتشرت فى العالم العربى ووصلت القاهرة فى بداية القرن السادس عشر.. وأثارت جدلًا واسعًا، حيث تم تبنيها كبديل قانونى للكحول.. ومن قبل المسلمين أصبحت القهاوى أو المقاهى بديلًا موقرًا للحانات غير المشروعة ثم اعترض بعض المسلمين باعتبارها ذات تأثير على العقل ولو عكس تأثير الكحول.. وأنفق المسلمون جهدًا كبيرًا فى مناقشة ذلك.. منعت فى مكة وأحرقت فى الشوارع.. إلا أن القاهرة أباحتها.. وحاول المعارضون للقهوة إثارة شائعات حول أضرارها ولم يلتفت إليها الناس أو السلطة.. إلا أن الذى أقلق السلطات أن المقاهى كانت بؤرًا للقيل والقال أماكن لقاء ومصادر للأخبار وللشائعات والجدل السياسى.. كما كانت لممارسة الشطرنج والطاولة وألعاب أخرى مشكوك فيها أخلاقيًا.. وتعرضت المقاهى لمحاولات إغلاق فى القاهرة عام 1539 ولكنها قصيرة الأجل.. افتتحت المقاهى فى بريطانيا عام 1650 وتحركت القهوة سريعًا إلى غرب أوروبا.. وأخذت الفكرة العربية للمقهى على أنها الأكثر احترامًا وبديلًا للحانات.. ثم أصبحت مركزًا للنقاش السياسى والمؤامرات.. فى الوقت الذى كانت فيه لندن مركزًا تجاريًا مزدهرًا احتضن رجال الأعمال المقاهى للقيام باجتماعات بها.. النساء ضد القهوة وترسخت فكرة المقهى خلال خمسينيات القرن السادس عشر إلا أنه فى عام 1675 حدث هجوم على مقاهى لندن من مجموعة النساء اللواتى نشرن عريضة النساء ضد القهوة.. تم حظر النساء منها.. وواصلت القهوة انتشارها حتى لاحظ أحد كتاب القرن الثامن عشر أن الخادمات والخياطات يتناولن قهوتهن كل صباح.. حتى نهاية القرن السابع عشر كانت الجزيرة العربية بلا منازع موردًا لقهوة العالم.. وبعد زيادة شعبيتها ازداد القلق الأوروبى بشأن اعتمادها عليها.. وبدأ الهولنديون فى كسر الاحتكار العربى.. القهوة..معلومات وتواصل قطعت القهوة شوطًا طويلًا من أصولها الغامضة كمشروب دينى فى اليمن، ثم انتشرت لأوربا وحول العالم.. والذى منح هذا المشروب أهمية كبرى كانت الطريقة الجديدة التى استهلك بها فى المقاهى وتقديم بيئة جديدة للتبادل الاجتماعى والفكرى والسياسى.. فعندما يريد رجل أعمال أوروبى فى القرن السابع عشر الاستماع لآخر أخبار الأعمال ومتابعة الأسعار ومواكبة السياسة أو آخر التطورات العلمية أو الثقافية كل ماعليه فعله هو الدخول إلى مقهى وبتكلفة كوب قهوة يمكنه قراءة آخر النشرات والكتيبات وإبرام الصفقات التجارية والدردشة مع الآخرين وتبادل المعلومات أو المناقشات السياسية.. كانت المقاهى مصادر معلومات نابضة بالحياة..ومثل مواقع الويب الحديثة غير موثقة فى أغلب الأحيان..!! من يتخيل أن مناقشات فيزيائية ورياضية حول الجاذبية طرحت على المقهى وبين رشفات من فناجين كل من هوك وهالى ورين..؟ !! وكما هو الحال فى لندن كانت مقاهى باريس أماكن لقاء المثقفين وأصبحت مراكز فكر التنوير.. رغم التناقض بينهما فقد كانت فى لندن أماكن للنقاش السياسى الحر حتى كانت مقرًا للأحزاب السياسية.. أما فى المقاهى الفرنسية فكان تداول المعلومات خاضعًا للرقابة الحكومية الصارمة مع قيود مشددة على حرية الصحافة.. امبراطوريات الشاى.. الإمبراطورية البريطانية التى كانت نحو قرن من الزمان قوة عالمية عظمى، كان الشاى ولم يزل مشروبها المفضل ولديها أمة من أخلص شاربى الشاي!! الامبراطورية التى لم تغب عنها الشمس التى ضمت خمس مساحة العالم وربع سكانها.. وسّعت نفوذها بعد الاستقلال الأمريكى بأن فرضت سيطرتها على الهند وكندا وإنشاء مستعمرات جديدة فى أستراليا ونيوزيلندا وتشريد الهولنديين للسيطرة على التجارة البحرية الأوروبية مع الشرق.. أول قوة عظمى عالمية، تزامن مع اعتبارها القوة الرائدة لنظام جديد للتصنيع «الثورة الصناعية» ارتباط توسعاتها الصناعية الكبرى بمشروب جديد.. الشاى الذى بدأ كمشروب فاخر حتى أصبح مشروب الرجل العامل وبمثابة الوقود للعمال المشغلين للمصانع الجديدة.. الشاى وقود العمال والعمال وقود المصانع والمصانع وقود الثورة الصناعية..والشاى مشروب مناسب ومثالى للحضارة الإنجليزية باعتبارها دؤوبة.. وإن كان هذا المشروب الإنجليزى فى جوهره مستوردًا بجهد وكلفة ضخمة من امبراطورية مهيمنة وشاسعة وغامضة على الجانب الآخر من العالم..الامبراطورية الصينية! فقد كانت زراعة ومعالجة الشاى سرًا مطلقًا لشاربيه الأوربيين ومع ذلك أصبح الشاى بطريقة ما جزءًا مركزيًا من حضارة الإنجليز.. وانتشر بعد إعجاب البريطانيين به فى العالم كله. وأصبح أكثر المشروبات استهلاكًا على وجه الأرض بعد الماء..! مشروب دينى وطبي غير واضح متى وكيف انتشرت ممارسات استخدام الشاى فى الصين، ولكن يبدو أن الأمر كان بمساعدة الرهبان البوذيين الذين اكتشفوا فوائده: يعزز التركيز والتأمل ويزيل التعب.. وهو بذلك بدأ كمشروب دينى وطبى غامض.. نمت التجارة الصينية فى الشاى خلال القرن السابع حتى إنه استخدم كعملة وظل قيد الاستخدام كعملة فى بعض أجزاء آسيا الوسطى إلى العصر الحديث.. تحول الشاى من مجرد مشروب يطفئ العطش إلى رمز للثقافة والتطور، وأصبحت القدرة على التعرف على أنواع مختلفة من الشاى تحظى بتقدير كبير وشرفًا مخصصًا لرب الأسرة أن يصنع الشاى بنفسه.. واشتهرت الولائم التى تتمحور حول الشاى وأدى هذا إلى تقليد تقديم شاى تحية للامبراطور كل عام.. سقطت الصين تحت حكم المغول فى القرن الثالث عشر وسيطرت المشروبات الخاصة بهم.. إلا أن الحماس لشرب الشاى وقتها كان الطريقة التى أعادت الثقافة الصينية بها تأكيد نفسها بعد طرد المغول بعد قرن من الزمان. ثم أُخذت الفكرة لأعلى مستوياتها فى اليابان حيث تطورت المعارف حول تحضيره ونموه وفوائده فى القرن الثانى عشر.. ويعد حفل ياباني للشاى أمرًا ذا طقوس معقدة للغاية.. خطوات لطحن الشاى وغلى الماء وخلط وتحريك الشاى وشكل الأوانى وترتيبها وطبيعة استخدامها وملعقة خاصة والقماش الحرير لمسح البرطمان مع التقليب وغطاء الغلاية وهلمّ جرّا!! فحفل الشاى اليابانى هو قمة ثقافة الشاى.. وعبر مئات السنين من العادات والطقوس المتراكمة وتأثيرات ثقافية ودينية وصل الشاى إلى أوروبا فى أوائل القرن السادس عشر عندما وصل الأوروبيون الأوائل للصين عن طريق البحر، وصل هولندا 1610 وفرنسا 1630 وإنجلترا 1650.. نافس الشاى اثنين من مشروبات أوروبا الساخنة، القهوة والشوكولاتة.. وكان من بين أكثر المشجعين والمتحمسين له الطبيب الهولندى كورنيليوس بونتكو الذى كتب كتابًا أوصى فيه باستهلاك عدة أكواب من الشاى كل يوم أوصى به لجميع الشعوب.. بداية من عشرة أكواب يوميًا وإمكانية الزيادة للمرضى حتى تصل إلى خمسين كوبا فى اليوم، واقترح مائتى كوب كحد أقصى..!! أضافت أوروبا الحليب والسكر للشاى فى وقت مبكر.. واختفى سريعًا من فرنسا بسبب القهوة والشوكولاتة.. إنجلترا هى التى برزت كدولة محبة للشاى بحماس غريب.. فليس من المبالغة القول أن لا أحد فى بريطانيا يشرب الشاى فى بداية القرن الثامن عشر وقد فعل الجميع بحلول نهايته.. كان العامل الأول لصعوده فى إنجلترا التأييد الملكى له، حيث قدمته كاثرين براغانزا ابنة الملك جون الرابع ملك البرتغال التى تزوجها تشارلز الثانى عام 1662 وجلبت معها عرف احتسائه فى أكواب صغيرة.. والعامل الآخر هو دور شركة الهندالشرقية البريطانية وصلاحياتها ونفوذها.. فقد امتلكت حق احتكار الواردات لإنجلترا من الشرق وإصدار العملة والحفاظ على الجيش وإعلان الحرب والقيام بالسلام وتشكيل تحالفات على مدار قرن بأكمله.. بدأت كشركة تجارية بسيطة وانتهت بالتجلى البريطانى الأعظم!! فنجانك الصباحى -أو كأسك المسائية- الذى يعلمه عنك لا يعلمه غيره، ربما هو الصديق الأقرب للنفْس.. نديم الروح.. يعرفك جيدًا ويميزك عن غيرك.. يدرك من إيقاع تنفسك ما الذى حل بك من ألم، قلق، أو فرح.. يلمس شرودك ويحس بلهيب أنفاسك الغاضبة.. هذا الصديق الحميم الأصيل.. هو لك دائمًا، جاهز للإنصات والمشاركة.. يمنح ذاته وروحه التى هى مزيج من روحيكما.. لا يوجه اللوم أو النصائح أبدًا فقط يستمع ويهب الراحة.. رشفات دافئة أو باردة تهدهد الروح الوحيدة وتربت على القلب الحائر.. يبث معك التنهدات التى تحمل رسائل دائمة الرحيل، مع البخار والرائحة.. يشارك الأفكار والأحلام.. هى مشاعر بالغة التعقيد.. وحده الصمت بينكما يكمل اللحن.. شبيهة المعجزة تلك الراحة المستحقة وذلك الجمال البسيط!!