لم تدخل القهوة القاموس المصري بين يوم وليلة، إذ كافحت طويلاً حتي وصلت إلي عرش المشروب الرسمي لتعيد رسم المشهد الثقافي في القاهرة علي جميع المستويات لقرون عدة، فالقهوة لم تكن يوماً بالمشروب العادي، بل إنها ضمت الكثير من القصص والحكايات التي تكشف عن تطورات المجتمع المصري علي مدار ستة قرون تقريباً، شهدت البلاد خلالها تغير الحكام وتبدل العباد وانقلاب الأحوال. بدأت علاقة المصريين بالبن منذ القرن الخامس عشر الميلادي علي وجه تقريبي، عندما اكتشف مشايخ الصوفية شجر البن في اليمن، وهناك بدأت التجارب علي استخدام النبتة الجديدة، والتي اكتشف أنها تنشط الذهن وتساعد في تحمل ساعات السهر طلباً للعبادة، لذلك أقرها الشيخ الصوفي العيدروسي علي أتباع طريقته، ثم انتشرت في جميع بلاد اليمن، والتي كانت خاضعة حينذاك لسيادة الدولة المملوكية في مصر، فكان من الطبيعي أن انتشر تناول البن في أرجاء الإمبراطورية المملوكية بما في ذلك مصر والحجاز والشام، ومنها انتقل شرب القهوة إلي الدولة العثمانية بعدما ضم السلطان سليم الغازي معظم هذه الأقطار إلي دولته، ومن إسطنبول انتقل شرب القهوة إلي العالم كله، فرجال الصوفية هم من علموا العالم شرب القهوة، بعدما أصبحت من لوازم الصوفية، لأنها تساعدهم علي السهر وقيام الليل، وتنسب القهوة في بلاد الشام إلي الطريقة الشاذلية، فتسمي »شاذلية»، ويتم سكب الفنجان الأول من القهوة علي الأرض، باعتباره من نصيب مؤسس الطريقة الشاذلية. ومع دخول البن إلي مصر علي ركاب الصوفية، بدأ المشروب المعد منه يأخذ اسمه المميز؛ »القهوة»، وهي أحد أسماء الخمر في العربية القديمة، وتم استخدام أحد أسماء الخمر للدلالة علي مشروب البن، من باب التسمية بالأضداد كما جرت عادة العرب، بأن يطلقوا علي الشيء عكسه فيسمون الفتاة الجميلة ب»قبيحة»، وأسود البشرة ب»كافور»، لذلك أطلق علي مشروب البن »القهوة» لأنه يوقظ العقل علي عكس الخمرة التي تذهب به، فيما رأي البعض أن سبب التسمية يرجع إلي أن معني قها في اللغة فقدان الشهية، وهو الأثر الذي تشترك فيه القهوة والخمرة لمن يتناولهما. ومع انتشار شرب القهوة في مصر المملوكية، بدأت المحال التي تستضيف محبي المشروب الجديد، والذي كان يقدم عادة مع النرجيلة، وسرعان مع دعيت المحال ب»المقاهي»، وهي التسمية التي انتقلت إلي الأناضول العثمانية، لكن انتشار المشروب في القرن الخامس عشر الميلادي فجر الخلافات والنقاشات الحادة بين الفقهاء حول مدي مشروعية تناول القهوة، وهو ما دفع بعضهم إلي تأليف الكتب التي تدافع عن مشروعية مشروب القهوة وأخري تدفع بحرمانية تناوله، وكان من الطريف أن ظهر وسط هذا الجدل حديث منسوب إلي النبي صلي الله عليه وسلم، يذهب إلي أن »من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجه أسود من أسافل أوانيها». ويذهب محمد الأرناؤوط في كتابه »من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي» إلي أن أول صدام حول مشروعية شرب القهوة بدأ في مكةالمكرمة، عندما عين السلطان المملوكي قنصوه الغوري خاير بك ناظرا علي الحسبة في مكةالمكرمة العام 1511، ووصول الأخيرة من القاهرة إلي مكة في وقت كان يتم الاحتفال فيه بالمولد النبوي الشريف، ووجد أن الجماعات الصوفية تتناول مشروب القهوة بكميات كبيرة في هيئة السكر، إذ كانوا يتبادلون الشرب من كأس ضخمة مليئة بالقهوة، فسأل خاير بك عن فعلهم هذا، فقالوا له إنهم يشربون القهوة، وحكوا له عن طريقة صناعتها من حب البن، وأن القهوة أصبحت منتشرة في مكة وصار البن يباع في شوارعها في أماكن علي هيئة الخمارات ويجتمع عليها بعض الناس بشكل مخالف للشريعة المطهرة. وعلي الفور جمع خاير بك مشايخ الإسلام في مكة لتدارس أمر القهوة، وعندما دافع شيخ الشافعية في مكة الشيخ نور الدين، تم تكفيره من قبل بقية المشايخ، الذين أفتوا بأن تناول القهوة حرام شرعاً، وأرسل خاير بك رأي علماء مكة إلي القاهرة، لكن السلطان الغوري الذي اجتمع بكبار مشايخ الإسلام في القاهرة، وصلوا إلي نتيجة مخالفة لرأي علماء مكة، إذ تقرر أن شرب القهوة حلال لا إثم فيه، وأن الحرام يتعلق فقط بالمظاهر المصاحبة لتناول القهوة من تشبه بمن يشرب الخمر، ويري الأرناؤوط أن هذه الفتوي التي انتصرت للقهوة، كانت السبب الرئيس في انتشار القهوة في مصر ومنها إلي العالم كله. ويري الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان، أن انتشار القهوة جاء بجهود مصرية خالصة فعن طريق مصر انتقلت فنون شروب القهوة إلي أرجاء الدولة العثمانية كلها، وعبر العلاقات التجارية بين مصر والمدن الإيطالية بدأت تنتقل فنون شرب القهوة إلي أوروبا، وأن مصر كانت تستورد القهوة من اليمن ثم تعيد تصديرها ومعها الإنتاج المصري من السكر إلي أوروبا، وأكد ل»آخر ساعة»، أن القهوة تحولت إلي طقس اجتماعي في مصر بعدما انتشرت المقاهي في جميع أرجاء القاهرة، وباتت الكثير من صفقات التجار تجري داخل المقاهي، بل وتحولت إلي مراكز ثقافية إذ شهدت تجمعات لأصحاب الربابة وخيال الظل ورواة السيرة الشعبية وهو ما ظل قائماً حتي القرن العشرين. وأشار الدسوقي إلي أن القهوة كانت المشروب رقم واحد حتي القرن التاسع عشر، عندما بدأ الاحتلال البريطاني لمصر، والذي جاء بعادات جديدة، إذ فرض البريطانيون طباعهم وذوقهم علي المصريين، فالإنجليز يعشقون الشاي، وبدأوا في استيراد كميات كبيرة منه من مستعمراتهم في الهند، وهنا بدأت النخب المصرية في تقليد المستعمر ومحاولة التشبه بقادة الاحتلال الإنجليزي، فبدأ الشاي يغزو الأحياء الراقية أولاً ثم مقاهي الأحياء الشعبية في القاهرة، ومنها إلي الريف حتي أزاح الشاي القهوة من عرش المشروب الأكثر تفضيلاً عند المصريين بحلول منتصف القرن العشرين.