نتمنى أن نعيش فى عالم يخلو من الكذب. فكما يقولون الكذب هو أصل الشرور، لكن الفيلم الكوميدى العميق المغزى برغم بساطة الطرح يأخذنا فى رحلة فانتازية إلى عالم لا يعرف أفراده الكذب، هؤلاء البشر لا تستوعب عقولهم أى شىء غير التحدث بالحقيقة المطلقة والصدق المطلق، عدم القدرة على الكذب تأتى من عدم إدراكهم لماهية الكذب، فى مجتمع الصادقين ماذا يحدث لو ملكت وحدك القدرة على الكذب؟ البطل شخص دمث الأخلاق مرهف الأحاسيس، عميق المشاعر لكن لا يستطيع أن يلفت انتباه المرأة التى يتمناها، فهى ثرية وجميلة وذكية وتبحث عن رجل يورث أبناءها جينات الوسامة والذكاء والنجاح، أما هو فكاتب متواضع الشكل، فاشل فى إدراك النجاح غير واثق من ذاته، وبمقاييس الحبيبة للوسامة لا يتخطى حاجز الواحد من عشرة على أفضل تقدير، عن طريق أحد مواقع التعارف يستطيع أن يحصل على موعد غرامى مع حبيبته التى تفاجأ به مخيبًا للآمال وهنا نرى كيف تنطلق المواقف الكوميدية بسبب عدم قدرة الأشخاص على الكذب والمجاملة، فتصارحه بلا أى تردد بأنها غير معجبة به ولا بمظهره ولا تظن أن هناك أى فرصة بينهما إلا أنها ستخرج معه لتناول العشاء لإحساسها بالملل، وفى المطعم يستنكر النادل وجود امرأة جميلة مع رجل لا يناسبها وتخرج كلماته صادمة، وتعترف الحبيبة للبطل بأنها لن تراه مجددًا لأنه لا يناسب تطلعاتها، الجميع لا يمكنه المجاملة فالمجاملة نوع من أنواع الكذب، ولا يستطيعون تزييف المشاعر لأن إبداء عكس ما يشعرونه هو نوع من الكذب.. اللص مثلا حينما يضبط أثناء اقتحام أحد المنازل ويسأل عن سبب وجوده يرد فورًا أنا هنا لأسرق المنزل، إحدى شركات المياه الغازية فى إعلانها عن منتجها تعترف بأنها المياه الغازية التى تطلب فقط حينما لا يتوفر منتج المنافسين، أما شركة المياه الغازية المكتسحة للسوق فمحتوى إعلانها هو «منتج يتكون من سكر وألوان صناعية ومضر للصحة ولكن نريدكم أن تشتروا منتجنا حتى نجنى الأموال»، أما دار العجزة فيطلق عليها «المكان الذى تلقون فيه بآبائكم وأمهاتكم» تخيلوا عالما بهذا الكم من الصدق.. وبينما يعانى بطلنا من آلام الفشل فى تجربته العاطفية يتم طرده من العمل أيضًا ويهدد بالطرد من مسكنه إذا لم يدفع الإيجار، بينما لا يمتلك سوى مبلغ صغير لا يفى بالإيجار ولا يجد أى مفر من التوجه إلى البنك لسحب هذا المبلغ الصغير ولكن نظام البنك الإلكترونى كان معطلا فسألته الموظفة كم يريد أن يسحب من حسابه؟ هنا يطالبها البطل مترددا بمبلغ أكبر وهو مصدوم ومذهول من قدرته على فعل ذلك، وبرغم عودة النظام الإلكترونى للعمل واكتشافها أن حسابه لا يوجد به هذا المبلغ إلا أنها لا تشك البتة فى صدقه ولكن فى فاعلية النظام الإلكترونى، لا يمكن أن تشك فى صدقه بالطبع لأنه اكتشف توًا أو اخترع الكذب.. تتبدل أحواله المادية فى يوم وليلة، ويمتلك الأموال، ولكن فى زيارة لأمه المسنة يجدها تحتضر، والطبيب يصارحها بمنتهى الصدق أنها ستموت لا محالة لأن كل المؤشرات الحيوية لديها منخفضة والأم فى حالة هلع من ذهابها إلى العدم والفناء لأن مجتمع الصادقين لا يعرف إلا كل ما هو مادى، للتهوين عليها يقول لها الابن أنها ستذهب لمكان أفضل فى السماء وسترجع صغيرة كما كانت كما أنها ستقابل أبيه وستحيا فى سعادة أبدية، ولأن الجميع غير قادر على الكذب أو التخيل يصبح كلام البطل مصدقا به بل واكتشاف العصر، ويصبح هو الرجل الذى يعرف ماذا يحدث بعد الموت. وهنا تستوقفنى ملاحظة أن الصدق يتطلب قدرا من الإنسانية ولا يتعارض مع إعطاء الأمل، فعالم لا يرى سوى الحقائق المادية وليس لديه القدرة على الأمل والتفاؤل والتخيل هو عالم يختنق أفراده ويتحولون لآلات لا مشاعر لها. الفيلم يلقى الضوء على الوصايا العشر وفكرة الإله ومفهوم الإيمان، هو لا يرفض فكرة الدين وما بعد الحياة ولكن يترك الباب مفتوحا لكل الخيارات، المغزى الأساسى هو أن القدرة على التخيل هى التى تزرع الأمل، أن تؤمن بوجود حياة بعد الموت يجعل منك إنسانًا أسعد وأن الإيمان فقط بالحقائق المجردة ربما لا يجلب لنا السعادة.. وتدرك البطلة أن ما تراه بأعينها فى البطل ليس كل ما يمتلك، وأن عليها أن ترى بقلبها ما لا تتبينه عيناها وتفهم أن الجمال الحقيقى لا يكمن فيما نراه بالعين المجردة بل فيما نؤمن به ويلمس قلوبنا ويعطينا الأمل والحب والسكينة.. يتألق الممثل الإنجليزى ريكى جيرفيز فى دور البطل (مارك بيلسين) وجنيفر جيرنير «أنا مكدوجليس» فى دور الحبيبة، العرض الأول أكتوبر 2009 بميزانية 18 مليون دولار ومحققا 32 مليون دولار فى فترة عرضه بدور العرض، ويمكن مشاهدته على نتفليكس أو اليوتيوب.