فى محطة مصر يجتمع ناسها وتتلاقى شخوصها. من بحرى أو من قبلى. يجتمع فيهم الكبرياء والتواضع والسعى لتحقيق الآمال.نلتقط مزاج اللحظة دون تدخل فيما قبلها أو بعدها.يجسدون كبرياء الفرعون وصلابة الجنوبى ووجع المكافح.هى وثيقة لمجتمع ننتمى إليه..وناس نخلد وجوههم.. الضوء فى محطة مصر ثابت طوال اليوم، بدرجة يصعب معها التعرف على التوقيت، ولا الطقس، ولا الفصول، هى مدينة قائمة بذاتها، وهذا من أسرار روعتها، الشىء الوحيد الذى يربطك بالعالم الخارجى هو الساعة الضخمة العتيقة المعلقة من قديم الأزل بالقرب من شباك التذاكر، ليس فى المكان ظلال لأشخاص ولا قطارات، وكأن الضوء الأبيض المبهر قد أزال التفاصيل، يبدو المكان كنقطة ضوء لا يشوبها إلا الزحام وأصوات الجرارات المجرية العملاقة، التى تزينت بشريط ملون لعلم مصر، وثلاثة حروف ذات مغزى «س.ك.م». تقترب صباح العشرينية من الكافيتريا الملحقة بساحة الانتظار والتواعد فى بهو المحطة، تملأ المكان بهجة وعبقًا ورائحة نفاذة، بفعل باقة كبيرة تمسك بها بشقاوة وتمتلئ بالورود، وتختلط فيها الألوان: أصفر، أحمر، روز، بنفسجي..أما الرائحة النفاذة التى تصاحبها أينما غدت أو جاءت، فليس مصدرها الورد المبلل بقطرات الماء فقط، بل هى رائحة اصطناعية تسميه «إسبراى السعادة» وتضيف: أنا ماشية ومعايا السعادة بالألوان والروائح..هكذا قال لى مؤلف تمثيليات عندما رآني!. هل هذه تجارتك..يعنى بتشتغلى لحساب نفسك؟ لأ طبعًا.. أنا 23 سنة..يعنى لسه عضمى طرى محتاجة اللى يحميني، معايا المعلمة.. قالتها ثم تبخترت حول الموائد، بعد أن أشار إليها أحد المسافرين، تمنحه بابتسامة عريضة وردة، تلقفتها منها الفتاة التى بصحبته!. صباح تؤكد على أن حياتها خالية من الرجال، بل تعيش مع شقيقها المراهق «راجلي» هو والمعلمة وبس!. صباح فتاة جميلة إلى حد كبير، ذات قوام ممشوق، منحها عمرها جسدًا غير مترهل، بعيد عن الاكتناز، هى لا تعرف ردًا على زبائنها سوى «اللى تشوفه حضرتك»، خمسة جنيه ماشي..عشرة كتر خيرك، ذات مرة ترك لها مسافر وسط أعواد الورد، ورقة فئة المئتى جنيه، هى تؤكد أنه شخص مشهور، ولكنها لا تتذكر اسمه لأنها لا تشاهد التليفزيون، ولا تعرف يعنى إيه «توك شو»، «ده عايز البال الرايق»، وإن كانت تستطيع أن تميز وجه المذيع أحمد موسى الذى تشاهده فى بيت المعلمة وهى تمنحها حصيلة اليوم..كل يوم..»أسمر وشعره على درجة 1 وبيجيب التايهة»!. صباح لها ضحكة تنير الدنيا، هى وهبت نفسها لتعليم شقيقها بعد انفصال الوالدين وزواج الأم من أحد تجار الأدوات المنزلية، ورغم أنها واقفة على حيلها طول النهار، إلا أنها لا تعرف الراحة مساء، فى الحجرة التى تسكنها عند ناس طيبين فى حى زين العابدين، تطبخ لليوم التالى وتنظف المكان، ولا تنام إلا بعد نوم صغيرها، نصيبها من توزيع الورد فى أكثر من مكان وأحيانا المعلمة تستبدل الورد بالبخور بحسب منطقة البيع نحو جنيهات تصرفها جميعًا على طلبات البيت..حتى يأتيك ما فى الغيب، أحلامها غريبة مثل حياتها المثقلة بالهموم، تحلم بمسكن تستنشق عن طريق شباكه هواء منعشًا؛ فهى ليس لديها نافذة فى حجرتها الرطبة، أما الحلم الأكثر غرابة فهو أن يكون لديها دراجة هوائية، لا تستهلكها فى العمل، بل تلهو بها كما الأطفال. تسألني: هو الجماعة اللى عندهم «فلل» -قالتها بالفاء- وجناين، ليه حارمين نفسهم من اللعب بالعجل، ليه حياتهم كلها عربيات..همه مش بيزهقوا؟! سألتها وقد أعجبتنى بكارة أحلامها: عمرك روحتى إسكندرية؟ تضحك بطفولية بريئة وتكشف عن أسنان بيضاء سليمة لم يلوثها التبغ: أنت عارف..أنا اشتغلت على كل القطارات، وجيت لحد قطر اسكندرية وقلت..لأ.. ليه؟! أنا عارفة نفسي، لو طلعت اسكندرية مش هرجع!.