فى لقائه مع رؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارات الصحف المصرية 22 مارس بمقر المجلس الأعلى للإعلام، أكد أسامة النقلى السفير السعودى بالقاهرة، أن «المملكة كانت مختطفة خلال السنوات الأربعين الماضية!!، من قبل أفكار واتجاهات محددة، والآن بدأنا نعود إلى الحياة الطبيعية، بعد أن كنا متأخرين عن العالم خمسين سنة»، و: (رغم بعض الأزمات التى شهدتها العلاقات السعودية المصرية، إلا أنها ظلت قوية وراسخة، ضد محاولات الإساءة من جانب بعض «منغصات الإعلام»). توصيف السفير للحالة السعودية، اتسم بالواقعية والدقة.. التسليم بمعطيات الأزمة، يسمح بمواجهتها، ومعالجة آثارها، لكن ربطها بمحاولات الإساءة للعلاقات، أمام أقطاب الصحافة المصرية، بمثابة دعوة للتريث فى التناول، لكننى أستند هنا لموقف إيجابى مبدئى من المملكة، دفعنى بعد اعتلاء الملك سلمان للعرش 2015 إلى نشر سلسلة مقالات بجريدة «الوطن» الغراء تتعلق ب«تغيرات الإقليم»، لتناول ما قام به خادم الحرمين الشريفين من إجراءات، لولاها لاستكملت إيران وتركيا حصار المملكة.. ذلك تذكير واجب بأن الكاتب أبعد مايكون عن «منغصات الإعلام». السعودية دولة محورية، اختطاف المتشددون لها أحدث انقلابًا بالإقليم، كانت مصر إحدى ضحاياه.. نظرة لتجمعات الطالبات، وأطقم التمريض، ومربيات الأجيال، والبشر بالشوارع، فترة الستينيات والسبعينيات، ومقارنتها بالوضع الراهن، تؤكد حجم الكارثة.. أبناء المحروسة عملوا بالمؤسسات السعودية، وعادوا بقيم متشددة، ومظهر مختلف، أنشأوا روافد وجمعيات تكفل الحفاظ على التأثير المتبادل، بينهم وبين متشددى المملكة.. التدفقات النقدية والدعم توارى خلف أنشطة خيرية.. ما أخشاه اليوم بعد أن عادت المملكة إلى الحياة الطبيعية، أن تنعكس دورة التأثير، بدعم المتشددين هنا لمعارضى التحديث هناك. الخلاصة، معالى السفير.. أن المعركة ضد التشدد واحدة، ينبغى أن نخوضها سويًا، وإلا لن يقدر لنا كسبها.. واسمح لى أن أعرض رؤيتى لتجربتكم الرائدة، حتى يلم القارئ الفطن بأبعادها. رؤية السعودية المتشددون فرضوا قيودًا حرمت المواطن السعودى من الاستمتاع بالفنون والموسيقى والسياحة والسينما والمسرح، ما أثر على المزاج العام، وضاعف من حجم السياحة الخارجية، بما تفرضه من أعباء على الاقتصاد.. والمثير أنهم يحللون لأنفسهم السفر، بحجة العلاج، ويستجمون بالمنتجعات السياحية، ويتمتعون بالأنشطة التى حرّموها على العامة.. «رؤية السعودية 2030» أعلنت أبريل 2016، وكانت مرتكزًا لأكبر عملية تحديث تشهدها المملكة عبر تاريخها؛ تضمنت إنشاء مجمعات رياضية للنساء، مدينة إعلام معاصرة، وتطوير السياحة، لتوفير وسائل التسلية والترفيه، وتنويع مصادر الدخل، باستثمارات بلغت 64 مليار دولار.. إجراءات الانفتاح بدأت مع تبوء الأمير محمد ولاية العهد يونيو 2017.. عمليات التطوير والتنمية اقترنت بمظاهر التحول الاجتماعى وأشكال الترفيه، ما أوجد تفاعلًا شعبيًا، وترحيبًا بقرار السماح للمرأة بقيادة السيارات، وعرض أعمال فنية لكبار النجوم، افتتاح دور السينما، تنظيم حفلات موسيقية، وبطولات رياضية، وإلغاء وصاية الرجل على المرأة فى المعاملات الإدارية وإجراءات السفر. المتشددون ومعارضو الانفتاح تجاوزات عناصر الشرطة الدينية «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، والمحتسبون المتعاونون معهم، وصلت حد اعتبار معرضًا للكتاب أو أمسية شعرية ضمن مظاهر الفساد والفسق والرذيلة، ما فرض على الدولة غل أيديهم عن التدخل، وأطلقت حملات توعية بخطورة الفكر الإرهابى خاصة فى القطاعات التعليمية والأمنية، اعتمادًا على المحاضرات والندوات الدينية ومنابر المساجد.. وزارة الداخلية شكلت لجنة «المناصحة»، لمراجعة المعتنقين للأفكار الهدامة، ما أسفر عن تراجع الكثيرين، وإن كنت لا أميل للثقة فى توبتهم، لأن التجربة مع نظرائهم فى مصر أكدت أنهم كاذبون، ومستعدون للارتداد بمجرد توافر الظروف المواتية. حجم التجاوب الشعبى مع الإصلاحات كان تاريخيًا، وفرحة الشباب بالمحلات التجارية وهى تعرض هدايا احتفالات عيد الحب فبراير الماضى، كان غير مسبوقًا، مما أقلق المتشددين من إنتهاء سيطرتهم على العقول، بعد أن فسروا مايحدث بأنه عملية استهداف للمؤسسة الدينية، التى قامت المملكة على أساس الشراكة بينها وبين المؤسسة المدنية، عندما تحالف أمير الدرعية محمد بن سعود مع الإمام محمد بن عبدالوهاب 1745.. الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتى المملكة دعا القائمين على هيئة الترفيه «ألا يفتحوا للشر أبوابًا» بأنشطة يراها مخالفة للإسلام!!.. الإخوان شاركوا فى التعبئة ضد التحولات الاجتماعية، وتأليب الناس عليها، باعتبارها تتعارض مع الدين.. والكتائب الإلكترونية اجتزأت مشاهد من الفعاليات الفنية والأدبية والموسيقى، واستخدمتها للتنديد بالانفتاح.. وتضمنت الحملات المضادة هاشتاجات ترفض الإنحلال فى الشوارع لتنفير الرأى العام من كل مايتعلق بالانفتاح من مظاهر وأنشطة وفعاليات. الحملة الغربية ضد المملكة الغريب أن يتفق بعض النشطاء والمدونون مع المتشددين فى معارضة الانفتاح، واعتباره أحد أدوات مواجهة السلطة المدنية للمؤسسة الدينية، مدللين بأن بعض من هاجموا الدور الذى مارسته المؤسسة الدينية فى تقييد الحريات العامة لازالوا فى السجون!!.. الإعلام الغربى شارك فى الإساءة للمملكة.. رويترز أبرزت أواخر مارس إدعاء أربعة ناشطات سعوديات، بتعرضهن للتعذيب خلال احتجازهن بتهمة ارتكاب جرائم إنترنت، والعمل فى مجال حقوق الإنسان، والاتصال بصحفيين ودبلوماسيين أجانب، رغم تأكيد النائب العام السعودى كذب ادعاءاتهن، وأنهن ضمن مجموعة ألحقت الضرر بالمصالح السعودية، وقدمت الدعم لعناصر معادية بالخارج.. دول الاتحاد الأوروبى وكندا وأستراليا، وتسعة أعضاء بارزين بمجلس الشيوخ الأمريكى ناشدوا الرياض الإفراج عنهن. والحقيقة أن هناك نوعًا من التربص بالحكم السعودى، تجسد فى عدة مواقف، أبرزها رد الفعل تجاه عملية اغتيال خاشقجى، التى لا تتعدى كونها عملية مخابرات فاشلة، شهد التاريخ المعاصر منها الكثير، ولولا حسن إدارة المملكة لخواتيمها، ونجاحها فى توظيف ثقلها السياسى والاقتصادى والمالى، لتصاعد رد الفعل حد الطوفان.. صحيفة «لاكروا» الفرنسية نشرت يناير الماضى مقالًا للصحفية كلارنس رودريجيز صاحبة كتاب «ثورة تحت الحجاب» أشارت إلى أن السعوديات يولدن قاصرات، لا تتمتعن بأى استقلالية، وتبقين كل خياراتهن رهينة بموافقة الرجل، حتى الطلاق كان يمكن أن يقع دون علمهن، قبل أن تصدر السلطات أخيرًا قانونًا يمنعه.. كل الشواهد تؤكد حقيقة أن التنظيمات الدينية المتشددة أحد أدوات الغرب لكفالة مصالحه فى بلادنا، ما يفسر مبادرته لحمايتها، كلما حاولنا تقليم أظافرها.. الغرب مهتم باستمرار التخلف العربى، ما يفسر معارضته للانفتاح والتحديث، رغم محاولاته الإيحاء بدعمه لهما. ضرورات التغيير المؤسسة الدينية فى السعودية تتسم بالضخامة، تتحكم تقليديا بمعظم مناحى الحياة، خاصة التعليم، الإعلام، والمساجد، وتمتلك من القدرات التمويلية والصلاحيات ماسمح لها بأن تصبح المؤسسة الأقوى بالدولة، وبالتالى عملت بشكل منهجى على نشر ثقافة معادية للتغيير والانفتاح، حركة الإصلاح التى قادها النظام الراهن، لم تكن استجابة لضغوط غربية كما يتصور البعض، ولكنها استندت إلى تقدير النظام بأن ضخ المليارات على تعليم أبناء المملكة بالخارج لعدة عقود، خرَّج أجيالًا عادت لتستشعر الفارق بين ما تعلموه، وعاشوا فى كنفه بالمجتمعات الغربية لسنوات، وبين الواقع المحافظ إلى حد التشدد، الذى يعيشون فيه.. الإصلاح والانفتاح وسيلة ناجحة لاحتواء جيل، من أن يواجه الإحباط، أو يسعى لإحداث تغيير اجتماعى فوضوى. الجمعيات الأهلية المتشددة التشدد بداية التطرف، والأخير هو الطريق إلى الإرهاب، ما يقلقنى هو الترابط بين التشدد فى المملكة ونظيره بمصر، بعض الجمعيات الأهلية فى الخليج ضخت تمويلًا بالملايين للمتشددين والسلفيين والإخوان، دافعها الظاهرى دعم فقراء المسلمين، ونشر الدعوة، وتشييد المعاهد الدينية والتعليمية، ورعاية شئون اللاجئين.. لكن الواقع أثبت أنها اتجهت لدعم النشاط المتطرف، هذه الجمعيات والمراكز فى البلدين ينبغى إخضاعها لعمليات إعادة هيكلة، ومراجعة عناصرها القيادية، وتقنين التدفقات الخارجية على النحو الذى يسمح بالسيطرة على توجهاتها. مصداقية التجربة توفير فرص النجاح للتجربة السعودية أمر بالغ الأهمية، لانعكاساته على الإقليم، بحكم ثقل المملكة، وتأثيرها الخارجى، النجاح يرتكز على تأكيد مصداقية النظام، والوجوه التى تعبر عن توجهاته.. عبدالله بن عبدالعزيز آل الشيخ وزير الشئون الإسلامية الذى وصف عند تعيينه بصاحب الآراء المنفتحة فى المجتمع والشريعة، كان قد وجه رجاء خاصًا لقطاع الترفيه، عندما كان رئيسًا لهيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لمراعاة الدين!!، ونفى أن تكون أشكال الترفيه ك«السينما» مهمة وضرورية للمجتمع!!، عندما أصبح وزيرًا روَّج لأشكال الترفيه بالمملكة، واتهم رافضوه ب«الإقصاء والنفعية»!!.. الوزير تركى آل الشيخ رئيس الهيئة العامة للترفيه أكد أن الانفتاح «لا يتصادم مع ثوابت الدين الحنيف ولا مع عادات وتقاليد المجتمع»، وأنه سيتم تنظيم مسابقات لتلاوة القرآن وأخرى لرفع الأذان.. ونفس المشايخ الذين سبق أن أفتوا بمنع وتحريم قيادة المرأة للسيارة، هم الذين أيدوا أو تجاهلوا الأمر الملكى بالسماح للنساء بالقيادة سبتمبر 2017. أخطر ما يمكن أن يتم ارتكابه من أخطاء، أن ننزلق إلى مايمكن أن يفقد الناس الثقة فى رجال الدين، وفى موضوعية فتاواهم، وأن يتبادل المسئولون الأدوار، فيدافع المعنى بالترفيه عن الدين، بينما يروج المسئول عن الدين للترفيه، فيفقد الجميع مصداقيته.. وتلك فرية يجدر بنا تجنبها.