خمسون عاما بالتمام والكمال، تمر هذه الأيام، على الثورة الشبابية والطلابية التى اجتاحت العالم فى مثل هذا الشهر من عام 1968. من «كاليفورنيا» إلى «باريس»، ومن «لندن» إلى «بون»، ومن «روما» إلى «أثينا»، ومن «بيونس أيرس» إلى «نيو مكسيكو»، ومن «بكين إلى القاهرة»، مثلما يحدث عندما تتحرك قطع «الدينامو» المتراصة، انتفضت جموع الطلبة والشباب. واجتاحت موجاتها العاصفة المئات من المدن، والآلاف من الجامعات، على مسرح العالم كله، ترفع قبضتها ضد الآليات السياسية البالية، والممارسات البيروقراطية القمعية، وميكانزمات الاستهلاك الرأسمالية البشعة، التى قضت على إنسانية الإنسان، وحوَّلته إلى ترسٍ يدور بلا انقطاع أو غاية، فى آلة المجتمع الاستهلاكى، الذى جعلت من كل شيء سلعة، تباع وتُشترى، حتى المشاعر الإنسانية، والأفكار، والقيِم العليا، والمبادئ! وكما وصفت مجلة «نيوستيتسمان» البريطانية، (عدد 24 30 مايو 1968)، فقد كان: «ثمة شبح جديد يحوم فى كل أنحاء أوروبا، ذلك هو شبح «سلطة الطلبة». فما يحدث الآن يشبه ماحدث عام 1848. فقد كانت كل ثورة تشتعل فى إحدى عواصم أوروبا تحمل فى جنباتها بذور العدوى التى سرعان ماتنتشر فى كل مكان آخر». وكانت فرنسا مركز هذه الموجة العاتية، وبالذات جامعتى «نانتير» و«السوربون» فى باريس. كان الطلاب والشباب يلجأون إلى أسلوب «العمل المباشر»، لأن «مناقشة المشاكل لا تنفصل عن العمل من أجل حلها». ولأن «أسلوب المثقفين يجب أن يكون تحقيق الديمقراطية الشارع، لأن سلطة الدولة لن تُسَلَّم بالمطالب إلا إذا ووجهت بتحدٍ سافر»! وتهاوت كل الحصون التى صنعتها الطبقة الرأسمالية الاحتكارية وأجهزة «الضبط الاجتماعى» للسيطرة على ملايين الشباب، الذين خرجوا يرفعون رايات التمرد على سلطة «الأب»، و«الوصى» و«الحاكم»: فلا برامج التعليم المدروسة، ولا آليات التربية والتوجيه الفكرى، ولا أجهزة الهيمنة الفكرية والثقافية: الإعلام، والمؤسسات الدينية، ووسائل الدعاية،... إلخ، استطاعت أن تقف أمام هذه الثورة العاتية التى زلزلت مجتمعات الغرب والشرق، وهم يتنادون لبناء عالم جديد، بديل عن العالم الجهنمى القائم: «لقد كان الطلبة على حق حين يصيحون أن العالم أصبح لا يحتمل»، كما كتب السياسى البريطانى «فيليب توينبى». كانت أجيال بأكملها تعترض، مُعلنة أن فئات اجتماعية جديدة، لم يكن من المتوقع بروزها، من أبناء الطبقة الوسطى التى كانت تمثل أغلبية طلاب الجامعات الأوروبية والأمريكية، والتى لم يُعهد فيها هذا النزوع الصدامى، أو الثورى: «تدخل حلبة الصراع ضد الاضطهاد الذى تمارسه دوائر الأعمال الكبرى»، ومحتجةً فى آن، على التنظيمات والأحزاب التقليدية القائمة: الرأسمالية والشيوعية، معتبرة إياها جزءًا من البُنى الجامدة المحافظة، التى «لم تنس شيئًا ولم تتعلم شيئًا»، وفقدت فاعليتها وثوريتها، ودخلت فى معادلات المصالح والتوازنات القائمة مع الطبقة الحاكمة. واختار الطلاب والشباب، «أنبيائهم الجدد»، بأنفسهم، دون وصاية: أرنستو تشى جيفارا، بطل الثورة الكوبية (1928/ 1967)، هوشى منه، الزعيم الفيتنامى (1890/1969)، وماو تسى تونج، الزعيم الصينى (1893/ 1976)، هربرت ماركوز، المفكر الألمانى الأمريكى (1898/1979)، فرانز فانون، المثقف المارتنيكى، والمناضل فى صفوف الثورة الجزائرية (1925/1961)، ستوكلى كارمايكل، القائد الزنجى الأمريكى (1941/ 1998)، ليون تروتسكى، القائد الشيوعى (1879/1940)،... وغيرهم من الرموز النضالية والثقافية، من خارج «المؤسسة»!.. كان الوعى الفكرى والاجتماعى يتجدد بقوة، مُفسحًا الطريق لموجة تغيير واسعة، رمزها هذه «الخضّة» الصادمة، التى كانت فى فرنسا، على سبيل المثال، (كما وُصفتها صحيفة «الأوبزرفر» 26مايو): «تمثل تحررًا عنيفًا للعقل من السيطرة الرسمية. وهذا هو أبعاد الانتصار الذى حققه الطلبة: لقد حولوا ميزان السياسة الفرنسية نحو اليسار، وجعلوا الشعب يتذوق طعم العمل المباشر الذى يتم خارج البرلمان. لقد فجّروا الرغبة فى الإصلاح فى جميع مظاهر الحياة الفرنسية، وأظهروا أن العنف طريق مختصر لتغيير المجتمع!».. «لقد انطلق المارد الرهيب من القمقم»، بعد أن كفرت الأجيال الجديدة بال «ديمقراطية الغربية» الشكلية القائمة: ف «حقًا إن نظام الانتخابات لازال معمولًا به.. ولكن مالعمل إن كانت الانتخابات لا تُغير إلا الأشخاص، وإذا أصبحت الديمقراطية الانتخابية شكلًا من أشكال القمع؟!». ... ومصر.. تحت ظلال «النكسة»! وعلى الجانب المقابل من البحر المتوسط، لم يكن طُلاب وشباب مصر بمعزل عن «تسونامى» الغضب الثورى الجديد، الذى أعلن عن نفسه هنا فى ارتباط بالقضايا الوطنية والعامة التى تؤثر فى المجتمع، وفى مقدمتها قضية الاحتلال الصهيونى.. كانت مصر تعيش صدمة «النكسة» المروِّعة التى حلّت ببلادنا فى 5 يونيو 1967، والتى زلزلت أركان المجتمع والدولة. الشعب والنظام.. فها هى الأحلام، والشعارات الكبرى، التى عاشها الوطن تتهاوى: أكبر قوة ضاربة فى الشرق الأوسط. بناء المجتمع الاشتراكى. وحدة الأمة العربية. إلخ، ولم يعد من حقيقة قائمة إلا قدم الاحتلال الصهيونى وهى تفقأ أعيننا على بُعد نحو مائة كيلومتر لاغير، فوق ضفة قناة السويس، وعلم النجمة السداسية المقيتة يرفرف فى سماء البلاد!. لقد اهتزت الثقة فى النظام الحاكم، ورموزه، ومؤسساته. ومع هذا كان لابد من التماسك واجتراح المستحيل، حتى لاتنهار مناعة المجتمع، وتتأبد وضعية الاحتلال. وكان خروج الملايين عشية يومى 9 و10 يونيو 1967، رافضين تنحى الرئيس «عبدالناصر»، ومطالبين بعودته، لكى يقود سفينة الوطن فى مواجهة الرياح الهوجاء، حتى يتم طرد الاحتلال وتحرير الأرض والإرادة، أول إرهاصات رفض الهزيمة ومقاومة نتائجها، والنجاح فى التغلب على آثارها. لكن الشرط الرئيسى للنجاح فى هذه المهمة كان الصدق مع النفس، ووضع اليد على الأسباب الحقيقية التى أدت لوقوع هذه الكارثة، وعلاج ثغرات البناء الخطيرة التى سمحت بحدوثها!. انفجار البركان! ومع إعلان نتائج محاكمات المتسببين فى «النكسة»، وفى تحطيم جيشنا، وتدمير طائراته على الأرض، والانسحاب العشوائى الذى أوقع خسائر فادحة فى صفوف قواتنا، وحرمها من مواجهة متكافئة ضد العدو، تثبت فيها قدراتها الفعلية، (فبراير 1968)، وبدا منها أن المنهج الذى قاد إلى الهزيمة لا زال قائمًا ولم يتغير، وأبرز مظاهرة البحث عن «كبش فداء» من صغار كبار الضباط لتحميله المسئولية، وإعفاء المسئولين الفعليين عن تحمل تبعات أخطائهم المروِّعة، انفجر بركان الغضب الطلابى والشبابى، وامتد لهيبه من الجامعة إلى المجتمع. من الإسكندرية إلى العاصمة وباقى المحافظات. ووقف النظام مشدوهًا وهو يرى بأم عينه تمرد جيل الشباب على سلطته وسياساته، (مرةً أخرى فى نوفمبر من نفس العام). وترقرقت الدموع فى عينى الرئيس «عبدالناصر»، وهو يشهد «أبناءه» يتمردون على سلطته، والصدام بينهم وبين قوات أمن نظامه يتصاعد، ويسقط فيه قتلى ومصابين لأول مرة، منذ استتباب الأمر له، واعترف فى الجلسات السرٍّية للجنة المركزية ل «الاتحاد الاشتراكى العربى»، التنظيم الأوحد القائم آنذاك، (بتاريخ 19 أكتوبر 1968)، بأن (إحنا)، أى أركان النظام: «مش قادرين نقود الطلبة، ولازم نواجه الأمور بصراحة وبوضوح. الأسباب إيه؟ّ الأسباب كتيرة. قيادة الطلبة النهاردة بقت فى إيد الحقيقة إحنا مش عارفينها إيه، سواء اتحادات (للطلبة) أو غير اتحادات»، وواصلًا إلى نتيجة على درجة خطيرة من الأهمية: «إذا كنا مش قادرين نقود. إذن يجب أن نحكم!».. كان الرئيس «جمال عبدالناصر» قد أعلن فى 30 مارس 1968 البيان الشهير الذى حلل فيه الوضع السياسى والعسكرى، وأبعاد المواجهة العسكرية والاقتصادية، وخطط إعادة بناء القوات المسلحة والتنظيم السياسى، وملامح دستور جديد مقترح مناسب للمرحلة الجديدة، مرحلة «إزالة آثار العدوان» وتحرير الأرض المحتلة!. غير أن القدر لم يمهله كثيرًا ورحل فى سبتمبر عام 1970، محفوفًا بأحزان الجماهير الغفيرة، التى أحبته، ووثقت به، وصدّقت وعوده، ولم تخذله أبدًا، وساندته حتى فى لحظة انكسار الحلم وتكالب الأعداء! وبرحيل «الريس»، الأب، والفرعون، والحاكم المهيب، الكلى الهيمنة، ووصول «أنور السادات» إلى سدة الحكم، كانت الأجيال الجديدة على موعد مع جولة أخرى من الصراع: بين الحلم والواقع. بين التطلع إلى الغد، ومحاولة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء! وكانت العيون مسلطة على واقع الاحتلال البغيض الذى استمر لسنوات طويلة، والضغط النفسى من أجل الحرب للخلاص منه هائلًا، يحرق الأعصاب، ويستهلك معين الصبر! من «عام الحسم»... إلى عام «الضباب»! وهكذا، فحينما أعلن «السادات» تأجيل «عام الحسم»، أى عام تحرير الأرض المحتلة، بسبب «ضباب» الحرب التى اندلعت بين الهند وباكستان، انفجر بركان الغضب مُجددًا، وخرجت جموع الطلاب من كل فجٍ عميق، تعتصم، بشكلٍ سلمى، وتُضرب عن الدراسة فى جميع الكليات والمعاهد، بل العديد من المدارس الثانوية، وترفع رايات الوطنية المصرية الجارفة، مستأنفةٌ تقاليد راسخة فى التاريخ المصرى، عبَّرَ عنها الباحث الفرنسى المعروف، «والتر لاكير»، بقوله: «إن التاريخ لا يعرف مجتمعًا لعب فيه الطلبة، والمثقفون بصفة عامة، دورًا طليعيًا فى الحركة الوطنية، كما حدث فى مصر»! نعم حدث هذا حينما فجَّرَ الطلبة الوعى الوطنى من خلف «مصطفى كامل» فى أوائل القرن الماضى، بعد هزيمة الثورة العُرابية، واحتلال الإنجليز للبلاد، وأشعلوا شرارة الثورة الوطنية الكبرى، عام 1919، وكانوا وقود الانتفاضة التاريخية المشهودة، فى عام 1935، والتى قدموا فيها شهداء الوطن الأماجد، وفى مقدمتهم «عبدالحكم الجراحى»، كما كانوا أبطال انتفاضة 1946، التى شكَلوا فيها «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» كقيادة جبهوية جديدة، بديلًا عن الأحزاب العميلة، والتابعة والمهترئة، وقدموا أرتال الشهداء، حتى إن «يوم الطالب العالمى»، 21 فبراير من كل عام، اختير تمجيدًا لذكرى شهداء الحركة الطلابية المصرية والهندية، ويُحتفل به الطلاب فى العالم أجمع!.. بإعلان تأجيل الحرب، تفجَّرت موجات متتابعة من الحراك الجامعى، بدأت من كلية الهندسة جامعة القاهرة، ولم تلبث أن امتدت إلى جامعات ومعاهد العاصمة، وجامعات مصر بأكملها. أعلن طلاب كلية الهندسة بجامعة القاهرة الاعتصام حتى يأتيهم رئيس الجمهورية لمناقشتهم فى الأوضاع القائمة، ودواعى التأجيل المتكرر لحرب تحرير الأرض المحتلة!.. وفشل الدكتور«أحمد كمال أبو المجد»، وزير الشباب آنذاك، فى امتصاص قلق وتوترات الشباب، وإقناعهم بالأسباب، وفى مؤتمر حاشد بالكلية، تشرفت برئاسته، أعلن أنه لا يزيد على «بوسطجى» يحمل رسائل الطلاب الغاضبة للرئيس، ويعود إليهم بجوابه عليها، وهو ماكان سببًا لاشتعال الموقف، ووقفت القيادية الطلابية البارزة، فى كلية الهندسة، الراحلة «سهام صبرى»، تقول له بشجاعة: «إذا كنت وأنت وزير، تقول أنك مجرد «بوسطجى» بيننا وبين الرئيس، فاذهب إليه وأبلغه أننا معتصمون، ولن نبارح أماكننا حتى يأتى ليرد على تساؤلاتنا!». وهكذا اندلعت شرارة الانتفاضة التاريخية الشهيرة، التى وسمت عقد السبعينيات، وامتدت من كلية الهندسة إلى كليات الجامعة، فجامعات مصر كلها، واشتعلت أروقة الجامعات بحوار حى غير مسبوق، وبآلاف من صحف الحائط، المُحَرّرة بأقلام الطلاب، والمتحررة من الخوف والممالأة، والتردد، والبحث عن الحلول الوسط، والتى تناقش بعمق وصراحة جميع مشكلات الدولة وأحوال والمجتمع. وانتقل الاعتصام من مدرج «الساوى» بالكلية، إلى قاعة الاحتفالات الكبرى، قاعة «ناصر»، وأحيا الطلاب تقاليد الحركة الطلابية المجيدة، بتأسيسهم ل «اللجنة الوطنية العليا للطلاب» تأسيًا بلجنة 1946، بالاختيار الحر المباشر لممثلى الكليات فى قيادتها، وكان لى شرف اختيارى ممثلًا لكلية الهندسة، ووجّه الطلاب حديثهم إلى الشعب، الذى تقاطرت وفوده: مثقفون ومهنيون ومواطنون عاديون، إلى ساحة الاعتصام، ليدور بينهم وبين أبنائهم الطلاب حوار صريح ووجدانى حول كل قضايا الواقع والمأمول: واقع الفقر وغياب الحريات وظلال الاحتلال وهواجس تأجيل معركة التحرير. وغنى «الشيخ إمام» للطلاب وانتفاضاتهم، من كلمات «أحمد فؤاد نجم»: «رجعوا التلامذة، ياعم حمزة، للجد تانى. لا كورة نفعت، ولا أونطه، ولا المناهدة وجدل بيزنطة، ولا الصحافة والصحفجية، شاغلين شبابنا عن القضية...»، ومن كلمات «زين العابدين فؤاد» عضو «اللجنة الوطنية العليا»، عن كلية الآداب: «مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر»، وغنى «عدلى فخرى»، من كلمات «سمير عبدالباقى»: «الدم فى طبق الرئيس الأمريكانى»، واستقطبت ساحات الجامعة كل الحالمين بمستقبل جديد للبلاد، وتفجّرت المواهب والإبداعات، وخاصةً موهبة صياغة الشعارات السياسية، التى تلخص البرامج والمطالب فى كلمات، كافية وشافية. وكان من أبرز مبدعيها الكمالين: كمال خليل، وكمال أبوعيطة، (وزير العمل بعد 25 يناير)!..كان قلب مصر ينبض مُجددًا، يحلم بالتغيير، ويغنى للحرية، ويبحث عن طريق للانعتاق.. ودارت مفاوضات عصيبة بين قيادات الطلاب وممثلى النظام: مع المهندس «سيد مرعى»، الأمين العام ل «الاتحاد الاشتراكى العربى»، بالمبنى الذى احتله من بعد «الحزب الوطنى الديمقراطى»، وأحرق فى أحداث ثورة 25 يناير 2011، ومع «ممدوح سالم» وزير الداخلية آنذاك، ومع قيادات «مجلس الشعب»، وغيرها من الجهات، وتم الوصول إلى حل وسط: يجرى بمقتضاه فض الاعتصام، الذى بدأ يهدد بامتداد شراراته إلى العمال وفئات أخرى من المجتمع، مقابل إعلان بيان موجه من الطلاب المعتصمين، إلى الرأى العام، عبر الإذاعة والتليفزيون، لتوضيح أغراض الطلاب وأسباب انتفاضتهم، بعد أن أعملت وسائل الإعلام أسنانها فى نهش سمعة المعتصمين، واتهامهم بالعمالة والخيانة الوطنية! فجر يوم 24 يناير 1972 كان الجو مُلبّدًا بالضباب. فجرٌ شتائى بارد، وجماعات الطلاب متناثرةٌ فى الحرم الجامعى، وفى القاعة الكبرى، التى كان يبيت فيها نحو 1500 طالب وطالبة من المعتصمين، يوميًا، (وبالمناسبة لم تحدث حالة تحرش واحدة، أو يقع أى تلفيات بمحتويات المكان!). البعض يُغنِّى فى شجن للوطن. والبعض يتناقش حول الظروف والأوضاع، وآخرون يُعدون العُدة للغد المُحمّل بجميع التوقعات، وأعضاء «اللجنة العليا» مشغولون فى تحليل الموقف، واستعراض كل احتمالاته!. فجأةً دوى فى المكان الهادئ صوت ارتطام هائل، وغمر الظلام والسكون ضوء كشافات قوية، وأصوات المدرعات وهى تكسر الأبواب، وتقتحم الحرم الجامعى، وجحافل قوات الأمن المركزى المدججة بالسلاح، وهى تحتل المبانى والأروقة، والقنابل المسيلة للدموع وهى تنهال من كل جانب!. وكان لابد من اتخاذ قرار سريع، حقنًا للدماء، وتجنبًا لمذبحة لا طائل من ورائها، ولا مكسب لأى طرف. وبعد حوار جيّاش بين الزملاء، اتخذت «اللجنة الوطنية العليا للطلاب» قرارًا بفض الاعتصام، دون صدام، وحتى ننهى أنشودتنا الخالصة لوجه الوطن، بغير إراقة دماء! وقفنا، نحن أعضاء «اللجنة العليا»، فى مدخل بوابة القاعة الضخم، نحتضن الزملاء المغادرين، فردًا فردًا، بين صفوف قوات الأمن الشاهرة السلاح. نشد من عزيمتهم، ونحن أشد مانكون حاجة لمن يشدد أزرنا، ومن شتى كليات الجامعة كانت صفوف الطلاب والطالبات تتجمع باتجاه سيارات الأمن. وفجأةً من بين الدموع الهاطلة، والصفوف الحزينة، والمشاعر الجيّاشة، انطلق صوت واهن، من بين الشفاه، ولكنه أقوى من كل الصمت المحيط، ينشد: «بلادى.. بلادى. لك حبى وفؤادى..» ورددت الجموع من خلفه كلمات النشيد!. كان المئات من خيرة أبناء الوطن، يُحشرون فى السيارات الحديدية الكئيبة. وحينما تحركت فى غبشة الظلام، وسط الشوارع الساكنة. تصاعدت هتافات الطلاب، تنادى الناس الغافلين: «إحنا اخواتكم. إحنا ولادكم. واللى بنعمله ده علشانكم»، وفى خلفية المشهد كان صوت «مولانا»، الشيخ «إمام عيسى»، يهتف معنا: «يامصر عودى زى زمان. ندهه من الجامعة وأذان. يامصر قومى وشدّى الحيل»!.•