تصور المتربصون والأعداء أن يوم 28 يناير 2011 كان يوم الانتصار على الدولة المصرية وأن هذا الصرح الذى بناه المصريون بأيديهم طوال سبعة آلاف عام وتعلمتْ منه البشريةُ فن إدارة الأمم زال وتحقق لهم حلمهم الفوضوى الأسود. كانت الحقيقة غير ذلك تمامًا فلايزال فى هذا اليوم هو أحدى صور الدولة المصرية الحديثة التى تأسست على يد محمد على باشا قبل قرنين واستنفدت طاقتها بالكامل وما ظنه المتربصون زوالا كان ميلادًا لصورة جديدة من صور الدولة المصرية الحديثة تتأسس الآن بثبات وفق معطيات العصر الذى نعيشه. تعرضتْ الأمة المصرية فى سنوات ميلاد صورة الدولة الجديدة (2011 - 2013) إلى مِحَن لكن الأمة استطاعت بصبرها وحكمتها تحويل المحن إلى مِنَح. مصر ضد فيروس الفوضى جددت الأمة المصرية مناعتها ضد فيروس الفوضى، تجسدت أهمية وجود الدولة عقل الأمة بعد أن تناسينا هذا الوجود من فرط الأمان، كشفت الأمة بنفسها وبالواقع العملى خطر الفاشيست الإخوان وأذنابهم من المتسلفة، استطاعت الأمة فى أيام معدودات استعادة قدرتها على حشد نفسها فى مواجهة الخطر عندما تحركت الجماهير فى ثورة 30 يونيو المجيدة وبعدها فى يوم التفويض 26 يوليو. لم تكتف الأمة المصرية بالحشد بل اتخذت قرارًا جمعيّا تاريخيّّا بخوض حربها المقدسة ضد قوى الظلام، والإصرار على استعادة هويتها المصرية الأصيلة التى غيبها على مدار عقود الفاشيست والمتسلفة بأفُكهم ودعايتهم السوداء. تصدت طليعة الأمة ممثلة فى جيشها وشرطتها لخوض هذه الحرب المقدسة بتكليف من الأمة وتحملت الطليعة عبء الحرب كواجب لا تحيد عنه منذ ميلاد الأمة المصرية على هذه الأرض الطيبة قبل سبعة آلاف عام. تلون أعداء مصر تلون أعداء مصر الخارجيين من هكسوس، صليبيين، تتار، صهاينة واستعمار وعندما فشل أعداء الخارج وصفعتهم الهزيمة بدأ الهجوم الأشرس من الداخل على يد الفاشيست الإخوان وكلاء الاستعمار. ثبتت دائمًا طليعة الأمة فى حروب الخارج والداخل وأمام عينها هدف واحد لا يغيب عنها هو العودة بالنصر، وكان هناك هدف استثنائى آخر تحملته الطليعة خاص بهذه المرحلة وهو حماية ميلاد صورة الدولة الجديدة. قبل أيام رسخت الأمة المصرية شرعية قرارها التاريخى الفارق بين ظلام الفوضى والفاشيست ونور الدولة ومشروعها الحضارى المصرى ترسخت هذه الشرعية عندما احتشدت الجماهير بالملايين لتدلى بأصواتها فى الانتخابات الرئاسية 2018. المشهد الحاشد ورآى أبن خلدون صنع المشهد الحاشد فى الانتخابات الرئاسية الجماهير نفسها التى خرجت فى يونيو ويوم التفويض لتؤكد بخروجها أن هناك صورة جديدة من الدولة المصرية تشكلت وحانت لحظة انطلاقها وفق متطلبات العصر. يقول ابن خلدون «إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك فى الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع فى الآفاق والأقطار والأزمنة والدول». أعطانا ابن خلدون مبتكر علم الاجتماع وأول من شخّص حال الدولة وفق منهج علمى منضبط بهذه الكلمات تأكيدًا بأن صورة الدولة الجديدة ستتجسد وفق الزمن الذى وجدت فيه وأن صورة الدولة تحمل متطلبات صانعيها أو هذه الجماهير التى فتحت الباب لخروجها إلى النور وأعطتها شرعية الوجود وتنتظر منها لحظة الانطلاق. نتلمس ملامح الصورة كما يراها صانعوها الذين هم مِنا ونحن منهم، تبلور تيار عريض من داخل هذه الجماهير يدافع عن الهوية المصرية الأصيلة بوعى ناضج رافضًا بشدةالهويات الصحراوية التى فُرضت على المجتمع خلال العقود الأربعة الماضية. هذا تيار ليس بالجديد بل يمكن القول إن يونيو أعادته بعد تغييب ويحمل تيار الهوية المشروع الحضارى المصرى ويريد إيصال رسالته داخليّا وإقليميّا وعالميّا أيضًا. أفة الخلط والتلفيق سينهى صانعو صورة الدولة الجديدة آفة الخلط والتلفيق بين ماهو سياسى ودينى وهو أمر اتخذت فيه الأمة المصرية منذ خروجها الحاشد قرارًا جمعيّا تاريخيّا بإنهاء هذا التلفيق وهو ما يلزم تأكيده عمليّا عن طريق آليات عمل الدولة الجديدة كواقع نعيشه وليس أسطر فى أوراق نطالعها ثم ننساها. نبهت عواصف الفوضَى العاتية التى مرَّت بالأمة المجتمع لأهمية تطبيق القانون بمنتهى الردع والحسم، فهو الذراع الرئيسية للدولة من أجل تنظيم شئون الأمة، ويمكن ملاحظة تقبُّل المجتمع لروح القانون العائد بسعة صدر وترحاب بل المطالبة بمزيد من الصرامة فى التطبيق. لا غموض فىما هو قادم تحمل صورة الدولة الجديدة آليات عمل سياسى رشيد منضبط لا يقبل الهرج الذى سبق يناير ويونيو، فلا غموض فى ما هو قادم أو تدار البلاد من مكتب المرشد وعملائه وكلاء الاستعمار. تتعامل صورة الدولة الجديدة مع واقع مجتمعى مختلف يتعلق بقدرة المواطن على التعبير فى ظل سيطرة الشبكة المعلوماتية والسوشيال ميديا فلم تعد وسائل التعبير عن الرأى مقصورة على فئة محترفة تديرها كوظيفة من صحفيين وإعلاميين بل أصبح المواطن مالكًا لوسيلته الخاصة فى إبداء رأيه ويصنع أيضًا متابعيه ليشكل رأيًا عامًّا فى محيطه وهو ليس رأىًا عامًّا واحدًا بل ملايين الآراء. قد يتصور البعض أن هذا التطور البشرى فى صناعة المعلومات يفقد الدولة إحدى أدواتها فى إدارة المجتمع لكن الواقع العملى أثبت فى لحظة الخطر تتجمع ملايين الآراء فى حشد واحد رافضًا الفوضى. لحظة الخطر استثناء لا تعتبر لحظة الخطر قاعدة فى حياة الدولة بل هى استثناء، لذلك فهذا الحشد سرعان ما ينفض ويعود لتفرده ولا يمكن للدولة مناقشة ملايين الآراء، كل على حدة. تبدأ هنا آليات الدولة الجديدة فى التعامل مع التفرد الموجود بخَلق مناخ استيعابى وصنع مظلة فكرية تتعايش تحتها كل الآراء عدا التى أعلنت عداءها الكامل لوجود الدولة ودعت للعنف فيتدخل القانون. لا يوجد أفضل من المشروع الحضارى المصرى كمظلة، وأهم ما فيه أن القوى المؤثرة فى المجتمع من الشرائح العمرية الشابة تنتظره وتتقبله بشغف، ويجب تقديمه إليها بأنه مشروعها وليس مفروضًا عليها، يبدو للوهلة الأولى أن هذا الاستيعاب من خلال المشروع الحضارى يسهل التنظير له وصعب التطبيق، لكن الحقيقة هو مُيسر فى تطبيقه لكن المساحة المتاحة لا تتحمل شرح طبيعة المشروع وخطوات الاستيعاب. إعلام الدولة الجديدة عندما يقول ابن خلدون الانتقال من حال إلى حال فإن الحال الجديد يلزم لسانًا يُعبر عنه، وأول شروط لسان الحال الجديد أى الإعلام فى صورة الدولة الجديدة أن يكون هذا اللسان مدركًا لحدوث التغيير ومؤمنًا به، فلا يمكن أن تأتى بالقديم لينقل واقع الحال المتجدد فهنا سيحدث التناقض فى عقل المتلقى بين ما يراه على الأرض من تطور إلى الأمام وما يراه من رسالة قديمة أعيدت كتابتها أو بثها. استطاع المصريون فى الحشد الأول وراء ثورة يونيو رسم ملامح صورة دولتهم الجديدة واستطاعوا بحشدهم الثانى فى الانتخابات الرئاسية 2018 تثبيت هذه الصورة ثم ترسيخها، والآن حانت لحظة انطلاق الدولة الجديدة بمباركة الملايين لنشارك فى التطور البشرى بمشروعنا الحضارى المصرى الذى افتقده هذا العصر طويلا. •