ملخص ما نشر زمن ينتهى برحيل عبدالناصر، ويبدأ زمن التحولات. المكتب أصبح بلا طعم بعد رحيل «أمانى» مع زوجها إلى الخليج.. و«شلة التريانون» تقلصت بعد رحيل اثنين إلى الجبهة.. وتفاجأ بحرب أكتوبر التى أعادت الثقة إلى نفوسنا .. ثم يأتى عام 1977 بزيارة مفاجئة للأسعار وتتوالى بعدها أحداث الفتنة الطائفية، ومع نهاية العام تأتى الزيارة المفاجئة للسادات إلى إسرائيل. وتبدأ الشلة فى الانكماش ما بين مهاجر إلى أمريكا وما بين نزيل فى مصحة نفسية. أخذ ماجد نفسا من سيجارته وبدآ يتذكر: - كان معنا فى الكلية زميل اسمه زكى إبراهيم داود كان من أعز أصدقائى نذاكر معا، نأكل معا، نتزاور، تصوروا لم أعرف أنه يهودى إلا عندما أتى يبكى بعد التخرج، لأن عائلته قررت الهجرة إلى البرازيل. علق عماد: - اليهود فى منتهى الذكاء اختاروا أسماء مشتركة فى كل بلد يقيمون فيه.. داود حسنى - ليلى مراد - راقية إبراهيم ثم ملتفتا إلى يعقوب: - أنت أيضا اسمك الثلاثى موجود فى التوراة والإنجيل والقرآن. أطلق يعقوب زفرة حارة: - أيام زمان.. ليتها تعود بسرعة علق نزيه: - سوف تعود، السادات خطا الخطوة الجريئة. قاطعه سمير بحدة: - المشكلة ليست بهذه البساطة، تحلها زيارة للقدس أو مبادرة سلام أما حسين الذى بدا مشغولا بسقيان إيفا وأفخادها العارية، فقد خرج من صمته قائلا: - وقال الرب لإبراهيم: اخرج من أرضك وعشيرتك وأذهب إلى الأرض التى أريك إياها لتمتلكها. وبسرعة التقط سمير خيط الحديث: - وكان هذا أول استعمار استيطانى فى تاريخ البشرية تكهرب الجو فجأة، وانعقدت سحب الدخان الكثيفة فوق الرؤوس، وبان التجهم على الوجوه، أما نزيه فقد تقدم بجذعه إلى الأمام، قائلا فى هدوء: - حتى لو كنت لا تؤمن بالأديان، فهل هى مصادفة أن يكون الأنبياء الثلاثة من نسل إبراهيم، وتصبح القدس مقصدهم جميعا؟ أضاف يعقوب، موجها حديثه إلى سمير: - هناك أشياء تحدث فوق مستوى عقلنا البشرى، وتهيمن على أقدارنا، المهم أن نعيش فى سلام. تساءلت إيفا لكى تحرك الحديث إلى اتجاه آخر: - هل نفضل يا أستاذ سمير أن تكون الأماكن المسيحية فى أيد يهودية وليست إسلامية؟ أجابها بدون تردد: - أولا أنتم لا تعترفون بالمسيح، ثم لا تنسى أنه، لغاية الآن، مفاتيح كنيسة القيامة مازالت فى أيدى أسرة مسلمة. تراجع يعقوب بظهره إلى الوراء متسائلا: - متى تتوقعون أن يسود السلام الدائم بيننا؟ قال ماجد: - نحن مددنا أيدينا بالسلام، حتى مع بداية الثورة وكلما تقاربنا مع أمريكا من أجل حل عادل تجهضونه، مرة بتفجيرات إسكندرية، وأخرى بالغارة على غزة. حدقت إيفا بعينيها: - ولكن أنتم البادئون فى 67 بإغلاق خليج العقبة وحشد الجيش فى سيناء. وبسرعة أجاب عماد: - اعتقد أن عبدالناصر زهق من محاولات إيجاد حل، فدفع بالمنطقة إلى حافة الهاوية، لعل وعسى تتحرك أمريكا ودول العالم. أضاف سمير: - وهل نسيتم أن يوم 5 يونيو بالذات كان محددا للقاء جونسون بزكريا محيى الدين لتهدئة الأوضاع ثم جاءت الضربة المباغتة؟ نظرت إيفا إلى حسين: - وأنت ما رأيك؟ انحنى بقامته المديدة، ممسكا بيدها برقة متناهية مقبلا إياها، ناظرا إلى عينيها: - أنا إللى حبيت ولا طلتش. ضحكت وكانت ضحكتها ذات رنين خلاب واعتبرها نزيه خير ختام لهذه الجلسة العاصفة، فمال على أذن يعقوب هامسا ببضع كلمات فقام هو وإيفا، وانصرفوا فى معيته بعد أن صافحوا الجميع بحرارة، زفر ماجد وهو ينفث دخان سيجارته: - نقعد بقى براحتنا! - فاكر رمسيس، عندما كنا نذهب إليه فى شقته نسمع الموسيقى الكلاسيكية، ويشوح بيديه كأعظم مايسترو؟ - كانت أيام.. عندك أخبار عنه؟ يخرج ماجد علبة سجائره: - أحيانا يبعث لى بكروت معايدة فى المناسبات، خالية من أى أخبار يشعل عماد سيجارته، ويتساءل: - وهل عندك أخبار عن نزيه؟ ما أن توقفت السيارة عند الإشارة حتى استرسل فى الحديث: - يقال إنه يأتى إلى مصر دون أن يقابل أحدا من معارفه الأقدمين الهجوم الذى تعرض له كان فى منتهى الشراسة ولا مبرر له. يعلق عماد: - مشكلة نزيه أنه موهوب ومبدع حقيقى، ولكن عيبه أنه أدخل السياسة فى أعماله الأدبية. فوجئ عماد بالسيارة تتوقف أمام الأجزخانة التى عمل بها والده، شعر فجأة كأنه فى قلب دوامة تدور بسرعة فائقة، وتريه صورا ومشاهد متلاحقة وبلا أى ترتيب ينتابه دوار وشعور بالغثيان يبدو أن خلايا الذاكرة لم تحتمل كل هذا القدر الهائل من الشحنات العاطفية، فحدث هذا الاضطراب، يتحامل على نفسه ويدخل.. فارق شاسع بين ما كان يراه وما يشاهده الآن، كم تغير المدخل الذى كان ينافس أرقى المحلات الأوروبية وقد تحول إلى مخزن كئيب للأدوية وعدة مناضد يجلس عليها آنسات أو سيدات محجبات وفى الجانب الآخر رجال على وجوههم علامات التقوى والصلاة وكاسيت يذيع آيات من الذكر الحكيم وفوق رؤوسهم لافتة كتبت بالخط العريض: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» بينما سيدة غير محجبة تقوم بكل همة ونشاط بإعداد أكواب الشاى، بينما الكل فى حالة من الاسترخاء التام، كأنهم فى صلاة خاشعة، أو تأمل صامت، لا يأبهون بالداخلين أو الخارجين. يدخل عماد متحسرا على ما آلت إليه حال الأجزخانة، إلى مكتب المدير، حيث يسأله ماجد عن بعض الأدوية الناقصة، ويقدم إليه عماد، قائلا: - عماد راشد والده كان مديرا للصيدلية فى الخمسينيات والستينيات. ما أن يسمع الاسم حتى يهتف مرحبا: - هو أنت؟ أبحث عنك منذ سنوات. يلتفت إليه مندهشا، فيقول له: - عندما استلمت العمل أخذت أقلب فى الأدراج، فوجدت مظروفا يخص والدك. يفتح أحد الأدراج، ويسلمه مظروفا أصفر اللون: - اعذرنى إن كنت تجرأت وقرأت ما فيه، الحقيقة شىء ممتع. ها هو الوالد، بعد سنوات طويلة من رحيله يخرج من كنز معرفته جددا وعنقاء ينظر إلى ماجد ضاغطا بيده على كتفي: أصغرنا سنا. أسبقنا إلى الرحيل. حسين. الإنسان الحبوب. الفنان البوهيمى. المرهف المشاعر والأحاسيس. المحروم من طفولته والدفء العائلى. عاش حياة صاخبة مضطربة. قارئ نهم، ومثقف بالفطرة، ضحوك بشوش. لا يعول هما. لديه القدرة على استنباط تنويعات لا تخطر على بال من أى موقف. حاول أن يكون شاعرا. لا تخلو أشعاره من شطحات غرائبية، لا يتقيد بوزن أو قافية. ذاكرته تحفظ دواوين كاملة لفطاحل الشعراء. ولكن حسين الذى عرفناه فى الستينيات ليس بالقطع ما أصبح عليه بعد عودته من حرب 73. لم يستطع عقل الشاعر أن يستوعب قتل الإنسان لأخيه الإنسان. كان كشخص جالس على مقعد وثير فى أوبرا مكيفة، يستمع لكونسير موسيقى من أعذب الألحان، ثم يفاجأ بطلقات رصاص تنطلق من كل مكان. حكى لنا كيف كانوا أربعة وعشرين ضابطا وجنديا فى مستشفى ميدانى تعرض لقصف مركز قبل وقف إطلاق النار مباشرة، لم ينج منهم إلا أربعة. ثم تبدأ رحلة الهروب من جحيم النيران، فى صحراء شاسعة، ومتاهات لا حدود لها، وعربات من جيشنا تمرق من حين لآخر بسرعة جنونية، لا تريد أن تتوقف لأحد، الكل يريد أن ينجو بنفسه، وتخيل نفسك فى هذا الفضاء الشاسع، بلا نقطة ماء، وتحت سماء لا ترحم. ذلك التناقض الحاد فى شخصيته، بين الاندفاع والبوهيمية والنزق، أحيانا، وبين الرقة والشاعرية والحنان الفياض. هذه الازدواجية ظلت مستترة إلى أن فجرتها أهوال الحرب، فصار حسين شخصين فى شخص واحد، ولا ننسى ذات يوم ونحن جالسون فى استرخاء بالتريانون، مرقت قطة من الشارع، ولم تجد غير قدمى حسين تتمسح فيهما، تلعق حذاءه بلسانها، تنظر إليه بعيون مستجدية، وتموء بصوت خفيض، كأنها تستجدى، كان منظرا مثيرا للشفقة، وفجأة وجدنا حسين يركلها بحذائه بعنف وقسوة لا مبرر لهما، انعكسا على تعبيرات وجهه، فما كان من القطة المسكينة إلا أن تفر مذعورة، وسط دهشتنا جميعا من تصرفه المستهجن، فما كان منه إلا أن فارقنا دون تحية أو كلمة وداع. بعد عودته من الجبهة، أقام عند أخيه الطبيب فى القاهرة، الذى لاحظ ما طرأ على شخصيته، فعمل على إلحاقه بالعمل كصيدلى فى مستشفى للأمراض النفسية، حيث يبقى طول الوقت تحت إشراف طبى، وبالفعل تحسنت حالته وأصبحنا نراه من حين لآخر فى زيارات خاطفة للإسكندرية، نسترجع ذكرياتنا معه، ينشدنا بعضا من قصائده التى بدأت تأخذ منحى جديدا، ولا تخرج إلا من عاشق متيم. رأيتك عند النافذة.. تضعين خدك على الظل المواجه. تنتظرين لغة الشمس فى شتائنا المعتم رأيتك عند النافذة.. وما عرفتك من أصوات العصافير ونواح اللبلاب.. وهم يبددون صمت الغرفة أخيرا، عرف حسين الحب الحقيقى، وخرج من كهف الغسالات والخادمات إلى النور الذى بدد ظلمات حياته العاطفية، تعرف عليها من خلال إقامته فى القاهرة، تمت إليه بصلة قرابة من ناحية الأم. العائلة تعيش بصفة دائمة فى السعودية، حيث الأب من كبار رجال الأعمال. الأم وابنتها فى إجازة صيف. ويبدأ التعارف ويلوح الأمل فى زواج قريب. لقد كان فى أشد الحاجة إلى شجرة يستظل تحتها، وعين ماء حلو يرتوى منها، ويد حانية تربت على مشاعره المرهفة، بعد معاناة الحرب وأهوالها، الأم تراقب وتبارك، والعاشقان يرتبان لما بعد الزواج. وتأتى الضربة القاضية لأحلامهما معا، عندما يحضر الأب فى زيارة خاطفة للقاهرة، ويعلم بما جرى ويخطط له من وراء ظهره، فيثور ثورة عارمة، فهو أعطى وعدا لشريكه فى العمل، ولا يستطيع أن يحنث بوعده، وتسافر البنت مجبرة، ويصاب حسين بصدمة عصبية أشد وأنكى من سابقتها. ولم يكن من مفر إلا دخوله المصحة لفترة طالت لعدة سنوات. وبعدما استقرت حالته، خرج من المصحة ، وأحيل إلى التقاعد بسبب مرضه المزمن، أخذ يجوب مصر، من سواحلها الشمالية إلى جنوب الوادى، يقيم فى فنادق متواضعة، نعرف أخباره من حين لآخر، حينما يبعث لنا بكروت أو خطابات قصيرة من آخر مكان مقيم فيه. صيف العام 2003 بعث لى برسالة مكتوبة على ورقة خاصة بالفندق، وبه العنوان ورقم التليفون. لم يحمل لى خطابه شيئا عن أحواله، ولكن ضمنها آخر قصائده: هذا أنت.. فاجلس مكانى.. وارتدى العمامة وتقلد سيفك.. وتمنطق بالحواديت والأشعار وأنا.. ربما آتيكم فى القطار القادم فإذا تأخرتُ.. أو ضللتُ بين الناس فعيونك تكفيهم بالحديث عنى أخيرا، نجحت فى الاتصال به، أدعوه لقضاء الصيف بالإسكندرية، وأن الشلة كلها فى انتظاره. جاءنى صوته عبر التليفون يحمل رنة حزن وأسي: - كان ممكن آجى الصيف اللى فات، أو اللى قبله.. لكن الصيف الجاى بعيد.. بعيد قوى. ولم أفهم مغزى كلامه إلا عندما جاءنا خبر رحيله. أخيرا، وبعد طول تردد ندخل عالم الكمبيوتر والإنترنت. كنا نرى صغار السن يتعاملون معه فى سهولة ويسر، فنخشى الاقتراب، خوفا من الإحباط. ثم بدأت أتعلم خطوة خطوة، وكلما فتح أمامى باب، تشجعت أكثر وتوغلت. واستطعت أن أكون مكتبة تضم روائع الموسيقى العالمية ومختارات من أفضل الأفلام الأجنبية. ومن خلال الإنترنت عرفت العنوان الإلكترونى لمن هاجروا إلى أوروبا وأمريكا وكان أول من اتصل به رمسيس، أسأله عن أحواله، فى ثوان تصل رسالتى، وبعد ساعات كان رده: عزيزى عماد لا أعرف لماذا تذكرت والدك عندما كان يعمل فى أجزاخانة سعد زغلول، وكنت أذهب لآخذ دواء الربو لأخى، وأدفع له 150 قرشا، ثم طاف بذهنى أيامه الأخيرة عندما كنتم فى شارع نسيت اسمه فى محرم بك. ما الذى جاء بهذه الذكريات، قبل أيام من وصول رسالتك. غريب العقل البشرى، شىء مذهل، ويجعلك دائما تفكر فى القدرة الإلهية العجيبة. أما عن أحوالى فهى كالتالي: - زوجتى تعمل كل الوقت فى واحدة من أكبر المؤسسات التجارية فى العالم، لتشغل نفسها، وتوفر جزءا من نفقات التأمين الصحى، خصوصا لأمراض الأسنان، وهى كما تعلم باهظة التكاليف. - ابنتى الكبيرة تخرجت فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهى تعد للدكتوراة فى القانون الدولى، وهذا يستلزم ثلاث سنوات أخرى من الدراسة، وهى تعمل لبعض الوقت لتساعد نفسها. ابنتى الصغيرة تدرس الكمبيوتر فى جامعة بوسطن، ولذلك فهى تقيم فى بيت الطالبات بعيدا عنا، متفوقة فى دراستها، والأسبوع الماضى حضرت معها حفل تكريم للمتفوقات، حيث سلمها العميد شهادة تفوق وجائزة خاصة، وهى أيضا تعمل بعض الوقت. أما عن أخيك فى الرب، فأنا مستمتع بسنوات التقاعد، أشغل وقتى فى أشياء مفيدة طول الوقت، إما فى الحديقة الخلفية لمنزلى أو فى القراءة، بدأت أستعيد مكتبتى الموسيقية، خصوصا أغانى عبدالوهاب التى أعشقها، أشارك فى بعض الأعمال الخيرية لمساعدة كبار السن، والذين بلا مأوى. تفتكر لو كنا فى مصر كان سيبقى حالنا أفضل؟! وأتذكر مقولة لبرنارد شو: الوطن هو المكان الذى يهيئ الكرامة ويضمن حقوق الإنسان. وفيما عدا ذلك فأرض الله واسعة. •• محطة ترام الإبراهيمية وطابور من المنتظرين لعربات الترام التى تسير بمزاج السائق وبلا أى انضباط، والكل مستسلم فى بلادة. هاهو سمير، بعد طول غياب، قادما متوكئا على عصاه، ولكن ضحكته الطفولية الرائعة لم تفارق وجهه. يقول فى أسي: - عجّزنا يا عماد. نأخذ بعضنا بالأحضان. أسأله عن أحواله، وهل مازال يناضل. يرد بابتسامة فيها قليل من الأمل، وكثير من اليأس: - نحن نحارب طواحين الهواء. أضع يدى على كتفه: - كيف تقضى وقتك بعد المعاش؟ - أشارك فى بعض الندوات. أكتب مقالات فى صحف المعارضة. وشىء أحسن من لا شىء. أسأله: - وهل مازلت عند موقفك السياسى؟ يرد بابتسامة ساخرة: - المصيبة أننا أخذنا من كل نظام أسوأ ما فيه. من الاشتراكية ديكتاتوريتها ودولتها البوليسية، ومن الرأسمالية الغنى الفاحش للأقلية، وتركنا الأغلبية للعشوائيات، مصدرا للبطالة والإدمان والإرهاب. وهو ينظر إلى سرب قادم من المنقبات: - وأخذنا من الدين مظاهره الخارجية، وتشددنا فيها، وتركنا الجوهر. لفت نظرنا مجموعة من الملصقات كتب عليها: العلاج بالسحر والمس - علاج السحر، تعطيل الزواج - علاج سحر المرض والمعالج، فضيلة الشيخ.. ضحك ساخرا: - شايف الهنا اللى احنا فيه، هكذا بوصفة واحدة نحارب البطالة والعنوسة والفقر والمرض! •• مكتب المجلة. موطن الذكريات. وملتقى الأصدقاء. يتذكر الأستاذ محسن الذى عاد من لندن أوائل الثمانينيات على أمل أن يكون الغد أفضل، وبكل طاقته وحيويته وعشقه للعمل والحياة، وضع كل إمكانياته لإخراج المجلة من عثرتها، بعد طول ركود وكساد، قضى نحبه إثر أزمة قلبية مفاجئة . وهو يستعد لإصدار عدد تذكارى بمناسبة العيد الذهبى للمجلة. صدر العدد وعلى غلافه بورتريه بريشة صديق عمره الفنان بدر شامل، ذيلها بكلمات صاغها رفيق صبري: كل عام وأنتم بخير أيها الأحياء، ومرحبا بكل الأفكار الجديدة. كأنها دعوة متجددة للتفاؤل، رغم كل العقبات. شارع سعد زغلول، لؤلؤة شوارع الإسكندرية، الذى كان. أكثر من خمسين عاما مضت منذ مجيئنا، مدينتنا الكوزموبوليتانية فقدت بريقها، وانمحت ملامحها الأوروبية، ما الذى تغير؟ المدينة أم البشر؟ تغير البشر، فتغيرت المدينة. مدينتنا الساحلية صارت بدوية، صحراوية المغنى والمزاج، وبعد أن كنت ترى بنات بحرى بالملاية اللف والمنديل أبوأوية، وهن يتمخطرن على شواطئ الأنفوشى، وبنات الرمل وسيداته يرتدين أحدث خطوط الموضة، صار أغلبهن يرتدين زيا موحدا، وبعد أن كنت تسمع تحية الصباح والمساء بالعربية والإيطالية والجريجية والفرنسية، توحدت التحية صباحا وظهرا ومساء. يسمع نداء باسمه يتردد خلف ظهره. صوت أنثوى يبدو مألوفا لديه، وإن تغيرت نبراته: - أستاذ عماد؟ يلتفت فتواجهه امرأة بدينة، متسربلة برداء فضفاض يغطى جسمها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، تضع نظارة سميكة على عينيها: - مش فاكرنى؟ وتنفرج ابتسامتها عن شفاه جافة وأسنان متهالكة، ويكاد لا يصدق نفسه، وهو بين الشك واليقين، ويهتف بنداء كالرثاء: - أمانى! تنظر إليه ببقايا إشعاع خافت من عينيها: - هل تغيرت إلى هذه الدرجة؟ لم يرد، إكراما لخاطرها، وذكرى سنوات من عمره راحت واندثرت. - سكر وضغط وشرايين القلب. تنهدت فى أسى، ثم أردفت: - ثلاثون سنة فى الخليج، زوجى توفى، والأولاد كبروا وتزوجوا، وأخيرا رجعت. يعاود النظر، محاولا استرجاع صورتها الأولى التى انطبعت فى ذاكرته، لا يمكن أن تكون الواقفة أمامه هى أمانى، أين راحت النظرة الجريئة من العيون اللامعة المشعة التى كانت تزلزل كيانه؟! وهل هذه الشفاه الجافة هى التى ثمل برحيقها؟! كلها ضاعت.. ينظر إليها مودعا، ما بين الشك واليقين.. خشى من مصافحتها حتى لا تترك يده معلقة فى الهواء. تنظر إليه بعيون متسائلة، وقد رأته واقفا هكذا، كالمذهول، لا يجد شيئا يقوله، مستفسرة عن وقوفه أمامها هكذا صامتا، قائلة بنبرة خافتة أرجعته إلى الماضي: - عايز حاجة؟ أنا أريد؟ أنا لا أريد شيئا. الزمن هو الذى يفعل ما يريد. •