ملخص ما نشر يبدأ «عماد» فى التحلل من قيود الماضى. يترك شقته فى الحى العتيق ويسكن على البحر ويبدأ مشواره الصحفى بنجاح. ثم تأتى وفاة عبدالناصر كضربة موجعة لأحلام جيل الستينيات..تنتهى علاقته بأمانى التى تشعر بأنها لن تثمر شيئا وترتبط بالزواج من قريب لها يعمل فى الخليج.. يتعرف «عماد» على «سالى» الصحفية بالمجلة، ويتفقان على عمل موضوعات مشتركة فى الإسكندرية ويفكر فى الارتباط بها. الربيع فى عز يناير هذه هى الإسكندرية من فرط عشقها للربيع وحيويته، قسمته على مدار الفصول الأربعة، الجو صحو، والشمس مشرقة، والهواء منعش، والبحر ناعم رائق، وشوشات الموج الهادئ ترسل أنغامها العذبة، تنادى عشاقها، ولم يبخل عليه الجو هذا الصباح بأجمل مفاجأة لم يكن يتوقعها، فها هى سالى، دون موعد سابق، تأتى إلى مكتب المجلة، تدخل بغتة إلى حجرته، يرفع بصره عن أوراقه، فلا يستطيع أن يخفى فرحته ودهشته، وبتلقائية، كأنها تعرفه من زمن، تلملم أوراقه بسرعة، قائلة فى حسم: لم آت من القاهرة لأجلس فى مكاتب، أنا هنا فى مهمة صحفية. حاول الاعتذار عن مصاحبتها، إلا أنها أخبرته بأنها جاءت بتكليف رسمى من الأستاذ محسن لعمل تحقيق عن أدباء الإسكندرية. ونزلا معا ويفاجأ مرة أخرى بعربتها الصغيرة يجلس بجوارها يفكر هل هى خطة مدبرة من الأستاذ محسن ليزداد تقاربهما. يقول لها بصدق: مفاجأة لم أكن أحلم بها. تنظر إليه بعينين متوهجتين: مع إنى لما قابلتك أول مرة تمنيت أن أخنقك. ندت منه شهقة مستنكرة، فأضافت مبتسمة: لقد تجاهلتنى كأنى غير موجودة. يفاجأ بصراحتها فيقول: وأنت أيضا تجاهلت خطابات إعجابى بمقالاتك. داست على الفرامل تلقائيا، فتوقفت العربة، ناظرة إليه بتحفز واندهاش: هو أنت؟ وأنا حسيت إنى مهمة ولى معجبين. استأنفت السير، ثم أردفت: ع.ر. من إسكندرية أما أنا غبية صحيح. تتكلم ببساطة، تقلب فى بعض الشرائط، ثم تضع شريطا لفيروز، يبدو أنها اختارته خصيصا، شايف البحر، وعندما وصلنا إلى شاطئ ميامى، ركنت عربتها على الكورنيش، تنظر بانبهار طفلة ترى البحر لأول مرة: يا سلام، شايف البحر، شيء يجنن، يهوس، إيه رأيك ناخد غطس؟ أفق أزرق رائق، قوارب صغيرة بيضاء طيور نورس تحلق فى الفضاء، بحر ساكن يعكس زرقة سماوية، شمس ترسل شذرات ذهبية تتلألأ فى المياه، رمال صفراء ناعمة تداعبها الأمواج، جسد ممشوق رائع يختال ويقف منتصبا فى كبرياء، شامخا فى عنفوان، فاردة ذراعيها محتضنة الكون بنظراتها، سبقته إلى الشاطئ، وبسرعة فتحت الكابينة، وأخرجت بعض الكراسى وترابيزة: أعمل فنجانين قهوة، ثم ننزل البحر. ينظر إليها محتجا: حد ينزل البحر فى يناير؟ ترد وهى تخرج المايوه من حقيبتها: وهذه عظمتها، تصور إحنا الاتنين فقط فى هذا البحر الشاسع. لست مغامرا ولن أكون، حكمة قالها أبى عندما انتقلنا من الصعيد إلى الإسكندرية، كنا فى عز الصيف، هنا أيضا على شاطئ ميامى، البحر أراه لأول مرة، بعدما كنت أحلم بمجرد رؤيته، رقرقة أمواجه الهادئة الناعمة، كأنها تغريك بالولوج فى أحضانها الناعمة شاعرا بحرارة جسمى تريد أن تنطفئ بملامسة مياه البحر، والدى تحت الشمسية، مرتديا بذلة كاملة، والطربوش الأحمر يغطى رأسه الأصلع، وجهه الصارم وشاربه الكث، بجانبه والدتى بملابس صيفية محتشمة، وأنا أرتدى المايوه، جالسا عند أقدامهما، أبنى قصورا من الرمال أشاهد الأولاد، الأصغر والأكبر، وهم يبلبطون فى المياه يمرحون ويغطسون، البعض يلوح بكلتا يديه عندما يصلون إلى البراميل، أو الصخرة البعيدة، أما أنا، فما إن خطوت بقدمى العاريتين ناحية البحر حتى انطلق أبى بحكمته الخالدة: راقب البحر، فقط. وكما أوصانى أبى هكذا أفعل، سأكتفى بالجلوس على الشاطئ، ومن يومها وأنامجرد مراقب ومشاهد من بعيد، كم مرة أردت أن أنعتق من هذا الإسار، ولم أستطع، حاولت وفشلت. أراها وقد أقبلت مرتدية «مايوه بكيني»، قوامها الممشوق يغرينى، صدرها الناهد يدعونى، حيويتها كأمواج البحر تنادينى، كالصخرة البعيدة أريد أن أصل إليها وأعتليها، حيوية مستمدة من بزوغ الشمس وحرارتها، من عذوبة الهواء الناعم، فردت ذراعيها وأخذت نفسا عميقا، وكأنها تريد أن تتحد مع كل ذرة من هذه الطبيعة الساحرة، تدعونى أن أرتدى مايوه أخيها وأنزل معها. تجربة لن تنساها. أنظر إليها كتلميذ بليد أمام أستاذه: اعذرينى يا سالى، أنا عارف نفسى، إذا غامرت ونزلت سأمرض على الأقل أسبوعين. نظرت إلى باستخفاف: تعرف، أنت عايز لك صورة وأنت بالبذلة والكرافتة وقاعد تحت الشمسية. شعرت بغصة من تعليقها الساخر، تركتنى وغطست، مرة واحدة فى البحر، تغوص إلى الأعماق ثم تطفو فجأة، تفرد ذراعيها وتدعونى، وأنا فى حيرة من أمري. بعد أن خرجت من البحر، دخلت الكابينة لتغير ملابسها، ثم عادت وهى تصفف شعرها وتواجهنى بنظراتها: أنت هائل من كله، لكن يعوزك شيء واحد. نظرت إليها متسائلا، وأنا أريد لهذا الموقف أن ينتهى بسرعة، أجابت وهى تفرد ذراعيها: شيء من الجنون أو شيء من العذاب. هكذا غمغمت فى سرى، وكانت الأمواج تتكسر على صخرة ميامي. ••• البطيخ ظهر، العنب طلع، ورائحة المانجو بدأت تفوح، ونسائم البحر اللطيفة هبت على المصطافين، وتجمعت الشماسى بألوانها الزاهية على الشواطئ، وبدأت الحياة تتخذ شكلا جديدا ومذاقا مختلفا عما ألفه من قبل كل شيء ينساب متباعدا، لا يتماثل مرة أخرى، وكان عليه أن يعانق أحلامه الخاصة، وأعطته الكتابة نوعا آخر من النماء، وكانت المشكلة هى كيفية التغلب على ميراث الماضى وخلق تآلف بين نسيج المادة القديمة وخيوط الثوب الجديد، ولذلك عندما اتصل به الفنان بدر يخبره بتواجده مع الأستاذ محسن ورفيق يدعونه لمقابلتهم فى شقته، شعر بالزهو لأنه أصبح واحدا منهم، خصوصا أنه نشر عدة قصص فى المجلة، وضعته على بداية الطريق. وذهب إلى هناك كأنه على موعد غرامى، هل سيجد سالى معهم هذه المرة، يخايله قوامها السمهرى، وعفوية اللقاءات التى تمت بينهما، هى التى دعته إلى كابينتها فى ميامى، ولم تجد حرجا فى ارتداء مايوه بكينى والنزول إلى البحر فى عز يناير، هى بالقطع ليست أمانى تبحث عن لحظة حب، وهى أيضا ليست بالأنثى السهلة، يذكر نظرتها الحادة الصارمة عندما وضع يده خلف رأسها وهى تقود عربتها. عندما وصل استقبله الثلاثة بترحاب شديد، شقة كأنها البرج فى الدور الأخير من عمارة تطل مباشرة على سان استيفانو، صالة بطول الشقة حولها بدر إلى أتيليه، لوحات معلقة ولوحات أخرى مركونة على الحائط، بورتريهات لوجوه مختلفة، بنت البلد بعينيها الواسعتين وشقاوة نظراتها وشفاها الدسمة، الموظف المطحون بوجهه المكدود ونظارته السميكة، العامل الممصوص، ابن البلد ببشاشته وابتسامته الودودة.. وجوه تكاد تخرج من قماش اللوحة وتتجسد أمامك وتغويك أن تمد يدك وتلمسها. وقف معهم فى الشرفة، فلم يسبق له أن شاهد البحر من هذا العلو الشاهق، اتساع البحر وعظمته، تداخل أطياف اللون الأزرق فى دائرة كونية هائلة تضم البحر والسماء وزوارق الصيد فى مشهد بديع رائع، القارب الأبيض والمجدافان مفرودان على آخرهما، زوايا القارب تتماشى مع الحركة الدائرية المنتظمة للموجات التى تتلألأ على سطح المياه، ومن فوق طيور النورس فاردة أجنحتها يضوى بياض ريشها تحت أشعة الشمس بينما حطت مجموعة منها فوق صخرة فى عرض البحر فأحالتها إلى شبه جزيرة ناصعة البياض وقف بجانبه الفنان بدر: ذكرنى انبهارك بالحبر بأول مرة جئت فيها من الصعيد توجهت إلى منزل خالى فى محرم بك، تصورت أننى ما دمت فى إسكندرية سأرى البحر من أى نافذة. طافت عيناه بالمنظر الرائع وضحك. ولكن خاب ظنى، ولم أنم ليلتها وفى الصباح الباكر كان خالى يمسكنى من يدى وعندما وصلت إلى أعلى مكان فى شارع صفية، انكشف أمامى أجمل منظر رأيته فى حياتي. قال له عماد: نفس القصة تكررت معي. نظر إليه بدر: هكذا شعور الفنانين دائما ما يتشابه. أخذ عماد يجوب الشقة الواسعة لفت نظره لوحة مغطاة بقطعة قماش، عندما رفعها اتجهت إليه عيون الأساتذة، هتف فى دهشة: ياه.. بورتريه لسالي. ابتسموا جميعا أما هو فأخذ يتأمل اللوحة بتركيز شديد، ينظر إلى عينيها فيواجه بنظرة آمرة، ليس فى شفتيها ولو ظل ابتسامة حانية، حتى أصابع يدها مشدودة متوترة، يعاود النظر مرة من قريب ومرة على بعد وهو ينفث دخان سيجارته، لقد استطاع بدر بريشته اختراق ملامح الجسد الخارجية، ويغوص فى أعماق نفسيتها وطباعها، وعندما نزع الغطاء عن اللوحة انكشف الوجه الحقيقى، كأنه ثقب لرؤية ما بداخلها، وما كان يخشاه من طباعها التى كانت تحاول إخفاءها قد تجسد فى اللوحة، حب التسلط والعصبية الزائدة، نظر إليه بدر مستغربا من وقوفه هذا الوقت كله أمام لوحته فتساءل: إيه ما رأيك؟ ولدهشته، اقترب منه عماد وقبله فى جبينه، ولم يدر أحد من الجالسين ما وراء هذه القبلة، ثم وقف عماد ينظر إلى اللوحة التى كان بدر يضع لمساتها الأخيرة، محسن فواز يقف شامخا بقامته الطويلة، نصفه الأيمن تظلله شجرة وارفة الظلال، يتدلى من فروعها ثمار مختلفة ألوانها، بينما نصفه الأيسر تلفحه شمس حارقة فى خلفية صفراء متوهجة، قال له عماد، بعد لحظات من التأمل الصامت: تريد أن تقول أن الأستاذ محسن يتنازعه جمال الفن ولهيب السياسة. وهنا صاح بدر فى انفعال حقيقي: برافو عليك، أنا أهنئك لأنك فسرت اللوحة كما قصدت من رسمها. ثم بعد فترة صمت منتهزا غياب صاحبة اللوحة: مشكلة عم محسن أنه أراد أن يكون التزامه السياسى قبل إنتاجه الفنى، ولكن بعد خروجه من المعتقل، أصبح مرنا حريصا ألا يثير أزمة، عبارته المفضلة: ليست هناك مشكلة. وأخيرا جاء الأستاذ محسن، حاملا صينية عليها أكواب الشاى، وببساطة آسرة قدمها لهم، ثم ابتسم لعماد ناظرًا إليه بأبوة حانية: وأنت، ما هى مشاريعك الجديدة؟ أخيرا، واتته الفرصة لكى يعرض عليه مشروع الرواية التى كتبها والده وأوصاه بنشرها: - عثرت فى مكتبة والدى على مخطوط رواية عن «أوزوريس» فهل هناك فرصة لنشرها فى المجلة؟ - من ليس له ماضٍ ليس أمامه مستقبل أيضا. قالها محسن وهو يعتدل فى جلسته، مبتسما تلك الابتسامة التى تدل على أنه يقول حكمة لابد للكل أن ينصت لها ويتمعن فى مغزاها، ثم بعد فترة صمت غابت فيها عيناه فى زرقة البحر الصافية: - ولكن بشرط ألا يكون المستقبل على حساب الماضي. حدق فيه عماد، راغبا فى مزيد من التوضيح: - ولكن ما رأيك لو أنك كتبت عن تجربتك الشخصية فى العثور على المخطوط ثم محاولة نشره، يعنى رواية داخل الرواية. شعر من كلماته أنه لابد للكاتب أن يكون ذاته، وأن التجربة الذاتية هى التى تميز كاتبا عن آخر، وكأنه يرى النقيضين ماثلين أمام عينيه، والده الذى كان مثالا للإنسان العادى، القانع بحياته، العائش فى الماضى، ومحسن فواز الذى تضطرم أعماقه بشعلة الفن المقدسة، المنطلق دوما نحو المستقبل، مستشرفا آفاق الغد. - الكتابة الجيدة صدمة، خروج على المألوف، تمرد على الواقع، رغبة فى التغيير وسباحة ضد التيار. نظر إليه بانبهار، يريد أن يختزن كل كلمة من كلماته: - اترك الماضى، واطرح ما لديك من جديد. حرك ما هو ساكن، ولا تنتظر شيئا من كهنة المعابد القديمة. وكانت عيناه الحادتان من وراء نظارته تستجليان الطبيعة والبحر والأفق البعيد. وعندما عاد إلى منزله، كان قد اتخذ قرارين مهمين: لن أهملك يا والدى، ولن أهمل روايتك، ولن أتركها حبيسة الأدراج، ولكنى سأجعلها درة كامنة فى نسيج روايتى الجديدة، أما عن سالى، فقد حسمت ريشة بدر ترددى، فلنكن زملاء وأصدقاء فقط. زمن ينتهى، ويأتى زمن التحولات، توضع الصور القديمة فى ألبوم الذكريات، والأغانى العذبة خبئت فى صندوق مغلق، المكتب أصبح بلا طعم منذ غادرته أمانى، وشلة التريانون تقلصت بعد رحيل رمسيس وحسين إلى الجبهة. وتتوالى الأيام والشهور فى تكرار ممل، إلى أن نفاجأ جميعا بيوم السادس من أكتوبر، ويتحول التريانون فى الأيام التالية إلى شبه غرفة عمليات، والزبائن إلى جنرالات حرب تفرد الجرائد على المناضد، وتدور المناقشات وتحتدم الخلافات، وكل يدلى بدلوه فى سير العمليات، يقول ماجد: - الشيء الغريب أنه قبل الحرب ب 48 ساعة، أعلنت حالة الطوارئ القصوى فى المستشفى، وأبلغونا بضرورة إخلائه تماما من المرضى، وإلغاء إجازات الأطباء وكل العاملين، ومع ذلك لم يتبادر إلى أذهاننا أنها الحرب، وقلنا إنها حركة «قرعة»، لأنها تكررت من قبل ولم يحدث شيء. يعلق نزيه: - السادات أثبت أنه فلاح كهين، تمسكن حتى تمكن، خطط للحرب بمهارة شديدة. أما سمير، فقد عوج رأسه قائلا فى ثقة: - لا تنسوا أن خطة الحرب وضعت أيام عبدالناصر. وهنا أضاف عماد: - إذا كان عبدالناصر مسئولا عن الهزيمة، فهو أيضا مشارك بالنصر بنسبة 50% لأن إعادة بناء الجيش بدأت معه. يسرح ماجد بعيدا: - نفسى أطمئن على حسين ورمسيس. ويحل الصمت فجأة، ففى غمرة الأحداث المتعاقبة نسينا أهم شخصين فى شلتنا، فنحن نجلس فى التريانون نثرثر، وهم فى أتون المعركة. وتمضى الأيام والأسابيع، وتحدث الثغرة، ثم قرار وقف القتال، وتبدأ المفاوضات، ويأتينا أول خطاب من رمسيس: الجبهة فى 25/12/1973 البرد هنا على كيفك، متغطى بأربع بطاطين، وتحتى أربع أخرى، ورغم ذلك أنتفض طول الليل، لغاية لما الشمس تطلع، هل تعرف ماذا نعمل هذه الأيام؟! شيء عجيب للغاية، نقرأ الإنجيل والتوراة، ونعمل مناقشات مع الزملاء، مسيحيين ومسلمين، ونقزقز لب، ونتفرج على التليفزيون، ونسمع «صوت أمريكا». انتهيت من قراءة رواية إنجليزية لطيفة، وسوف أبدأ فى رواية «الأب الروحي» الذى مثله مارلون براندو، الأحوال عموما هادئة، ونترقب أخبار السياسة ومؤتمر جنيف. يعلق عماد ضاحكا: - فايق قوى رمسيس، عمال يقرا روايات ويقزقز لب. يبتسم ماجد: - ألم أقل لكم، أعصابه جامدة ولا يهتز بسهولة. أما سمير، فيتساءل: - ألم يلفت نظركم حكاية قراءة الإنجيل والتوراة ومناقشات مع زملائه. يرد ماجد مستنكرا: - أنت كل حاجة تفسرها بشك وريبة. يقول سمير بثقة: - أولا، هذه المناقشات لا يمكن أن تتم إلا بتوجيه من الشئون المعنوية. يتدخل نزيه فى المناقشة: - وماذا تريد أن تصل إليه؟ - أعتقد أنها تمهيد لعقد صلح بين مصر وإسرائيل. يرد نزيه بسرعة: - وهل مطلوب منا أن نحارب طول العمر؟ وهل نظل نستنزف أنفسنا فى حروب لا طائل لها؟ الخطوة التالية سلام شامل. يقول سمير وقد أشاح بوجهه: - المهم يكون سلام عربى وليس شالوم صهيوني! •• إلى أن فوجئنا ذات صباح، ونحن جالسون فى استرخاء، بأصوات غير عادية عند مدخل التريانون، ترحيب وتهليل، وصوت عم عبده وهو يتقدم متأبطا ذراع رمسيس ببذلته العسكرية، ويحيى الجرسونات كأحد أبطال حرب أكتوبر، ويعانقهم بحرارة، ونقف جميعا فى استقباله، نعانقه ونقرص خدوده، كما كان يفعل معنا. نسأله عن تجربة الحرب فلا يشفى غليلنا بشيء ذى بال. نسأله عن حسين، يخبرنا أنه يعالج من صدمة عصبية، ومقيم عند أخيه بالقاهرة. •• ويأتى العام 1977 مشحونا بأحداث مباغتة متعاقبة فى سيل منهمر بطريقة عجائبية، لا المصادفة تستطيع أن تجمعها، ولا تخطيط بشرى قادر أن يجعلها تتوالى وكأنها إيقاعات صاخبة فى «كريشندو» متصاعد لمزيد من الاحتقان. فى بداية العام، يعقد «البابا شنودة» مؤتمرا بالإسكندرية يدعو فيه إلى تحقيق المساواة بين المسلمين والمسيحيين، واستبعاد الطائفية فى تولى وظائف الدولة على كل المستويات، والعدول عن التفكير فى تطبيق قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، والتحذير من الاتجاهات الدينية المتطرفة. ثم جاءت الزيادة المفاجئة فى أسعار السلع الأساسية كضربة مباغتة لكل أحلام الرخاء الموعودة. زلزلت الأرض بغتة، وعمت المظاهرات الشعبية، من الإسكندرية إلى أسوان، وتتراجع الحكومة عن قراراتها، ويهاجم السادات الأفندية من الصحفيين الأراذل، الذين وصفوا المظاهرات بأنها انتفاضة شعبية، وهى فى نظره انتفاضة حرامية، وفى منتصف العام يبدأ الاحتقان الطائفى، بين الشيخ عبدالحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الذى صرح بأن التأخير فى تطبيق الشريعة الإسلامية مراعاة لمشاعر غير المسلمين لا يمكن قبوله. ويشارك الشيخ الشهير بعظاته الدينية، ساخرا فيها بلا مبرر من بعض المعتقدات المسيحية، ويسهم عثمان أحمد عثمان بأمواله وتوجيهاته، مع محمد عثمان إسماعيل، محافظ أسيوط، فى تقوية الجماعات الإسلامية، وتشجيع الطالبات على ارتداء الزى الإسلامى، وندخل فى دوامة من التوجس والخلافات بين عنصرى الأمة، وقبل أن ينتهى العام الغريب، تكون الزيارة العجائبية للسادات إلى إسرائيل. •• وتبدأ شلتنا فى الانكماش، يأتينا رمسيس متهلل الوجه، يرينا جواز سفره وبه تأشيرة دخول إلى أمريكا للهجرة، يرشف من فنجان قهوته ويتساءل: - هى مصر رايحة لفين؟ ويلتفت عماد ناحية تمثال سعد زغلول، قائلا فى حسرة: - الفتنة كانت نائمة.. لعن الله من أيقظها. يأخذ ماجد نفسا عميقا كأنه التنهيدة: - اللعب بالدين شيء فى منتهى الخطورة، وسيؤدى بالبلد إلى كوارث. أما رمسيس، فيحتضن جواز سفره معلقا: - ألم أقل لكم من قبل؟.. مالناش قعاد فى البلد دي؟! يحتد سمير ويعلو صوته: - وهذا منتهى أملهم، المسألة ليست مسلمين وأقباطا، هم يريدون تفريغ مصر من صفوة مثقفيها، حتى تعود إلى عصر البداوة والتخلف. •