ملخص الحلقة «2» اكتشف عماد فى أوراقه القديمة صندوقا يحوى كنوز والده ومنها رواية لم تنشر، عرضها على محسن فواز رئيس تحرير مجلة «الأفكار الجديدة». أبدى إعجابه بها، ولكنه عرض عليه أن يعمل صحفيا فى المجلة، واقترح أن يكون أول موضوع عن نوات الإسكندرية. ليلة ظهور المجلة حلم كأنه فى محطة الرمل وقد التف حوله بائعو الجرائد والمجلات يبتسمون فى وجهه، وهم ينادون بأعلى أصواتهم: اقرأ الأفكار الجديدة. فى لهفة، اختطف العدد الجديد وبدأ يقلب صفحاته بسرعة، ولكنه وجد ملزمة كاملة مغلقة، ما إن فضها حتى وجد داخلها قلم حبر من الذهب الخالص. عندما استيقظ شعر بالتفاؤل. سار مسرعا إلى أن وصل إلى كشك عم عبده. وقف بجواره. وكما فى الحلم، أمسك بالمجلة فى ترقب ولهفة وكأنه لاعب مقامر، يقلب ورق الكوتشينة بحثا عن الآس. دقات قلبه تختلج داخل صدره. لم يصدق عينيه وهو يرى موضوعه منشورا على ثلاث صفحات كاملة. وها هى رسومات الفنان الكبير بدر شامل، الذى لا يشارك بريشته سوى موضوعات كبار الكتاب والروائيين. صاح فجأة: - عم عبده.. عم عبده.. شوف الموضوع. وبفرحة أكبر: - وهذه صورتك التى رسمها الفنان بدر. ترك عم عبده زبائنه ونظر إلى صورته مبتهجا: - يا سلام.. برافو عليك يا أستاذ عماد.. والله عشنا وشفنا صورنا فى المجلات. ثم أمسك بالمجلة وأخذ يفرج زبائنه وأصدقاءه عليها بفرح عظيم. أما عماد، فقد أخذ المجلة، يريد أن يستطعم لذة قراءة موضوعه الأول على مهل، وقد هدأت انفعالاته. فور وصوله إلى المكتب، شرب فنجان القهوة، وأشعل سيجارة، وبدأ يقرأ، إنها حروفه وكلماته وتعبيراته. لم يحذف منها سوى عبارة أو عبارتين. وأخيرا، ها هو اسمه. صحيح مكتوب بالبنط الصغير آخر الموضوع، ولكنها على أى حال أول خطوة فى طريق طويل. لم يخبر أحدا من الموظفين، إلى أن أتت أمانى، فاتنة نضرة متألقة متدفقة بالحيوية. نظرت إليه متعجبة. - ما كل هذا النشاط. هل كنت بايت فى المجلة؟ - ابتسم فى زهو: - تعالى.. قربى. دغدغت وجهه بخصلات شعرها الناعم، وهتفت فى فرح طفولى: - ياه.. موضوعك.. هائل. مركزا على عينيها: - لا تنسى أنه موضوعنا نحن الاثنين. قال، هامسا، وعيناه تنطقان بفرحة الانتصار: - أخيرا، أصبحتُ كاتباً. ثم أمسك بيدها وكأنه يود أن يقولها صراحة: وأصبحت أيضا عاشقا. صمت لحظة، ثم أضاف فى حذر: - أريد أن نحتفل بهذه المناسبة. وعندما رأى التوهج واللمعان فى عينيها تشجع: - عندى فى البيت. وجاء الخريف. أجمل فصول السنة. ربيع الإسكندرية الحقيقى. إلا أن هناك شيئا ما يقبض على صدره. قلق من نوع غريب لا يدرى كنهه. هل هى أمانى وعتابها له، لأنه لم يسأل عنها طوال فترة غيابها عن المكتب؟ لقد أعطته أمانى مفاتيح الأنثى، تلك القارة التى كانت شبه مجهولة بالنسبة له، ومع ذلك فها هو يتراجع راغبا فى التخلى عنها. هل لأنه يريد أن يجرب كيف يستغنى عنها، أم لأنه يريد لها ألا تتشبث بوهم لابد أن يأتى يوم توضع فيه أمام واقع مغاير. ها هى أمانى، أخيرا، تدخل المكتب، بعد أسبوع كامل من الغياب بحجة المرض. يشتاق إلى رؤيتها والسؤال عنها، ولكنها تدخل إلى حجرتها، دون مجرد تحية. تنتابه المخاوف والهواجس. هل حدث ما لا يحمد عقباه؟ هل تحققت تحذيرات والده بالابتعاد عن غواية الأنثى؟ هل وصلنا إلى ذروة فيلم عربى مكرر؟ لقد تعددت لقاءاتهما الحميمة، وفى أماكن مختلفة، لكنه فى كل مرة كان حريصا. فجأة، وقبل موعد الانصراف، دخلت عليه بوجه شاحب ونبرة مضطربة: - ممكن أشوفك النهاردة؟ وقف بنظرة متشككة، مستفسرا عما تخبئه، لكنها أردفت بسرعة: - الساعة السادسة فى «البوريفاج». ها هى مغارة على بابا، المليئة بالكنوز، تخرج أفاعى وحيات، فأين المفر؟ وأبدا، لم تخلف موعدها، رآها جالسة فى انتظاره بحديقة «البوريفاج»، التى شهدت لقاءاتهما المتعددة، لم يشعر بفرحة اللقاء، ولا بلهفة الشوق للجلوس معها، منفردين، وإنما سلم عليها واقفاً: - الجو هنا بارد.. تعالى نجلس فى الداخل. ورغم أنها لم تعترض، إلا أنها لم تستطع إخفاء نظرة جانبية مشحونة باللوم والمرارة. جلسا فى ركن منزوٍ، ولمح الدموع تترقرق من عينيها: - هل تخجل منى إلى هذه الدرجة؟ ابتلع عماد ريقه: - أبدا، ولكنى أشعر باكتئاب لا أعرف سببه. أضافت فى حزن: - قلها بصراحة، إنك زهقت منى. أخذ يدخن ويحملق طويلا فى التعبير البادى على وجهها: - إذا كنت تريدين الصراحة، فأنا حاسس إنك تغيرت. نظرت إليه فى دهشة: - أنا؟ تغيرت؟ على العموم، كل واحد حاسس بنفسه. بذل جهدا كبيرا حتى لايبدو شاردا: - كنت تقضين أغلب الوقت فى حجرتى، أما الآن.. - لأنى لا أحب أن أشغلك عن كتاباتك، وثانياً، لأنك تخاف من كلام الناس. تنظر إلى وجهه الذى بدا خاليا من أى تعبير: - أنا كنت تعبانة بصدرى طول الأسبوع ولم تسأل عنى. شعر بالارتباك، ولم يستطع الرد. قالت، وفى رنة صوتها حزن ورغبة فى التعاطف: - أنت شكيت فى، وتحملت. كنت بجانبك فى الحزن والفرح. قضينا معا أجمل الأوقات. تنهد فى ارتياح، فها هى تعاتبه على أشياء بسيطة: - لكن تصرفك اليوم كان غريبا. حتى صباح الخير، لم تقوليها. نظرت إليه بعتاب: - سأقول لك عن كل شىء. أنا الآن تجاوزت الخامسة والعشرين، وأى بنت فى سنى تفكر فى الزواج. نظر إليها مرتابا ولكنها أردفت بسرعة: - جاءنى عريس كان يعمل مع والدى فى الورشة، ثم سافر إلى الكويت، جاء فى إجازة يطلب يدى. أمسك يدها بحنان، شاعرا بالذنب لإيلامها بما أبداه من شكوك ولا مبالاة، يشعر بالامتنان لتلك التجربة، التى ربما كانت عادية ومألوفة للكثيرين، إلا أنها كانت بالنسبة له إثراء بلا حدود؛ واستمر يضغط برقة على أصابعها، بينما بانت على وجهها تعبيرات الشك والقلق. تناهى إلى سمعه صوت قرآن يُتلى، فقال على الفور: - كأننا فى مأتم نظرت إليه بعتاب. - اعذرينى يا أمانى، أنا من الصبح غير طبيعى. جاء الجرسون حاملاً كوب ليمون مثلجا وفنجان قهوة، وما أن وضع الطلبات حتى سأله عماد بقلق: - ما هى الحكاية؟.. تلاوة قرآن على طول؟ رد عليه متجهما: - يبدو أن أحد الجيران توفى. وعاد ينظر إليها. خلف هذا الوجه، تبدو مشاعر متناقضة، وأحاسيس متشابكة، أحلام مجهضة. وعود كاذبة. آمال مؤجلة ورغبات أكيدة. وشعرت فجأة بالاختناق. أخرجت البخاخة من حقيبتها، وذهبت لدورة المياه. لا تريد نظرات الإشفاق أن تلاحقها. عندما عادت، أبدت رغبتها فى الانصراف. نظر إليها فى مودة وحنان: - لازم أوصلك. قالت له هامسة: - لا تتعب نفسك، أنا الآن أحسن. وركبا معاً، أول تاكسى صادفاه على طريق الكورنيش، وكان الراديو مفتوحا، والتلاوة ما زالت مستمرة صاح عماد فى استنكار ودهشة: - لابد أن هناك شيئا خطيرا حدث، ولا نعرف ما هو. نظر إليه سائق التاكسى: - جائز ذكرى الإسراء والمعراج. وكان المساء ساجيا ساكنا، يكاد يكون فاترا، وأمواج البحر راكدة، والرطوبة خانقة، وصدر أمانى يعلو ويهبط. يجيش قلبه بحنين غامض وشجن خفى. عشرات الأسئلة تموج فى عقله، ولا يعرف لها إجابة. وعند تقاطع طريق الحرية مع الزقاق الضيق المؤدى إلى كوم الدكة، توقف التاكسى، ونزلت أمانى. وبينما كانت تستدير برأسها، شيعها بنظرات حزينة غائمة وهى تصعد السلالم الحجرية الضيقة بين حائطين، فى عتمة الزقاق الضيق، وشجرة جميز عتيقة، ملتوية الأغصان تكاد تحجب السماء. ••• وعندما وصل إلى المنزل، مرهقا مكتئبا، تصاحبه كل أنواع القلق والغيرة والهجران والخوف من الفقدان، فتح التليفزيون ففوجئ بشيخ يقرأ القرآن بصوت حزين. نظر إلى والدته، التى صاحت متعجبة: - هكذا، من المغرب. سألها فى لهفة: - وهل سمعت نشرة الأخبار؟ ردت: - لا يوجد شىء جديد. تساءل: - غريبة.. ما الذى حدث؟ لابد أن شخصية مهمة ماتت. - كل شىء جائز. وسمعت من الجيران أن الملك حسين اغتيل. يشعر بالإرهاق والتعب. يريد أن ينام مبكرا، لعله يدفن مخاوفه وأحزانه؛ ولكن ليس قبل أن يعرف السر وراء الحزن المخيم على برامج الإذاعة والتليفزيون. وفتح الراديو قبل الحادية عشرة مساء، ففوجئ بصوت أنور السادات حزينا كسيرا. وبطريقته المميزة فى نطق الحروف والكلمات يقول: - فقدت الجمهورية العربية المتحدة، وفقدت الأمة العربية، وفقدت الإنسانية كلها، رجلا من أغلى الرجال، وأشجع الرجال، وأخلص الرجال، هو الرئيس جمال عبدالناصر.. هب من فراشه مفزوعا، لا يريد أن يصدق ما سمع هل معقول أن يموت عبدالناصر؟ عبدالناصر أقوى من قوانين الطبيعة ونواميس الكون. عندما مات والده لم يشعر بالحزن، لأن وفاته كانت متوقعة؛ ولكن عبدالناصر، لا. دخل حجرة والدته التى انتفضت مذعورة. صاح دون مقدمات: - عبدالناصر مات. نظرت إليه ذاهلة: - ماذا تقول؟ لا تقل مثل هذا الكلام، الجدران لها آذان. حدق فى عينيها: - أنور السادات ألقى بيانا بأن عبدالناصر مات. فجأة، أحست الأم بكل جسمها يرتعش، وكأن الحجرة لفحتها رياح باردة تأتيها من حديث لا تدري؛ وطلبت منه فى إلحاح إغلاق كل الأبواب والنوافذ، مع أنها جميعا كانت مغلقة، أما هو، فقد ارتدى ملابسه بسرعة، يريد أن يعيش هذه اللحظة التاريخية ويراقب عن كثب الانفعالات الأولية لبسطاء الناس. يرى المدينة وشوارعها وقد استيقظت على إيقاعات الحزن والخوف، واندفاع الناس فى تلاحم غريب، لقد رحل الأب، رب الأسرة، المسئول عنهم فى كل صغيرة وكبيرة، الذى حاول قدر طاقته أن يحقق أحلامه بهم، وبطريقته ولكن ها هو يمضى ويتركهم دون أن يحقق حلمه. رحل والبيت مرهون، والدائن واقف على الباب، يفرض شروطه فى صلف وكبرياء. وكان عبدالناصر، من قبل يتخايل فى صورة فارس يمتطى حصانا أبيض ويرشق بسيفه المسلول تنينا بأسنان حادة؛ وها هو الفارس يسقط عن جواده، والسيف مغمود فى قلبه. حمل الموت النساء إلى تقاليدهن المتوارثة من عهد الفراعنة؛ وكأنما خرجن من تلك الرسوم التى نقشت على المقابر منذ آلاف السنين، يمزقن الثياب، ويشققن الصدور، ويلطمن الخدود، ويطلقن الصرخات بكل أنغام الصوت ودرجاته، من شهقات النحيب، إلى الأنين المكتوم، إلى ذلك العويل المخيف. بقلوب لا تتزعزع، حتى يأتيكم النصر. حافظوا على هدوئكم واحرصوا على طهارة قلوبكم، ولا تهملوا الوصايا التى أوصيتم بها. ••• وها هو الصباح يطلع من غير أن يكون هناك عبدالناصر. عم عبده يصرخ ويرتجف وعيناه دامعتان: - ربنا يستر على البلد.. كان شايل الكل فى حضنه، جامع الكل حواليه. أمسك عماد بالأهرام المجلل بالسواد: عبدالناصر فى رحاب الله البطل والزعيم والمعلم يسلم الروح فى الساعة السادسة والربع، بعد نوبة قلبية حادة. - قلبه لم يحتمل غدر الأصدقاء والأعداء. ألم تكفهم الهزيمة؛ أوجعوا قلبه بمذابح الفلسطينيين. ••• عماد، وهو راكب القطار، متجها إلى القاهرة لمقابلة محسن فواز، بعد أن علم بعودته من الصين. لايدرى لماذا تذكر فجأة قصة قرأها منذ زمن بعيد، ولم يعد يذكر اسم مؤلفها. والقصة تحكى عن أب نصح ابنه قبل أن يسافر للعمل فى بلدة بعيدة، أنه لكى يحقق النجاح فى عمله وحياته، عليه أن يتجنب ثلاثة أشياء: الخمر، والقمار، والنساء، وتصادف أثناء رحلة القطار الطويلة أن وجد نفسه وسط مجموعة من المقامرين، وقال ليجرب حظه بنقود قليلة. ولدهشته، ربح مبلغاً كبيرا من المال. وعندما ذهب إلى البلدة التى سيعمل بها، نزل فى بنسيون تديره امرأة رائعة الجمال، أذاقته أجود أنواع الخمور قبل أن تذيقه من ملذات جسدها المثير، فانفكت عقدة لسانه، وصار إنسانًا آخر، حلو المعشر والحديث، بجانب ما اكتسبه من خبرات جديدة، مما كان له أكبر الأثر فى النجاح الذى حققه فى عمله. وعندما عاد إلى أبويه، بعد سنوات من النجاح المتصل، استقبله والده بالترحاب قائلا: لأنك عملت بنصائحى حققت كل ما تتمناه. لقد تربى طبقا للقواعد والنظم والأصول، والخضوع التام للنواهي؛ فماذا كانت النتيجة؟ تعليم يقوم على الحياء والاحتشام والقليل من الكلام؛ فهل تصلح هذه السلوكيات للتخاطب مع الحياة؟ وقال لنفسه: لولا عصيان آدم ما عمرت الأرض؛ ولولا أن آدم عرف امرأته لما استمرت البشرية حتى الآن؛ وكانت المعرفة هى الجنس. أربكته مشاعره فى بداية الأمر عند وصوله إلى دار المجلة.. خليط من الشك، وفرحة يشوبها التوجس والقلق. لحسن الحظ، وجد حجرة الأستاذ رفيق صبرى مفتوحة. هو الذى أشار عليه بموضوع التحقيق، ولابد أن يشكره أولا. كان يتوقع كلمات الإعجاب والإطراء؛ لكن الأستاذ رفيق بادره بابتسامة جادة. - ويا ترى اشتريت كم نسخة عندما نشر موضوعك؟ - رد عليه: - الحقيقة لا أستطيع أن أصف لك شعورى. زمّ شفتيه وكأنه يتهرب من تهمة: - على فكرة الأستاذ محسن أعجب بالموضوع، وهو الذى سمح بنشره. - الفضل يرجع لك لأنك صاحب الفكرة. - ويا ترى ماذا فى حقيبتك من موضوعات جديدة؟ - تنهد عماد فى ارتياح لأنه كان مترددا فى عرض قصصه. فتح حقيبته وأخرج منها قصة قصيرة سلمها له قائلا فى نبرة استعطاف: - ويا ريت أقدر أعرف رأيك فيها. ترك الأستاذ رفيق ما بيده، ووضع نظارته على عينيه، واكتسى وجهه بملامح الجدية. لحظات غريبة ساد فيها الصمت المشمول بالتوتر. دقات قلبه يكاد يسمعها. أنفاسه تتلاحق، يخفيها بدخان سجائره. يراقب تموجات وجهه. يفسر تقطيبة الجبين على أن القصة دون المستوى، وانفراج شفتيه على أن هناك شيئا ما أعجبه. وعندما أشعل سيجارة وأخذ نفسا باستمتاع، أحس بأن قصته رفيعة المستوى. وما إن وصل إلى آخر سطر، شعر بأن لحظة النطق بالحكم قد باتت وشيكة. نظر إليه فى توسل؛ أما الأستاذ رفيق فقد وضع القصة جانبا، ونظر إليه من تحت نظارته، وكأنه يتلذذ فى إخفاء نتيجة الامتحان، وأخيرا، عندما طال الصمت، قال فى صوت أشبه بالهمس: - ماشى. بعد كل هذا المجهود يقول (ماشى) ماذا تعنى هذه الكلمة التى بلا معنى؟ هل القصة أعجبته؟ هل هى صالحة للنشر؟ قال له بصوت مجروح: - يعنى القصة أعجبتك؟ - فرد بنفس اللهجة المحايدة: - تمشى. ثم بعد لحظات: - عموما، سلمها للأستاذ محسن. بلهجة سأل: - وهل أستطيع مقابلته؟ - رد وهو يميل بكرسيه إلى الوراء: - مكتبه فى آخر الطرقة. وجد نفسه حائرا تائها. كم هى شاقة لحظات تعرفه على أناس جدد. عندما وصل إلى حجرة رئيس التحرير، تراجع إلى الوراء، فقد كانت مليئة بالواقفين والجالسين. لمحه جالسا أمام مكتبه، تماما مثل صورته التى يراها فى رسم «البروفايل» الذى يتصدر مقالاته. وجه مستدير بأنف نسر، وعينين فيهما بريق الذكاء وشقاوة الطفولة. كان يتحدث فى التليفون، ثم يؤشر على ورقة، بعدها يعطى تعليمات لأحد المحررين، كيف يدخل وسط هذا الخضمّ؟ ومن ذا الذى سيشعر بوجوده. وفيما هو يتراجع إلى خلف، رأى الأستاذ رفيق قادما، أبدى له اندهاشه من كل هذا التجمع. ضحك رفيق أخيرا: - مكتب الأستاذ محسن هكذا دائما، مثل دوار العمدة. - إذن، انتظر حتى ينتهى من مشغولياته. - معنى هذا أن تظل تنتظر إلى ما لا نهاية. ثم جذبه من يده ودخل إلى الحجرة وقدمه للأستاذ. ولدهشته قام من جلسته وقد تهلل وجهه بابتسامة عريضة: - أهلا بك. موضوعك أعجبنى جدا. وظل واقفا واضعا يده على كتف عماد، مشيرا إلى الواقفين والجالسين فى حجرته، قائلا فى صوت جهورى. - أقدم لكم عماد راشد، زميلنا من إسكندرية، رسم صورة رائعة للمدينة أيام النوات والعواصف وتحت المطر. شعر عماد بالثقة والامتنان، وزال شعور الخجل والارتباك، وجلس وسط هذا الحشد كتلميذ يتلقى الدرس الأول من أستاذ عظيم، والذى كان يحكى عن رحلته الصينية، فقد قال: - أجمل منظر عندما تنزل فى الصباح الباكر، ترى الصينيين فتيانا وفتيات وكل واحد يركب دراجته، شريط طويل من الدراجات يتحرك بسرعة ونشاط، وكأنهم طابور من النمل، والجميع عيونهم متيقظة. ثم، بنبرة ساخرة: - الناس هنا مغمى عليهم! ردّ الساعى وهو يضع الطلبات: - من أكل الفول! ووسط ضحكات المحررين، والصمت الذى أعقبه دخلت الحجرة غادة رشيقة، حادة النظرات، جادة الملامح، واثقة الخطوة، لم تلتفت يمينا أو يسارا، اقتربت من مكتب الأستاذ محسن، وسلمته بعض الأوراق. وقبل أن يدعوها للجلوس قدّم لها عماد: - عماد راشد زميلنا فى مكتب إسكندرية. - سلم عليها بتحفظ؛ وردت بابتسامة مقتضبة: - الآنسة سالى صادق. وما إن جلست على المقعد الشاغر بجوار عماد، بادرته قائلة: - موضوعك عجبنى، وكان نفسى أعمله، لكنك سبقتنى. نظر إليها بإعجاب مقرون بالامتنان، أضافت: - على فكرة، أنا لى قرايب كثيرة فى إسكندرية. وعلى الفور رد عماد: - إذن، هناك فرصة لعمل موضوع مشترك. شردت لحظة، ثم واجهته بعينيها: - ما رأيك فى موضوع عن الحركة الأدبية فى إسكندرية. يعاود النظر إليها، ليس كصحفية، ولكن كمشروع زواج. هو جاوز الثلاثين من العمر، وأمه تلحّ عليه بأن أمنيتها فى الحياة أن تحمل أولاده. من جهة العمر، متقارب. عندما سألها عن دراستها، أجابت: - كلية إعلام، قسم صحافة، دفعة 68. الطول متناسب مع قامته. خصر نحيل وأرداف ممتلئة، ميكروجوب يكشف عن سيقان مدملجة ولولا الملامة لأمعن النظر وتملى بدسامتها. أما ملامح وجهها، فلا تستطيع أن تكشف عيبا واحدا. عندما تضحك تتجلى حلاوتها، ولكن عندما تشرد أو تراها ساهمة، تنذر ببريق حاد، ويتحول قوس شفتيها فى زمة عصبية. لاحظ ذلك عندما وجه إليها الأستاذ محسن ملحوظة لم تعجبها. كان محسن فواز يراقبهما من تحت نظارته؛ ويبدو أن سالى لاحظت نظراته، فالتفتت إليه، منادية إياه: عمو محسن. - فكرت أنا وعماد لعمل موضوع مشترك عن الأدباء السكندريين. لمعت عيناه، مبتسما: - إسكندرية غنية بالموضوعات. ممكن موضوع عن إسكندرية فى عيون الأدباء، مصريين وأجانب. أيضا، الصالونات الأدبية، خصوصا فى الصيف. وهنا وقف عماد وسالى مستأذنين فى الانصراف، قائلا لهما: - يالله شدو حيلكم أنتم الاثنين. وما إن اجتازا باب الحجرة، نظر عماد فى ساعته بقلق قائلا إن ميعاد قطاره أزف. باردته وهى تلملم أوراقها: - المحطة فى طريقى إلى البيت. ثم ضحكت: - وممكن أتنازل وتركب معى. جميلة وجريئة. واثقة من نفسها. نظر إليها بمزيج من الإعجاب والخجل، أما هى، فلم تتوقف لحظة عن الحديث ببساطة آسرة. تسأله عن الحى الذى يسكن فيه. عن هواياته وقراءاته وأغانيه المفضلة. وكأنها تجرى حوارا صحفيا معه. وجد نفسه يجاريها فى الحديث، وقد انفكت عقدة لسانه. وعندما اقتربا من باب المحطة، نظر إليها بامتنان، مودعا: - دائما الأوقات الحلوة تمضى سريعا. ردّت بابتسامة عذبة: - أشوفك فى الإسكندرية، قريبا. •