حب الوطن شيء جميل من الصعب أن يوصف، وشعور أجمل عندما تراه فى عيون أشخاص بسيطة.. جاءوا من أطراف المحافظات والقرى الفقيره سعيا وأملا فى الالتحاق بهذا المشروع «مشروع تنمية قناة السويس».. فمن نتحدث عنهم هم جنود مجهولة أحبوا أن يشاركوا فى هذا الحدث التاريخى.. دون أى مقابل. عمال بدرجة أبطال.. لا صوت لديهم يعلو على صوت الحفر، فلا تسمع لهم صوتا بينما لا يكف ضجيج سياراتهم ولوادرهم عن الحركة، رأيت فى خطوط وجوههم امتداد النيل بتفريعاته، وفى ألوان بشرتهم شمسها الساطعة من الإسكندرية إلى أسوان. تاركين خلفهم زوجاتهم وأطفالهم، على أمل بلقاء قريب يجالسونهم فيه ويحكون لهم قصصهم فى الحفر كما فعل أجدادهم فى الماضى. ولكنهم شاركوا هذه المرة راغبين لا مرغمين. فلم تخرجهم الحاجة ولم يلهب ظهورهم سوط السخرة كحال أجدادهم فى حفر القناة الأولى، إنما ذهبوا أحرار الإرادة، يعملون وهم معتدلو القامة، ليحفروا بأيديهم وعرقهم قناة جديدة لبلادهم كما بنوا سابقا سدا حماها من فيضانها الغاضب. لتستمر رحلة كفاحهم ونجاحهم. • الأحمر أحد شرايينى رجل عجوز قارب الثمانين، اندهشت عندما رأيته فى موقع الحفر بقناة السويس. وإن كان حماسه ونشاطه يوحى بأنه شاب فى العشرين. دائم الحركة، بين الحين والآخر يلقى بنظرة إلى الامتداد الصحراوى الواسع الذى شغلته حركة العمال وعربات النقل والبلدوزارات. إنه مساعد أول رشاد عبد المنعم «بحرى» الذى قال لى بحدة وثقة «لقد شاركت فى جميع حروب مصر بدءا من حرب العدوان الثلاثى فى 56 مرورا بحرب اليمن مرورا بحرب الجزائر وحرب 67 وحرب أكتوبر 1973، يعنى حياتى كلها وضعتها فى خدمة مصر. وأشكر ربنا أن أعطانا العمر حتى أرى مشهد حفر قناة السويس الجديدة، وقد خدمت فى البحر الأحمر طول حياتى، فبالنسبة لى هو عمر ودم وشريان من شرايينى، وبعد انتهاء خدمتى العسكرية كانت خدمتى المدنية فى البحر الأحمر أيضاً وقد عملت فى أبو زنيبة والضفة الشرقية ورأس سدر وغيرها من المدن. ولا أستطيع وصف مدى فرحتى بحفر القناة الآن، لأنها الميراث التى تركه لنا أجدادنا الذين حفروا القناة القديمة بعرقهم ودمهم ولكن اليوم من الله على مصر بماكينات وهو ما سيسمح بالحفر على نطاق أوسع. • يستقبلونا فى الصعيد كالأبطال محمد من أسوان عامل فى إحدى الشركات المشاركة فى الحفر، يقول بلهجته الصعيدية البليغة: نعمل هنا منذ شهر أنا وآخرين من العمال الذين جاءوا معى من أسوان مرحبين بالعمل فى قناة السويس، وكنا قد سمعنا كثيرا عن المشروع فى التليفزيون، ولكن لم نشعر به وبمدى الحماسة إليه إلا عندما جئنا موقع الحفر، وكنا مترددين فى البداية أن نأتى للمشاركة فى المشروع لأننا لم نكن نعرف عنه الكثير حتى طمأنا أحد أصدقائنا الذى التحق بالمشروع منذ بدايته وشجعنا للذهاب. ونحن أول مرة كشباب صعيدى نشارك فى مشروع قومى، والصعيد تحديدا سعيد بهذه التجربة، لأننا ولاد هذه البلد أيضاً وعايزين نؤكد على دورنا فى بناء مصر فكما بنى أجدادنا السد كنا نحن أول المشاركين فى حفر قناة السويس الجديدة. فعندما نعود إلى قرانا بالصعيد مرة أخرى يستقبلونا استقبال الأبطال، وهم يعتبرونى «فى البلد» امتداداً لجدى الذى كان بالفعل مشاركاً فى حفر القناة الأولى. لذلك فنحن غير مهتمين بالعائد المادى بقدر اهتمامنا بإحساس الشرف والكرامة الذى نشعر به. ثم يسكت قليلا ليقول متابعا حديثه فى حالة من الشجن والإصرار: لا أخفى أننا كنا على المدى القريب نشعر بأننا لسنا فى حساب الدولة المصرية- حكومة وشعبا- لذلك مشاركتنا اليوم فى حفر القناة وأنا وشباب الصعيد هى رسالة أبعث بها إلى كل محافظة وحى وقرية بمصر أننا منكم ولسنا غرباء عليكم، وجئنا لنحفر القناة بإرادتنا ورغبتنا لأنها الإرث الذى سنتركه لأبناء مصر. • نعمل 24 ساعة بلا ملل عم سعيد رجل بسيط عنده 59 سنة.. جاء من «منيل شيحة» وهى قرية صغيرة بمحافظة الجيزة.. لديه عربات نقل يعمل عليها سائقا.. وكان هذا مصدر رزقه الوحيد الذى ربى من خلالها أبناءه وسعى إلى أن يكملوا دراستهم.. وهذه المهنة كانت سببا أيضا فى أن يصبح جدا.. لكن وطنيته وحبه وعشقه لتراب بلده، جعلوه يترك كل ما بناه فى «حياته وأسرته وأسطول عربات النقل الذى يسترزق منه» من أجل المشاركة فى هذا الحدث العظيم.. وها هو معنا ليقول: كنت أعمل سائقا على عربات النقل الخاصة بى.. وعندما علمت أنهم يريدون عمالاً تعمل فى المشروع .. جئت على الفور لأقدم أوراقى.. وبدأت العمل منذ شهرين.. وهذا المشروع يعتبر أيضا رزقى وأكل عيشى.. فعلى الرغم من مشقة وتعب العمل.. لكنه كله فداء للوطن.. فنحن نعمل فى ال 24 ساعة دون ملل، وبقالى 72 ساعة منمتش.. لأننا نسابق الزمن كى نسلم المشروع فى موعده.. فنحن منقطعون على العالم الخارجى.. ولا نعرف ما يحدث خارج مناطق الحفر.. وبعد انتهاء هذا المشروع، سأسهم وأدخل أيضا فى مشروع تنمية الأراضى التى تحيط بالقناة.. وسأظل أعمل هنا إلى أن تأتى القوات المسلحة وتطلب منى الرحيل. • لا صوت يعلو على صوت الحفر وشاركنا الحديث أحمد عصام الشاب الأسوانى الذى ترك زوجته وابنته الصغيرة .. وجاء إلى الإسماعيلية من أجل التقدم للعمل فى مشروع محور تنمية قناة السويس، فيقول: كنت أعمل على «لوادر»، حيث ورثت هذه المهنة أبا عن جد.. وتعتبر هذه المهنة هى مصدر دخلى الوحيد.. وعلى الرغم من تيسر الحال إلا إننى جئت هنا من أجل أن نكمل المشوار الذى بدأناه منذ ثوره 25 يناير وما قبلها، وهو تعمير وإصلاح بلدنا من هؤلاء الإرهابيين الذين خربوها ودمروا مستقبل شبابها.. فنحن نعمل هنا على ورديتين ولكن المعدات والآلات تعمل طول اليوم ولها ساعتان راحة من أجل الصيانة.. فلا صوت يعلو فوق صوت الحفر. • حبنا للوطن يهون علينا كل شيء فقاطعنا أيمن محمد بمنتهى الحماس قائلا: على الرغم من عملنا فى الصحراء وأشعة الشمس الحارقة وضعف المأوى سواء مأكل أو مشرب والمجهودات التى نبذلها إلا أن حبنا للوطن يهون علينا كل هذه الصعاب.. وسأظل أعمل هنا حتى أدفن على هذه الأرض الطاهرة. وقبل أن أغادر موقع الحفر مع زملائى، وجدت من يستأذننى فى الحديث للحظة واحدة فاستجبت له احتراما لسنه ووقاره، فقال لى: أنا حاربت ووضعت دم قلبى فى هذه الأرض وانا فى عز شبابى، فأوصيكم بالحفاظ عليهم وأرجو كم «متضيعوهاش». مساعد أول مقاتل حمادة الطيب إبراهيم.•