أعادت مذبحة أسوان الأخيرة إلى الأذهان فترة الانفلات الأمنى التى تصدر السلاح مشهدها العام عقب ثورة 25 يناير كما كشفت عن إصرار الكثيرين فى الصعيد على حيازة السلاح دون ترخيص لاعتقادهم أنه الوسيلة الوحيدة للدفاع عن أنفسهم وعِرضهم وأسرهم ومالهم وأراضيهم ومنازلهم، والأداة التى تمنحهم القوة فى التصدى لغيرهم عند اشتعال الخلافات القبلية أو الأخذ بالثأر الذى لا يزال مستمرا حتى الآن. رغم المحاولات الحثيثة لوزارة الداخلية الهادفة إلى استعادة السلاح المسروق من أقسام الشرطة والمهرب عبر الحدود والقضاء على تجارة السلاح فى جميع أنحاء البلاد، لايزال الصعيد يمتلك ترسانة أسلحة كبيرة يجنى بائعوها الأموال الطائلة بينما يجنى حاملوها السجن أو الموت.
«صباح الخير» رصدت خريطة السلاح فى صعيد مصر «الجوانى» وأهم القرى والمراكز المعروفة بتجارة السلاح، وأنواعه، وأسعاره، والأكثر طلبا، وأماكن جلبه، وطرق تهريبه المختلفة وغيرها من خلال هذا التحقيق.
∎ صراع دموى
فرضت الطبيعة الجغرافية والخريطة السكانية فى الصعيد واقعا اجتماعيا يظل المعلوم منه أقل بكثير من المجهول فى العديد من محافظاته التى تقوم أغلبها على العصبيات والصراعات القبلية، لذلك استغل تجار السلاح - «تجار الموت» كما يطلقون عليهم - الأزمة بين عائلة «الهلايل» التى تنتمى لقبيلة «بنى عامر بن معاوية» النازحة من شبه الجزيرة العربية إلى شرق النيل والمنتشرة فى العديد من محافظات مصر وبين عائلة «الدابودية» أكبر عائلة فى قبيلة «الكنوز» النوبية لفتح منافذ بيع لأسلحتهم الجديدة والمستعملة، فسال الدم الحرام بين العائلتين بسقوط 62 قتيلا وإصابة العشرات بإصابات بالغة فى أكبر مجزرة بشرية تشهدها محافظة أسوان التى تعد أقل محافظات الصعيد صراعا دمويا وثأريا بين القبائل والعائلات مقارنة بمحافظتى قنا وسوهاج.
فى البداية، التقينا «س. أ . ف» - موظف بمحافظة أسوان الذى بدأ حديثه قائلا: «لا يخلو مركز أو قرية أو نجع من نجوع المحافظات المنتمية للصعيد من السلاح لأن القبائل والعائلات الكبرى فى تلك المحافظات ترى أن اقتناء السلاح عامل رئيسى لحماية نفوذهم وردع خصومهم لذلك يدفعون كل ما يملكون لاقتناء الأسلحة بدون حيازة فى ظاهرة لا تزال تمثل كارثة أمنية».
وأضاف: «للأسف الشديد، تسود لغة العنف وتفوح رائحة الدم فى الصعيد سواء فى الأحزان أو الأفراح بمعنى أنه عندما تقع المشكلات يصبح السلاح أيا كان نوعه هو العنصر الحاسم ولا يوجد شىء بديل عن الرصاص الذى يعلن أن خصومة قد بدأت أو ثأرا قد أخذ، وكذلك الحال عندما يتزوج أحد أفراد القبيلة أو العائلة تتحول الأفراح إلى تظاهرة مسلحة مع قدوم بعض المعازيم الذين يأتون حاملين بنادقهم الآلية للمجاملة بإطلاق الأعيرة النارية فى الهواء وربما يسقط أحد الأفراد نتيجة القتل الخطأ، وفى كل الأحوال تكتفى الشرطة بالتدخل فقط فى حالة التدهور الأمنى».
∎ طرق تهريب السلاح
وأوضح: أن أشهر القرى المعروفة بتجارة السلاح فى محافظة أسوان والمحترفة فى مجالات تهريب السلاح وغيرها من عمليات التهريب هى قرى «أبو سديرة» و«خور عواضة» و«السيل الريفى» التى تتبع منطقة شرق مدينة أسوان، وقرى «الضما» و«عزبة العرب» و«وادى خريط» التى تتبع مركز كوم أمبو، وقرية «العدوة» التى تتبع مركز إدفو أما قرية «عزبة حجاجى» فأنهت الشرطة على تجارة السلاح بها منذ فترة طويلة.
واستطرد قائلا: إن أشهر أسلحة الموت فى الصعيد هى الكلاشينكوف والجرانوف الروسى، موضحا أن «الكلاشينكوف الروسى» يتراوح سعره ما بين 10 إلى 12 ألف جنيه، و«الكلاشينكوف الكورى» يبلغ سعره من 7 إلى 9 آلاف جنيه ويعد الأكثر طلبا لرخص ثمنه مقارنة بالروسى، وهناك الطبنجات الألمانى التى يتراوح سعرها ما بين 8 إلى 12 ألف جنيه، والطبنجات الإسبانى يبلغ سعرها ما بين 5 إلى 8 آلاف جنيه، والطبنجة «الحلوان» العادية سعرها 6 آلاف جنيه.
وأضاف: أن سعر الذخيرة «الزنكة» التى تحتوى على 3 آلاف طلقة يتراوح ما بين 30 إلى 40 ألف جنيه أى أن سعر الطلقة الواحدة يبلغ ما بين 10 إلى 15 جنيها.
وعن أماكن جلب السلاح إلى أسوان وطرق تهريبه، أفاد أن تجار الأسلحة يمدون جميع محافظات الصعيد بالأسلحة النارية التى يجلبونها من السودان «المعبر الجنوبى لدخول السلاح إلى مصر» عبر أسوان والبحر الأحمر، مشيرا إلى أن المهربين يستخدمون طريق الجبل الشرقى الذى يتميز بدروبه وأوديته الواسعة ويقطنه «العرب البشارية» الذين لا يجرؤ أحد على تهريب أى شىء بدونهم خاصة أنهم يجيدون مهنة «قصاص الأثر».
ونوه إلى أنه بمجرد وصول طلبيات الأسلحة المحملة على الجِمال أو فى السيارات ذات الدفع الرباعى إلى محافظة أسوان يتم توزيعها عن طريق وادى «العلاقى» جنوب شرق مدينة أسوان أو «خور أبوسيدرة» أو صحراء «إدفو الشرقية»، لافتا الانتباه إلى أن السلاح كان يتم تهريبه فى الماضى عبر طريق الجبل الغربى الملىء بالمدقات والممرات الجبلية الضيقة إلا أن الشرطة أغلقت هذا الطريق وأحكمت السيطرة عليه.
من جانبه، اعتبر «م. ع. ح»- مدرس بمحافظة قنا- أن المحافظة بجميع مراكزها وقراها ونجوعها تتصدر قائمة محافظات الصعيد فى الاشتباكات القبلية التى تحدث من حين لآخر بين قبائل «الأشراف» و«الهوارة» و«العرب» التى تضم عائلات كبيرة لا يزال يوجد بينها حتى الآن صراع دامٍ راح ضحيته عشرات من أبناء هذه العائلات فى جرائم قتل وثأر عديدة.
وأضاف: إن أهل القتيل فى هذه الجرائم لا يوجهون الاتهام للقاتل، بل ينفذون قانونهم الخاص وهو الثأر الذى لا يسقط حقه بالتقادم حتى لو ظل القاتل مختبئاً أو مسجونا، حيث يبحثون عنه إلى أن يجدوه أو ينتظروه حتى يخرج من سجنه ليثأروا منه.
ورأى أن اللجان العرفية ولجان المصالحات كانت تساهم فى الماضى فى إنهاء الخلافات والخصومات الثأرية بين العائلات المتخاصمة، إلا أن دور هذه اللجان بدأ فى التراجع فى أعقاب ثورة 25 يناير وفى ظل تأثر الدولة بغياب الأمن لذلك انتشرت الأسلحة النارية التى يتم جلبها من دول الجوار مثل ليبيا والسودان، وبالتالى استغلالها فى الصراعات الدموية بين العائلات والقبائل.
وكشف عن نقطة مهمة بقوله: تجار السلاح فى قنا يستخدمون أسماء حركية للأسلحة التى يبيعونها فلا يتم البيع لأى زبون، خشية أن يكون مخبرا أو شرطيا، مبينا أن «الكلاشنكوف الألمانى» يطلقون عليه اسم «الضب» باعتباره بندقية آلية الصنع سريعة الطلقات بعيدة المدى ووصل سعره إلى 25 ألف جنيه، وهناك نوع آخر من الكلاشنكوف يطلقون عليه اسم «رجل الغراب» بسبب تكوينه من دفة حديد سهلة الطى يمكن إخفاؤها داخل الملابس بسهولة وسعره بلغ 14 ألف جنيه، والبندقية «خمسة وإحدى عشر» الألمانية الصنع يطلقون عليها اسم «العصاى» وسعرها 10 آلاف جنيه، أما مسدس «بربلوا» الألمانى الصنع فيطلقون عليه اسم «سلاح الأكابر» لكثرة الإقبال عليه من جانب كبار العائلات فى القرى والنجوع وسعره وصل إلى 12 ألف جنيه.
∎ اللى ما يشترى يتأجر
وأوضح: أن «الأسلحة أصبحت الآن يتم تأجيرها بأسعار فى متناول الجميع حيث يتم استئجار البندقية الآلى ب200 جنيه والطبنجة ب 100 جنيه فى الليلة الواحدة لإنهاء مهمة معينة غالبا ما تتعلق بخصومة ثأرية، وذلك فى ظل غياب أمنى ملحوظ ظهرت آثاره فى عدم القدرة على السيطرة على الاشتباكات القبلية التى يستخدم فيها السلاح المهرب بكل أنواعه، لدرجة استخدام الأسلحة الأكثر تطوراً مثل مدفع «آر . بى . جى» المضاد للدبابات والذى ارتفع ثمنه لأكثر من 40 ألف جنيه.
وخلص إلى القول إن مافيا الإتجار بالسلاح فى محافظة قنا يتمركزون فى مركزى نجع حمادى ودشنا، بالإضافة إلى قرى «السمطا» و«حمرة دوم» و«الحجيرات» و«أبوحزام» و«بهجورة»، ويتم إدخال ترسانة الأسلحة المهربة لمدن وقرى ونجوع المحافظة عن طريق صحراء «حجازة» أو «قفط» أو «جبل القناوية»، وغالبا ما يستخدم مهربو الأسلحة أنواعاً معينة من السيارات أهمها ذات الدفع الرباعى التى تصلح للسير فى الرمال والممرات الصخرية.