نائل عفيفى.. ذلك الشاب الذى يعد واحدا ممن أسميهم «المعينون على الحياة» فى هذا الوطن، هو واحد من أصحاب «البلد دى» الذين يملكون كلمة السر لفهم أو على الأقل شرف محاولة فهم هذه الحياة، هؤلاء البشر، الذين ننتمى إليهم وينتمون إلينا، ربما يجمعنا المكان، لكن تفصلنا عنهم غربة الجهل بهم.
نائل عفيفى.. الفنان والأستاذ الشاب الذي يراهن على أن يكون مشروعه الإنسانى والمهنى هو «التنمية الإنسانية بالفن.. بالموسيقى.. بالغناء.. بالتذوق.. بالمشاعر»! شاهدت نائل عفيفى منذ حوالى عام فى المؤتمر الرابع لتمكين الأسرة التابع لهيئة قرى أطفال مصر SOS. وهو برنامج تنموى رائع واستثنائى يهدف إلى تمكين الأسر غير القادرة والمرهقة اجتماعيا واقتصاديا وبيئيا، أن يمتلكوا ويتمكنوا من أبسط بديهيات حقوقهم وحقوق أسرهم وأطفالهم فى الحياة بداية من امتلاك حق المعيشة، التعليم، الصحة، التطور والرقى، فهم الحقوق والواجبات.. وكذلك تنمية الأطفال، فاقدى الرعاية الأسرية SOS وجمعيات أخرى فى القاهرة والإسكندرية من خلال التعليم والتمثيل والفن واكتشاف واحترام الذات. فى العام الماضى شاهدت حفلا موسيقيا للأطفال يغنون فيه أجمل وأروع الأغانى، يلقون شعرا، وكان ذلك العرض بالنسبة لى التجسيد الحقيقى لمعنى ومفهوم أن «يتغير الإنسان ويرتقى ويتطور». وشاهدت هؤلاء الأطفال والشباب الصغير الرائع هذا العام أيضا وهم يغنون أرقى الأغنيات الوطنية والأغانى ذات المعانى الراقية التى تمس الوجدان، هم لا يغنون فحسب، بل يشعرون بالإنجاز الفنى والوجدانى.. هم لا يؤدون دورا فى إلقاء الشعر أو الغناء المنفرد أو حتى الجماعى، إنما يعبرون عن نضج إنسانى يريدون أن يثبتوا به للعالم أنهم موجودون، أو على الأقل على الطريق الصحيح لاكتشاف الذات.. يخرجون طاقاتهم الإبداعية التى خرجت بمنتهى الصدق.. واكتشفت أنه على مدار العام قد حدث تقدم حقيقى وانتقل هذا الفريق الغنائى التابع لبرنامج التمكين SOS أنهم تطوروا وأن أرواحهم قد مستها روعة الفن وعمقه.. هم صنعوا نجاحا.. صنعوا نجاحهم وراء كل هذا.. ذلك الشاب الفنان نائل عفيفى الذى لا يمكن تلخيصه بأنه مجرد مدرس موسيقى، لكنه صاحب رؤية ورسالة إنسانية وفنية، لأن هدفه لم يكن - على حد تعبيره - أن يصنع إنتاجا فنيا، إنما يساهم بحق وبصدق فى إنتاج «طفل أو بنى آدم»، واثق من ذاته، يستطيع مواجهة الناس، يتمكن من كسر حاجز الخوف، الخوف النفسى والمشاكل الكثيرة المترسبة فى نفوس هؤلاء الأطفال بسبب ظروف حياتهم القاسية من فقدان رعاية وحنان وفقدان معنى للأسرة، ولكثير من القيم الغائبة، وكثير من الارتباكات النفسية والاجتماعية التى بلاشك ساهمت فى صناعة ذوق «مشوه» يشبه ذلك الارتباك والذى يعانى منه أغلب المجتمع. بعد أن تحدثت أكثر مع نائل عفيفى اكتشفت بالفعل أن ما نفتقده أو نعتقد أننا نفتقده فى هذا البلد هو بالفعل موجود، وهو الرؤية ولكن من لديهم رؤية وهدف وفهم لما يفعلونه، كثيرون ولكن علينا أن نبحث عنهم ونكتشفهم حتى لا نخسر! نائل عفيفى رغم أنه يعمل بشكل احترافى كمدرس فى إحدى المدارس الدولية، إلا أنه اختار بإرادته أن يعمل فى مجال العمل التنموى منذ عام 8002 وكأنه قد وجد ذاته فى ذلك العمل، فهو بدأ مع أطفال «مساكن الزلزال» فى المقطم مع إحدى الجمعيات الأهلية، وكان الأمر بالنسبة له أشبه بالتحدى، ثم بدأ العمل مع أطفال «إسطبل عنتر»، هؤلاء الأطفال الذين يعيشون فى ظروف اجتماعية وبيئية مهترئة، فهم يعيشون تحت خط الفقر فى أماكن محرومة من المياه الآدمية، محرومين من العيش فى بيوت مغلقة علي ذاتها، ولهذا وكما يقول نائل عفيفى: إن عملى مع هؤلاء الأطفال لا يعتمد على تعليمهم الغناء أو اكتشاف صوت جميل لأحدهم، ولكن الأهم هو «تعليمهم تذوق الحياة وفهمها» فهم وحب إنسانيتهم واكتشافها، تعليمهم الذوق والحس، وهذا لا يمكن تحقيقه بدون ارتياحهم النفسي لما يفعلون، لأن كلمة السر فى نجاح أي عمل فنى «لهواة أو لمحترفين» هو أن ما يخرج من القلب بصدق.. يصل إلى القلب»! ولهذا فإن علاقتى بهؤلاء الأطفال هى علاقة خاصة، فمن الممكن أن يكون زمن حصتى معهم ساعتين، قد نتحدث سويا فى أشياء كثيرة خاصة أو عامة نتحدث من قلوبنا لمدة ساعة ونصف الساعة، وربما «نشتغل» موسيقى وغناء لمدة نصف ساعة فقط، لأن الأهم هو أن نسمع ونشعر بإنسان يغنى، وليس بآلة تؤدى دورا!.. لقد لفت انتباهى أن نائل عفيفى أستاذ الموسيقى الشاب الذى تخرج فى أكاديمية الفنون قسم الموسيقى العربية متخصص فى العود والبيانو عام 2002، عندما يتحدث عن الأطفال لا يقول عنهم سوى «أولادى»، وقد فهمت لماذا يطلق عليهم هذا عندما شاهدته وهو يقود إدارتهم أثناء الحفل، فالروح التى تجمعهم به ليست علاقة أستاذ بتلاميذه فحسب، بل هناك اتصال وجدانى بينهم اتضح فى قيادتهم الفنية بمجرد النظر إليهم. يقول نائل عفيفى: أشعر بمسئولية تجاه «ولادى» مسئولية الحفاظ عليهم وتغيير درجة تذوقهم الفنى ما استطعت إليه سبيلا، بحيث يصبحون هم أصحاب التغيير لأنفسهم، وليس أنا، وهذه مهمة ليست سهلة، فالفن لا يمكن أن يأتى ويتحقق «بالعافية أو قسرا»، ولكن أن يحب الشخص الفن.. هو قرار ذاتى.. أن أنجح فى مجرد التأثير الإيجابى على «الولاد» بالفن وأن يكونوا أصحاب قرار فى البحث عن أغان رائعة ومهمة مثل أن تبحث فتاة مثل «نسرين» التى غنت أغنية لعمار الشريعى فى ذكراه، وأميرة عن أغنية لأحمد منيب أو تصر «هناء» على اختيار أغنية «ما تقولش إيه اديتنا مصر» لعليا التونسية وتصر على غنائها كاملة فى الحفل، أو أن تختار فتاة شعرا لتقوله لأنها شعرت به وتلقيه بمنتهى الروعة.. كل هذا هو قرارهم الشخصى، فالنجاح ينسب لهم.. وما أنا إلا جسر يحاول أن يصل بينهم وبين أنفسهم.. لأنهم إن لم يتمكنوا من الوصول إلى أنفسهم لن يتمكنوا من الوصول بغنائهم لأى إنسان. يقول الأستاذ نائل عفيفى بمنتهى الحب أنا على استعداد حقيقى أن أبقى مع «ولادى» فى هذا المشروع «الإنسانى والفنى والمهنى والإبداعى»، فهم أمانة، وهم أيضا يستحقون «السند والرعاية»... يكفينى والحديث ما زال لنائل عفيفى أن تقول لى الإخصائية والمشرفة النفسية أنها قد لاحظت تغيرا سلوكيا وتوازنا نفسيا ملحوظا لهؤلاء الأطفال، هذا هو تقديرى الحقيقى، أن أصنع أو أساهم فى تغيير إيجابى للأولاد.. فعندما أبذل مجهودا مع فتاة لكى تتعلم الحديث بصوت منخفض، أو أدربها بمنتهى الإصرار والحسم على الحديث بلياقة وأدب يتناسب مع الفتاة، وأن أمنعها من «الهزار الصبيانى» كل هذا يصب فى رسالة الفن.. رسالة «الذوق الإنسانى». هل عملك فى المجال التنموى مجرد محطة فى طريقك المهنى؟ - بحسم شديد يقول نائل: طريقى المهنى والفنى أصبح هو التنمية بالفن.. فهدفى هو أن أطبق الفن فى التعليم وفى نمط الحياة والتفكير على طريقة «المونتسورى» أى الاعتماد على الاكتشاف والعقل لا الاعتماد على الطريقة الأكاديمية والتحفيظ والتقليد، أحلم بأن نتمكن من تسخير الفن لصالح الحياة الآدمية الراقية، نمط التفكير المنهجى السليم، نحو التعامل مع الدين بطريقة وبقلب سليم. بالفن والموسيقى، يمكن أن نحبب الأطفال فى الصلاة وفى الصيام، بالموسيقى يمكن أن نعالج أضخم وأعقد المشكلات النفسية، بالموسيقى يمكن أن ننمى لدى الأطفال القدرة على البحث، على صناعة القرار والاختيار.. بالموسيقى وبالفن يمكن أن نحقق المعنى العميق لرسالة «التمكين» أن نتمكن من اكتشاف «إنسانيتنا» المدفونة تحت تلال من الإحباط والقهر والظلم والاكتئاب بالموسيقى، هو هدفى فى المستقبل، أن نعمم الفكرة ونصل إلى طاقة النور فى أطفالنا سواء كانوا فى المدارس الدولية أو المدارس الحكومية أو حتى إن كانوا يعيشون فى عشوائيات هذا البلد. هذا هو نائل عفيفى، واحد من أصحاب البلد دى، المعينين على الحياة أو إيجاد معنى لكثير من الأطفال والشباب الصغير بالاستمرار بحب وتفاؤل وسط ظروفهم القاسية.∎