الشوارع الهادئة الراقية التى اعتدنا عليها فى أحد أهم وأرقى الأحياء فى مصر منطقة مصر الجديدة انقلبت لساحة حرب وقتال أعادت للأذهان الصور المأساوية التى حدثت فى التحرير يوم 28 يناير و2 فبراير فى موقعة الجمل وجرت معها قصص رعب وفزع لأهالى تلك المنطقة فى محيط الاتحادية وروكسى والخليفة المأمون وشوارعها الجانبية، فالمظاهرة السلمية الراقية التى رأيناها فى اليوم السابق ما لبثت أن امتدت يد الغادرين لتقلبها لصور انقسام وعنف وقد كتبنا هذا الموضوع ليس باعتبارنا صحفيتين نؤدى عملنا ولكن بصفتنا شاهدتى عيان على يوم شائك للغاية باعتبارنا من سكان ميدان روكسى ولا يفصل بيننا وبين الاتحادية «مقر الرئاسة» سوى شارع واحد، وحيث امتزجت فيه عدة مشاعر.. الخوف والفزع والشعور بحتمية ما يحدث بعد قرارات وخطابات رئاسية أخيرة. فمنطقة روكسى كانت فى عهد النظام السابق نائية عن أى شكل من أشكال الاضطرابات والقلاقل وكنا نراها كالقلعة الحصينة باعتبارها على مقربة من قصر الرئاسة الشهير بالاتحادية وكذلك من منزل الرئيس السابق أيضا.
حتى فى يوميات ثورة 25 يناير لم نشعر للحظة بإحساس الرعب رغم وجود مناوشات والاشتباكات تقع فى شارع جسر السويس الذى لا يبعد كثيرا عن منزلنا.
لأول مرة نجد شارعينا شارع القبة وشارع المقريزى قد تحولا إلى جسر يعبر منه كل ذاهب إلى الاتحادية حيث ينتهيان بميدان روكسى «معقل الأحداث»، وبعد أن كانا شاهدين خلال ثورة يناير على تكاتف أبناء الشارع الواحد عندما نزل جميع الشباب والرجال لحماية بيوتهم وأولادهم ونسائهم فى «اللجان الشعبية».
أصبح الآن ممرا لتجمعات من عشرات الأشخاص تمر به وهى تدب الأرض برجلها تهتف «دب الأرض تولع نار» إسلامية إسلامية رغم أنف الليبرالية» «اضرب اضرب فى المليان» يفصل بين كل مسيرة والأخرى عدة أمتار قليلة ليمتد حتى نهاية الشارع.
وعندما تطل من شرفة المنزل على الشارع تجد أنه خلا تماما من السيارات إلا من سيارات الإسعاف ومجموعة كبيرة من المارة يتحركون ذهابا وإيابا لا تستطيع أن تفرق بينهم سوى بالشعارات التى يرددونها وقتها تعرف إن كان هؤلاء «إخوان» مؤيدون لقرارات الرئيس أو متظاهرون معارضون لقراراته.
وعلى «الرصيف» أقيمت ثلاثة مستشفيات ميدانية لا تفصل بينها إلا أمتار قليلة، فضلا عن المستشفى الميدانى الرئيسى عند بوابة نادى هوليليدو، أصوات الهتافات تعلو مع كل كر وفر من الشارع وإليه، «أنا مش كافر، أنا مش ملحد، يسقط يسقط حكم المرشد»، أصوات الموتوسيكلات تعلو بالنفير تفتح لها ممرا لإيصال مصابين إلى المستشفى الميدانى، عربات الإسعاف ترجع إلى الخلف مع كل ازدياد فى أعداد المتظاهرين، أصوات القرع على الحديد، دخان القنابل المسيلة للدموع يغطى الأجواء ليصل إلى بلكونات المنازل حتى الأدوار العليا وترى الضوء الأحمر للنار المشتعلة من زجاجات المولوتوف الملقاة.. شهادات حية من هؤلاء الأسر اختلفت مشاهدتهم ووجهات نظرهم حول أسباب فزعهم ولكن العامل المشترك بينهم هو القلق والفزع والغضب. ∎ ساكن وشاهد من شارع بغداد بالكوربة يتكلم محمود النويرى الذى يسكن هناك ودفعه الفضول للنزول يومى 4 و5 ديسمبر بالقرب من قصر الاتحادية وحدث ما حدث ويصف ما رآه قائلا: «على عكس يوم الثلاثاء من سلمية وهدوء فى المنطقة لم ترهبنا كساكنين هناك، أما يوم الأربعاء وجدت من كان ينادى قائلا «الله أكبر..الله أكبر» فيتجمع حوله بعض الناس ويهجمون على المتظاهرين السلميين وبعضهم شد بعض المتظاهرين وضربوهم بالخشب وركلوهم بأرجلهم وهنا عدت لبيتى وطلبت من أولادى عدم النزول لأى سبب كان ولا حتى للمدرسة لأنى لن أنسى ما حييت منظر العنف والدماء الذى رأيته الذى كرهنى فى الدنيا كلها».
أما ليلى التى تسكن فى شارع الميرغنى فقد حبست أنفاسها من بلكونة بيتها عندما شاهدت هروب شباب وبنات من المتظاهرين محذرين أن هناك رجالا بأسلحتهم النارية والمولوتوف يطاردونهم وتقول: «ودخلت وأغلقت الشبابيك والبالكونات وسط أصوات ضرب النار المرعبة وتكسير زجاج علمت بعد هذا أنه تكسير للسيارات وزجاج محلات وروائح الحريق، فى كل مكان ولزمت البيت وعندما صمم ابنى فى اليوم التالى على الذهاب لكلية الهندسة لامتحانه فوجئ بأنه الوحيد الذى ذهب للجامعة ولم يمتحن، وللأسف توقفت حياتنا بالكامل، لم أكن أتصور عندما اخترت مرسى رئيسا أننا سنعيش نفس السيناريو من الديكتاتورية والاحتقان لدى الشعب وأن يتكرر الحزب الوطنى على يد الإخوان من الاستقواء على الناس، والغريب أن هناك جيراناً لنا نزل أولادهم الاتحادية ويؤكدون أن الإخوان قاموا بتعذيب المتظاهرين كما كان أمن الدولة يعذبهم».
«عربيات الإسعاف وصوتها لا تفارق مخيلتى» هكذا بدأت معى حديثها دعاء عبدالحميد التى تسكن مقابلة لمستشفى منشية البكرى بمصر الجديدة ومناظر القتلى والمصابين كانت بطل ذلك المشهد وتقول: «جارى كان من المتظاهرين عند الاتحادية مع زملائه وسقط زميله بجانبه برصاصة فى رقبته ومات على يده وزميل آخر أصيب برصاصة فى صدره ويؤكد أن الإخوان هم من بدأوا الضرب فى المتظاهرين السلميين حتى عندما رد عليهم المتظاهرون الضرب وسقط من جانب الإخوان مصابون وطلبوا نقلهم للمستشفى رفضوا نقلهم ونحن الآن نعيش القلق والاضطراب وابنتى فى أولى ثانوى فى مدرسة مصر الجديدة النموذجية، وابنتى الصغرى فى الصف الثانى الابتدائى فى مدرسة قومية الأهرام، والمدرستان فى محيط الاتحادية وهذا الأسبوع كله إجازة وإذا استمر الوضع ستتم أخذ خطوة المدارس البديلة، والعنف الذى بدأه الإخوان هو ما وضعنا فى هذه اللخبطة لأن التظاهر والاعتصام السلمى لا يوقف الحياة ويملأها بالقلق كما هو الحال الآن».
∎ وسط الأحداث أسرة الدكتور محمد أمين تعيش الرعب والخوف من إحدى العمارات التى تطل على ميدان روكسى يقول: «صوت ضرب النار طول الوقت أرهب أولادى الصغار ومشهد جرى الناس بعشوائية وفزع جعلنى أغلق الستائر أمام أولادى وأتابع الموقف من شباك غرفتى كأنه يوم الحشر كل واحد يجرى لينفد بعمره رأيت شبابا صغيرا مجروحا فى رأسه وفى وجهه وخائفاً مشهد لن أنساه فى حياتى ليس هذا ما رأيته اليوم السابق الذى كانت تسير فيه مسيرات مليئة بالأطفال والنساء والشباب ولم يعكر شىء مظهرها المتحضر، أولادى فى المرحلة الابتدائية فى مدرسة خاصة بمدينة نصر لم أستطع أن أتركهم يذهبون وعرفت أن كل أولياء الأمور كذلك لم يبعثوا بأولادهم حتى البعيد منهم عن محيط الاتحادية حتى أنا لم أذهب للعمل وزوجتى الصيدلانية لم تنزل لصيدليتها بجانبنا لا أعرف ما يحدث هذا لمصلحة من؟ ولأجل ماذا، لماذا العنف فى عصر رئيس انتخبناه بإرادتنا وكان الواجب أن نضع أيدينا معا لبناء هذا البلد ولكن ما حدث هو العكس انقسام وغوغائية وتأخر فى ردود الأفعال واتخاذ المواقف كالنظام السابق تماما».
∎ خوف وإحباط خليط من مشاعر الخوف والإحباط هى الحالة التى وصفت بها الدكتورة إكرام سيف النصر التى تسكن فى شارع المقريزى الموازى للخليفة المأمون حالتها وتحكى «لا أرى منطقة الاتحادية من بيتى ولكن عربات الإسعاف لم تنقطع يوم الأربعاء عن مستشفى منشية البكرى الملاصقة لبيتى ومشهد جرى الناس وفزعهم وأصوات ضرب النار استمر لأوقات طويلة وطلبت أنا والسكان من البواب غلق بوابة العمارة خوفا من القلق والاضطراب فى الشارع فقد اتصل بنا ابن جارتى من منطقة الاتحادية وحذرنا من هجوم الإخوان على معارضى الرئيس وأنهم يتجمعون أمام نادى هوليليدو وينوون القضاء على المتظاهرين ولا تتدخل الداخلية وأن الشوارع القريبة من الاتحادية نزل السكان فيها ليكونوا لجانا شعبية للتصدى لأى انفلات أمنى والحال الآن كما هو لا وجود إلا للمتظاهرين فى الشارع الناس هربت، والساكنون لا يرغبون فى النزول حتى المدارس أخذت إجازة هذا الأسبوع وتحولت الطرق وللأسف شوهوا أحلى شوارع مصر بهمجيتهم وتطرفهم».
∎ اضرب اضرب فى المليان السيدة هدى توفيق (25عاما) أم لشاب وفتاة فى العشرينيات من عمرها تقول: «أنا كنت هاموت من رعبى وخوفى، لأول مرة أخاف على أولادى بهذه الدرجة.. أنا من سكان ميدان روكسى ويبعد منزلى عن موقع الاشتباكات حوالى 002 متر لا أكثر وابنتى كانت خارج المنزل وحدثتنى أنها عائدة من عملها، ولكن الطريق كان مغلقا لأن جميع الطرق المؤدية إلى المنزل إما مكدسة بالمتظاهرين القادمين فى المسيرات المنطلقة من عدة مناطق، وإما أن الطرق الأخرى كان بها اشتباكات بين الفريقين.. ولأن الشائعات تلعب دورا كبيرا فى مثل هذه الأوقات. فوجدت إحدى صديقاتى تحدثنى لتطمئن علىّ وعلى أبنائى فى ظل هذه الأحداث ووجدتها تقول لى أن بعض الإخوان يعترضون الفتيات وهن فى سياراتهن.. فجن جنونى خفت على ابنتى لا «تجينى جثة».. فضلت اتصل بها طول الوقت وعرفت منها أنها بأمان وأن الشارع الذى يوصل بينها وبين المنزل مزدحم ويسير بالكاد لأن الشارع المقابل له مغلق وظللت ساعة ونصف على نار لم تنطفئ إلا برؤية ابنتى..». ∎ لم أخف نيفين ممدوح (25 عاما) ابنة السيدة هدى روت لى قصتها قائلة: «أنا لم أشعر بالخوف طوال طريقى ولكن ارتجف جسمى رعبا بمجرد دخولى على الشارع الجانبى المؤدى للمنزل فقبل أن «أركن سيارتى» فوجئت بمجموعة من الشباب يعترضون طريقى وفى يدهم شوم وعصى، والحقيقة أننى لم أستطع أن أحدد هويتهم إن كانوا ثوارا أم إخوان ويحزننى أن أقول ذلك فأنا لا أحب أن أقسم كلامى البلد إلى قسمين.. المهم وقتها شل تفكيرى من الخوف ولم أعرف كيف أتصرف وفجأة قال لى أحدهم ارجعى من هنا الطريق على اليمين مقفول فيه ضرب نار ومولوتوف.. فقلت له وأنا أكاد أبكى: «دعنى أعبر الطريق فمنزلى آخر الشارع وهاركن العربية وأمشى» قال لى: «بلاش اركنيها هنا وأمشى على رجليك لغاية البيت»... طبعا مابقتش عارفة أعمل إيه.. هل أسمع كلامهم وأمشى فى وسط الضرب والاشتباكات ولا أضرب بكلامهم عرض الحائط وآخذ سيارتى وأنطلق نحو المنزل وأركنها هناك؟ الخوف الأكبر كان من سماع صوت النار والرصاص الحى وحسيت أننا فى حرب مش مجرد مظاهرة عادية.. قررت أسمع كلامهم وقلت أكيد هم سيحموننى من أى اعتداء شكلهم ولاد ناس واقفين يعملوا لجان شعبية ويحموا المنطقة... وقتها تذكرت روح الثورة التى جعلت من أهالى الشارع الواحد الذين لا يعرفون بعضهم أعز أصدقاء وصحبة.. المهم ذهبت مسرعة إلى منزلى ووجدت أبى وابن خالى ينتظرانى فهدأت.
∎ ليلة مرعبة مروة حسام (28 عاما) تقول: «قضيت ليلة مرعبة لم أستطع أن أنام ولو للحظة.. صوت الأعيرة النارية فى كل مكان.. لا تستطيع أن تحدد جهة الصوت.. طول الليل وأنا لم أستطع أن أغمض عينى ومن شدة خوفى طلبت من أختى الكبرى أن تنام إلى جوارى.. صوت دوى الطلقات من كل حدب وصوب.. كان أمام المنزل أعمال حفر لتعديل مسار الصرف الصحى وفى هذا اليوم المشئوم كنا نسمع باستمرار صوت «جرجرة المعدات الحديدية التى كانت تستخدم فى أعمال الحفر، حيث كان يستخدمها الثوار كدروع لحمايتهم.. كان صوت «جرجرتها مع دوى الرصاص» بالنسبة لى أشبه بدق طبول الحرب.. وكنت عندما أحاول أطل من شرفة المنزل كانت والدتى وخالتى تمنعانى، حيث أشيع فى الشارع أنه من الممكن أن تخترق أى رصاصة طائشة شباك المنزل وتصيبنى.. كانت ليلة لن أنساها طالما حييت.∎