هيا بنا نهرطق هذه سلسلة مقالات سوف أسرد وأسجل فيها بعض الهرطقات الطنطاوية علي دفتر الفتنة الدينية الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وأسميتها هرطقات طنطاوية نسبة لكاتب هذه السطور المهرطق (نهرو طنطاوي)، ولكن قبل أن أدخل إلي الجانب الديني أود بداية أن تكون مقالات هذا الأسبوع عن تعاطي الإعلام بجميع أشكاله مع ملف الفتنة الدينية الطائفية، لأسجل عليه بعضًا من أخطائه وخطاياه وهي كثيرة في تناوله لهذا الملف الخطير. أما الهرطقة كمفهوم فهي محاولة جديدة وجريئة لإعادة تجديد فهم أو تجديد عدة مفاهيم في عقيدة أو منظومة معتقدات جامدة راسخة ثابتة، بإدخال مفاهيم فكرية جديدة عليها تخالف المفاهيم الراسخة العتيقة، وقد تؤدي هذه المفاهيم إلي إنكار أجزاء أساسية من المعتقدات الأم بما يجعلها بعد التغير غير متوافقة مع المفاهيم القديمة للمعتقد. ومصطلح (الهرطقة) إن كان له خلفية مسيحية نشأ فيها، فإن مدلول الهرطقة يستخدم في سياق جميع العقائد وليس المسيحية فحسب، ففي التراث الإسلامي مثلا تستخدم مصطلحات ك (الزندقة) و(البدعة) بدلا من مصطلح: (الهرطقة) للدلالة علي المعني ذاته، فيما يتعلق بمحاولات التجديد في فهم العقائد الإسلامية الثابتة. وفي الغالب الأعم لا يصفُ من يعَدُّون هراطقةً آراءَهم علي أنها هرطقات، بل إن من يوصفون بأنهم هراطقة يرون أنفسهم علي أنهم إصلاحيون أو مجددون أو أنهم ينَقُّون العقيدة ويخلصونها مما شابها، أو أن فهمهم لها هو الفهم الصواب الذي انحرفت عنه الجماعة الأم. والهرطقة في الغالب الأعم لا تأتي إلا بخير حتي إن ناوءها الناس في بداياتها وناصبوها العداء، فكم من هرطقة قيلت كشفت لنا علما ما، أو حقيقة ما، وكم من هرطقة قيلت كانت سببا في تقدم أمم وشعوب وحضارات، أولم يتهم العالم الفذ (جاليليو) من قبل الكنيسة الكاثوليكية الغربية بالهرطقة عندما قال: إن الأرض ليست مركز الكون وما هي سوي كوكب يدور حول الشمس؟ وغيره من المهرطقين العلماء الذين أثروا البشرية بهرطقاتهم (علومهم واكتشافاتهم)، وأولم يتهم الفيلسوف العبقري (ابن رشد) بالزندقة والردة حين انحاز إلي العقل في فهم النصوص الدينية وتم إحراق كتبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية داخل بيته حتي مات؟ ثم تهافت العالم الغربي فيما بعد علي كتبه وشروحاته لكتب أرسطو يترجمونها ويقرؤونها ويدرسونها في مدارسهم وجامعاتهم حتي كان لها الفضل العظيم والكبير علي تقدم وازدهار الحضارة الغربية في شتي المجالات. حتي إن كان المهرطقون قد وضعت رقابهم علي المقاصل، أو علقوا علي أعواد المشانق، أو تم إجلالسهم علي الخوازيق، أو تم إسالة أجسادهم في أفران الغاز، إلا أن هرطقاتهم استحالت إلي علوم ونور تهتدي به البشرية فيما بعد. لذا فكلمة (هرطقة) ليست وصفا موضوعيا وإنما تنطلق من وجهة نظر من يستخدمها، فالانتماء إلي أي جماعة بشرية كانت قد اتفقت فيما بينها مسبقًا علي ما هو صحيح وملتزم بالأصل، فكي يوجد فرد داخل هذه الجماعة أو تلك يمكن وصفه بالمهرطق فإنه يجب أن يسبقه وجود نظام راسخ من المعتقدات (دوجما)، والخلاصة إن كلمة (هرطقة) تستخدم لوصف أي رؤية لا تتوافق مع الراسخ في أي مجال. ومن هذا المنطلق أقول: إذا كنا نحن المصريين نعي تمام الوعي أن هذه الفتنة الخطيرة التي توشك أن تدمر الوطن وتشتت شمله وتهدم أركانه، وإذا كنا قد اتفقنا منذ أربعين عاما علي معتقدات رسخت في نفوسنا ورؤوسنا تقول إن الإرهاب والتطرف والتمييز الديني والمناهج الدراسية وعدم السماح ببناء الكنائس وانتشار التيارات الدينية المتطرفة وعدم تجديد الخطاب الديني، جعلتنا نعاني كل هذه السنين من هذه الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وملأت النفوس عدوانا وعداء وشحا وكرها وبغضا من كل طرف تجاه الآخر، وعملت علي إيجاد حالة مفزعة من الاستقطاب والاستقطاب المضاد، ترجمته أحداث عنف إجرامية حصدت العشرات من أرواح الأبرياء من المسيحيين. إلا أن هذه المعتقدات القديمة الجديدة لم تثمر هدوءًا ولم توقف نزيفًا ولم تغسل قلبا من أدرانه، أو لم يثبت لنا جميعا كمصريين وأولم نتيقن بعد بالبرهان الواضح والتكرار الحرفي والحجة البالغة بعد حادث الإسكندرية أن معتقداتنا ومفاهيمنا هذه باتت عتيقة بالية باهتة مملة أكل عليها الدهر وشرب، وأولم يأن لنا الآن أن نتحلي بالجدية والمسئولية والصدق والإخلاص وأن نبحث عن مفاهيم جديدة حول الأسباب والجذور الحقيقية لهذه الفتنة الدائمة المستمرة. ونطلق العنان بمسئولية لنهرطق في معتقداتنا القديمة حول أسباب هذه الفتنة العمياء التي لن تبقي ولن تذر إذا ما أفلت زمامها وانهار سدها، والتي لا أري حادث الإسكندرية الأخير هو آخر أحزانها ولا أتمني ذلك، فهيا بنا نهرطق علنا نكتشف شيئا جديدا يعيننا علي وأد هذه الفتنة، ولو أغضبت هرطقاتي مني البعض أو استفزتهم أو أوغرت صدورهم ضدي، فلا بأس، فأنا أملك من الجرأة والشجاعة أن أسمي الأشياء بمسمياتها وأن أضع أصبعي علي موضع الألم في الجانبين، لأنه حين لا يفلح دواء في علاج جرح فليكونن آخر الدواء الكي.