من الأخطاء الجسيمة والفادحة التي يتعاطي بها الإعلام مع أحداث الفتنة الطائفية، تقديم بعض النماذج من الشخصيات المسلمة والمسيحية المسالمة (الطيبة) علي أنها مثال يجب أن يقتدي به في علاقة الإنسان بالدين أو التزام الإنسان بالدين، ويتم التركيز والإلحاح بصورة مستمرة علي أن هذه الشخصيات النموذجية المسالمة التي يقدمها الإعلام للناس هي التي تمثل حقيقة الدين في الجانبين أو هي النماذج التي ينبغي أن يمتثل ويقتدي بها كل الناس، إلا أن تسطيح الأمر وتعميمه بهذه البساطة وفرضه علي الناس بهذه السذاجة يضرب لدي الناس المصداقية الإعلامية في معالجة هذا الملف برمته، ويخصم كثيرًا من رصيد الجهود الإعلامية لمعالجة واحتواء هذه القضية الخطيرة، خاصة إذا كان يراد بهذا التبسيط والتسطيح المخل الهروب من المواجهة مع الأسباب الحقيقية للاحتقان الطائفي، والهروب من فتح الجراح وتنظيفها وإخراج ما بها من تقيحات وصديد إن كنا حقا صادقين في معالجة الأمر معالجة حقيقية جادة. ما يجب علينا إدراكه جيدًا أن علاقة المسلمين والمسيحيين المصريين بالدين مثلها مثل علاقة أي جماعة بشرية أخري بالدين، وليس بالدين فحسب، بل وعلاقاتهم بالسياسية والاقتصاد والثقافة والقومية والقبلية، فنري منهم المتعصب والمتطرف دينيًا، ومنهم المتعصب والمتطرف سياسيًا واقتصاديًا وقبليًا ومنهم المتسامح دينياً، ومنهم المتسامح سياسيًا واقتصادياً واجتماعيا وقبلياً، ومنهم من لا يعني الدين له شيئاً علي الإطلاق، كما أن منهم من لا تعني له السياسة أو العلم أو المعرفة أو الثقافة أو غيرها شيئاً علي الإطلاق، ولا يهمه سوي شأنه الشخصي الخاص وشأن أسرته وذويه، ومنهم من يستخدم الدين لأغراض سياسية، ومنهم من يستخدم الدين لأجل تحقيق الزعامة وإشباع شهوة السلطة، ومنهم من يستخدم الدين لأغراض وأهواء شخصية ومالية وشيطانية ودجلية وشعوذة، ومنهم من لا يدري عن الدين والدنيا شيئاً سوي أنه يعمل ويأكل ويشرب ويتناسل ويعرف الله بذلك المفهوم البسيط للإله الذي لدي الفلاح الأمي والعامل البسيط وربة المنزل التي لا تقرأ ولا تكتب، من دون أدني علم أو معرفة بأي تصنيف أو تعقيد عقيدي أو فلسفي أو أكاديمي. فهناك خطئان رئيسيان لا ينتبه لهما من يتعاطون إعلامياً مع الفتنة الطائفية في مصر، الأول: عدم وجود المعرفة الحقيقية بتلك الحساسية المفرطة التي يولدها الشعور الديني لدي كل المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ، وأنها جزء أصيل من تكوين النفس البشرية، إلا أن هذه الحساسية تتفاوت طبقاً لنوعية جرعة المعتقدات والمفاهيم الدينية لكل إنسان علي حدة، أو لكل مجموعة بشرية علي حدة. فهناك من ينفعل مع الشعور الديني طبقاً لكم وكيف معتقداته الدينية التي ترسخت بداخله، فقد نجد مثلاً شخصاً ثريًا أو سياسياً أو عالماً أو فقيراً أو أمياً قد رسخت بداخله مجموعة من المعتقدات الدينية التي ولدت لديه حساسية دينية تدعوه للتطرف في التعاطي مع الأمور الدينية، وعلي الجانب الآخر قد نجد شخصاً ثرياً أو سياسياً أو عالماً أو فقيرًا أو أمياً لديه من المعتقدات الدينية التي لا تثير حساسيته وتطرفه في التعاطي مع الأمور الدينية، فكلا النموذجين يخضعان لسلطان الدين وفقاً لما قد تم تحصيله وتجرعه من معتقدات قد تحركه تجاه التطرف الديني أو المسالمة الدينية، ففقدان الإعلام لهذه الحقيقة المعرفية البديهية تجعل معالجته لملف الفتنة الطائفية في أحسن حالتها معرفة سطحية ساذجة. الخطأ الثاني: يكمن في أن الإعلام والمهتمين بهذا الملف يقدمون نماذج من الصنف الذي حصل علي جرعة من العقائد والمفاهيم الدينية التي لا تحمل ولا تثير تلك الحساسية المفرطة والمتطرفة تجاه التعامل مع الأمور الدينية، يقدمونها علي أنها النماذج الأمثل لفهم الدين والالتزام الديني، لكنهم لا يدركون أن نموذجية ومثالية هؤلاء الأشخاص ليست نابعة عن فهم حقيقي سليم للدين، إنما في الحقيقة هم أشخاص ربما يكونوا قد حصلوا علي جانب واحد فقط من جوانب العقائد والمفاهيم الدينية المتعددة، فاكتفوا بها ولم يخوضوا في تجارب تحفزهم وتدفعهم إلي التعرف علي الجوانب الدينية الأخري التي لم ينتبهوا إليها، وألهتهم أمور الحياة الأخري عن الاهتمام بها، وهذا لا يعطي لنا الحق في الحكم علي هؤلاء الأشخاص بأنهم نماذج مثالية طيبة ومسالمة، لأننا لا نعرف حين سيحصل هؤلاء المثاليون الطيبون المسالمون علي قدر ما من المعرفة والمفاهيم الدينية التي لم يسبق لهم معرفتها وتحصيلها من قبل، هل ستظل هذه النماذج علي نموذجيتها ومثاليتها ومسالمتها أم ستتحول في الاتجاه الآخر؟، إذن فمن الخطأ الجسيم في التعاطي الإعلامي مع هذه الأزمة الخطيرة أن يجلب القائمون علي الإعلام إلي برامجهم بعض النجوم والمشاهير وعلية القوم في كل مجال الذين أغلبهم يكونون من الذين يرفلون في بحبوحة الدنيا ورغد العيش وترف الحياة، هذا وناهيك عن أن علية القوم الذين يتم جلبهم إلي الإعلام لتحليل موضوع كموضوع الفتنة الطائفية في أغلبهم لا تعني لهم المشاعر الدينية كثيراً ولا توجعهم الآلام الدينية كثيراً. كما تعني وتؤلم عامة الجماهير من البسطاء والعامة، الذين يمثل الدين لديهم الملجأ والملاذ الوحيد والأخير، أما علية القوم فملاذاتهم كثيرة وملذاتهم أكثر، وبالتالي فهم لن يتحسسوا جيدًا الخلل الحقيقي في الأسباب الحقيقية للمشكلة، إن النموذج المثالي والحقيقي الذي يجب تقديمه في تحليل هذه الأزمة يكمن فيمن لديهم المعرفة والإلمام الكامل بكل الجوانب الدينية والعقيدية لتحليل أسباب الأزمة ووضع الحلول لها بعقلانية ومنهجية علمية حقيقية متفق عليها من الجميع.