الشاعر الكبير الراحل صلاح عبد الصبور شاهد، وهو في الهند، عرضاً مسرحياً للشاعر الهندي القديم «كاليداسا» وكان من قبل قد قرأ نص المسرحية الشعرية الكلاسيكية، وهي «شاكونتالا» أو «الخاتم المفقود» وهي من المسرحيات الهندية المحظوظة التي ترجمت إلي اللغات الأوروبية المختلفة، كما ترجمت إلي اللغة العربية في زمن مبكر حيث ترجمها شعراً وديع البستاني ابن عم البستاني مترجم الالياذة.. ولكن الترجمة العربية، جاءت علي حد تعبير شاعرنا الكبير، تزيدنا جهلاً بالمسرحية لصعوبة مفرداتها فضلاً عن شعرها المتقعر الثقيل.. وهذا ما دفع شاعرنا لقراءة ترجمة إنجليزية لهذه المسرحية استمتع بها وذهب إلي المسرح وهو مبتهج النفسي يتوقع مشاهدة عرض مسرحي رائعاً، ولكنه ما لبث أثناء العرض أن أحس بأن هناك شيئاً ما يحول بينه وبين الاستمتاع بهذا العرض الأصيل الذي حرص صانعوه (المخرج والمؤدون) علي روح المسرح القديم وطابعه الشرقي التقليدي الذي استلهم فنياً جذوره من تقاليد ومظاهر هندية خالصة ويبتعد عن تقنيات العرض المسرحي المألوفة، التي اعتاد شاعرنا علي الاستمتاع بها.. هذه التجربة دفعت شاعرنا الكبير إلي التأمل والبحث في هذا الأمر. فالمبدعون الكبار من أمثال صلاح عبد الصبور لا تمر الأمور أمامهم مرور الكرام بل ينشغلون بها وتتفجر خلالها عشرات الأسئلة والقضايا وهو ما حدث في هذه الحالة حيث أفضي تأمل عبد الصبور إلي قضية فكرية وفنية عامة وتساؤل شامل طرحه في أواخر السبعينيات وهو أي السبيلين يختار مسرحنا نحن في مصر؟ هل يعود باحثاً في أصوله؟ أم يحاول تأصيل لقائه بالمسرح الاغريقي - الأوروبي؟ وانتهي بعد بحث ومناقشة إلي الظن بأن مسرحنا المصري ليس في حاجة إلي التوفيق بين «الأصالة» و«المعاصرة»، ولكنه في حاجة إلي الجمع بين الكلمتين في أقنوم جديد هو «أصالة المعاصرة». وقد استوقفني هذا التساؤل البديع لشاعرنا والذي نبع بلا شك من احساس مرهف بأهمية البحث في مستقبل المسرح المصري وعلاقته بالهوية الثقافية القومية وبمنجزات المسرح الأوروبي الفكرية والفنية والتقنية.. وهو تساؤل مستمر تناقلته أجيال المسرحيين منذ زمن.. وقد وضع شاعرنا الكبير يد المسرحيين علي جوهر القضية وهو تأصيل اللقاء بين ما تطرحه الجذور والأصول من موضوعات وقوالب مع المسرح الأوروبي والاستفادة من مناهجه وأساليبه وتقنياته المختلفة باعتبار أنها جميعاً تنتمي إلي أصل واحد قديم. ولا يري عبد الصبور في الأشكال التراثية القديمة خلاصاً لمسرحنا المصري إذا قدمناها كما هي (إعادة إنتاج التراث كما هو في حالة فولكورية متحفية).. وهو يري أن بعض عناصر التراث الشعبي القديمة، مثل العنصر الحكائي القديم، قد ألقي ظلاله علي مسرحنا المعاصر «فمعظم مسرحياتنا كثيرة التفاصيل كأنها حكاية تروي لا مسرحية تقدم علي خشبة مسرح. ذلك لأن العنصر الحكائي بما فيه من اتساع وتكرار غالب عليه.. ومعظم مسرحياتنا الكوميدية يغلب عليها طابع التنكيت اللفظي.. وذلك لتسلل روح الأراجوز وخيال الظل فضلاً عن الطول المزعج والارتجال وذلك لغلبة فن المهرج صاحب السهرة علي فن الممثل الشريك في السهرة». إن عبدالصبور وهو يدرك أهمية التراث الشعبي والثقافة الشعبية في صياغة مستقبل المسرح في مصر يري ضرورة الدخول في جدل واسع مع هذا الموروث بهدف تنقيته من بعض الشوائب واستلامه بروح معاصرة لا تغفل التأثيرات الثقافية الأخري المحيطة وإنما تستفيد بالنافع منها وتستغني عن الضار.. إنها حالة جدلية شاملة تضع في اعتبارها شروط الواقع الحالي ومتطلباته لا تقدس القديم وفي نفس الوقت لا تستبعده لصالح وافد جديد براق. يقول الأستاذ الدكتور عبدالحميد يونس: «إن التمثيل باعتباره فنا جماهيريا لم يستطع أن ينسلخ من وجدان الشعب أو مزاجه، بالإضافة إلي أن الشعب لم يكن يريد من التمثيل مجرد التسلية والترفيه وإنما كان يريد بعث المجد القديم من ناحية ونقد الحاضر الاجتماعي والسياسي من ناحية أخري». القضية إذن في أهمية الماضي والحاضر معا دون مصادرة لأحدهما لحساب الآخر فالغرق في التراث وغياب الوعي بالحاضر إشكالية كبري والدعوة لمقاطعة التراث وإلقائه خلف ظهورنا وعدم التلفت للوراء والنظر إلي المستقبل إشكالية أكبر تفقدنا الهوية الثقافية وتدفعنا في الذوبان في الآخر ونحن فاقدون لملامحنا القومية التي لا غني عنها للدخول إلي المستقبل ومن هنا تكتسب دعوة شاعرنا الكبير أهميتها حيث يدعونا لتأصيل اللقاء مع المسرح الأوروبي بعيدا عن الذوبان فيه وعن الانكفاء علي الذات في آن واحد.. وقد أشار لنا عبدالصبور إلي الأصل الواحد القديم.. ولهذا حديث آخر