.. هكذا الحال دائماً، ما ان تلوح في الافق ظاهرة بعيدة عن ديارنا، الا ويبادر البعض بتمجيدها، والتغني بفضائلها ومميزاتها، وآثارها الايجابية، ومدي التقدم الذي سيحدث بسبب اكتشافها، بل ويطل علينا البعض منا يشيدون بمحاسنها، والثورة التي احدثتها في العالم كله، وقطار التقدم الذي يجب ان نسارع باللحاق به قبل ان تفوتنا عرباته المنطلقة بسرعة، ويسارع بعض فاقدي الرؤية - للدلالة علي حداثة تفكيره ومواكبته للتقدم الحادث امامه بالغاء كل ما هو واقع، ويحاول ردم التراب علي الانجاز الحاضر بما فيه من عمل متميز وجهد ومجد وتاريخ، ليس عن اقتناع أو ادراك، بل يكون السبب هو محاولة تسلق موجة الظاهرة الجديدة ليكون له صدارة تقدم المسارعين اليها بلا وعي أو تفكير .. وحقيقة الأمر ان مكان فاقد الرؤية هذا كان - وسيظل - في اسفل ذيل قائمة الذين ينتمون الي مهنة الصحافة العريقة، هذا ان كان من المحسوبين في تعدادها من الأصل .. فما ان ظهرت المواقع الاخبارية التي تبث اخبارها وموضوعاتها علي شبكة الانترنت العالمية، وهي المواقع التي تتناقل الأخبار بين بعضها البعض، فلا تعرف اصل أو مصدر اي خبر من يكون صاحبه ومن الذي نقل عنه، حتي سارع البعض باطلاق اسم الصحافة الالكترونية علي كل هذه المواقع بلا استثناء .. لتفقد كلمة الصحافة علي ايديهم اساس مصداقيتها التي بنت عليها تاريخها العريض المشرف، وما هذا الأساس الا تحمل المسئولية القانونية لنشر الأخبار علي العامة من القراء - أو المتصفحين بلغة الانترنت - وعليه، تاهت مسئولية النشر بين عشرات ومئات المواقع الناقلة للاخبار في الفضاء الفسيح دون ضابط أو رابط !! واذا كان اصدار الصحيفة الورقية يستلزم اجراءات قانونية وتنظيمية محددة للحصول علي الترخيص الرسمي من الجهات المسئولة بالدولة ، فان اصدار صحيفة الكترونية ونشر محتوياتها علي شبكة الانترنت لا يستلزم كل الاجراءات التي تستوجبها الصحيفة الورقية، كل ما يلزم للاصدار هو فقط تقني ماهر - لا يشترط ان يكون دارساً للعلوم التقنية أو حاصلاً علي شهادة دراسية فيها يقوم بتصميم الموقع وتصنيف أبواب اخباره المتنوعة، وليبدأ بعد ذلك اي شخص في نشر ما يحلو له من اخبار أو موضوعات او حتي صور فوتوغرافية لأحداث أو اشخاص .. ولا احد من الاف المتصفحين يعلم ان كانت تلك الاخبار والموضوعات حقيقية أو ملفقة، ولا احد يستطيع ان يكشف ان كانت الصور المعروضة امامه اصلية أو مزيفة تم تركيبها وتلفيقها لخدمة اغراض معينة!! وفيما يسمونها بالصحافة الالكترونية، لا يشترط ان يكون كاتب الخبر صحفياً عاملاً مقيداً بجداول القيد في نقابة الصحفيين كما هوالحال في الصحف المطبوعة، كما لا يشترط ان يكون المصور صحفياً نقابياً هوالآخر، بل كل من يريد ان يكتب أو ينشر أو يصور، فلينضم الي واحد من تلك المواقع، أو ينشئ مدونة شخصية باسمه يدون فيها اي شيء يريده، فلا حسيب أو رقيب اومنظم أو مدير، كل علي هواه، فلا حجية قانونية للنشر، ولا يوجد دليل مادي ملموس يمكن الاحتكام اليه في حالة نشوب نزاع قضائي معين بين موقع وشخص تضرر من نشر اخبار أو صور تمسه علي ذلك الموقع .. بل ان البعض من الاخبار التي يتم نشرها في كثير من المواقع تتم صياغتها حسب رغبة اشخاص أو جهات بعينها لخدمة اهداف محددة قد يصل حجم ضررها الي درجة المساس بالامن القومي للوطن !! ولطالما بقيت تلك المواقع الالكترونية لا تخضع لقانون تنظيم الصحافة ولم يصدر لها ترخيص رسمي باصدار صحفي الكتروني، ولا يعمل بها صحفيون مقيدون بجداول القيد بنقابة الصحفيين، فانه لا يجب ان يطلق عليها هكذا بمنتهي السهولة لقب "الصحافة الالكترونية" لتشارك عنوة الصحافة المطبوعة علي الورق مركزها في المجتمع ومكانها في التاريخ. تذكرني عبارة الصحافة الالكترونية عندما جلست مع اصدقائي لأول مرة علي احد المقاهي- وكنت طالباً في المرحلة الثانوية- فطلبت من صبي القهوة ساندويتش فول، وبينما استغرق اصدقائي في الضحك من طلبي، فاجأهم الصبي ان طلبي موجود وما عليه الا ان يذهب الي المطعم المجاور للمقهي ويشتري طلبي، اذ ان صاحب المقهي وكان مشهوراً باسم علي بابا، وضع نظاما لمقهاه وهوان طلب الزبون موجود حتي وان لم يصنعه العاملون بالمقهي، المهم ان يجد الزبون طلبه ولا يغادر المقهي إلا وهو"مبسوط" .. هل تلاحظون اختلافاً بين مواقع يتم تفصيل اخبارها وتصنيع صورها وفق هوي النفس ولا يوجد ما يلزمها بالمهنية الصحفية، او يحدد عملها وفق القانون العام للدولة ويطلق عليها بعض فاقدي الرؤية اسم "الصحافة الالكترونية"، وبين قهوة علي بابا .. لا اجد اي اختلاف بين الاثنين، ومع ذلك للاسف يتواجد من يحسب علينا وتجده يتحمس ويبشر بقرب نهاية عهد الصحافة المطبوعة .. رئيس تحرير مجلة أبطال اليوم الصادرة عن مؤسسة أخبار اليوم