كل شيء في الحياة فن! الحياة نفسها فن، والحب فن، والتعليم فن، واللعب فن، والزراعة فن، والكذب فن، والصراخة فن، والغباوة فن، واللامبالاة فن، حتي «الهيافة» هي الأخري أصبحت فناً!! لكني أتحدث هنا عن «فن البواخة» نعم «فن البواخة» الذي أصبح شيئاً رئيسياً في حياتنا، فالبواخة أصبحت إحدي السمات الأساسية في حياتنا، كل مجالات الحياة اليومية!! هات أي مشكلة أو أزمة سوف تجد إننا نتكلم ونتحدث، ونكتب عنها بحماس شديد - ربما لا يتناسب مع أهمية المشكلة أو الأزمة وبمرور الوقت والزمن يصبح الكلام والكتابة عن هذه الأزمة أو المشكلة مجرد كلام بايخ!! مقالات بايخة، أحاديث بايخة، برامج بايخة، شخصيات بايخة تتحدث عن موضوعات بايخة!! باخ، يبوخ، بايخة، بواخة، يستبوخ، بايخ، كل هذه المفردات والتخريجات عن «البواخة» تذكرتها طوال الأسبوع الماضي، والشهر الماضي، والسنة الماضية، بل والعشرين عاماً الماضية، وكانت المناسبة لذلك كله هو الشلل المروري غير المسبوق الذي تشهده شوارع القاهرة التي أصبحت بمثابة «جراج هائل» لكل هذه الملايين من السيارات الخاصة والعامة!! لم يعد مقبولاً ولا معقولاً أن يمضي الإنسان والمواطن كل هذه الساعات من عمره وأعصابه مسجوناً أو محبوساً داخل علبة صفيح سواء كانت هذه العلبة سيارة خاصة أو أتوبيساً عاماً أو ميكرباصاً أو حتي توك توك!! أسابيع وشهور وسنوات مضت ونحن نلت ونعجن ونفت ونلف وندور ونتحدث ونتكلم عن أزمة المرور ولا أمل في حل أي حل!! بمرور الوقت أصبح الكلام والنقاش والكتابة عن فوضي المرور وشلله وإصابة الشوارع بالسكتة المرورية في بواخة ما بعدها بواخة، تماماً مثل النكتة البايخة التي تستحق «أوسكار البواخة» وتقول: واحد جاء يقعد علي قهوة قعد علي شاي!! (هأ هأ هأ أنا الذي أضحك علي بواخة النكتة التي تشبه حال شوارعنا وبواخة ما يجري فيها!! منذ 25 عاماً كتب الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين» في الأهرام هذا المشهد البايخ والعبثي وكأنه يكتب عن نفس المشهد في نوفمبر عام 2010، والمقال عنوانه «مظهر آخر للجنون الجماعي» وهو منشور في كتابه القيم «يوميات هذا الزمان» المنشور عام 1991 - مركز الأهرام للترجمة والنشر. كتب الأستاذ النابه والمفكر أحمد بهاء الدين يقول: «ربما يكون الأمر قد صار عادياً بحكم الاعتياد عليه، ولكن هذا لا يمنع أحياناً من التوقف لحظة عند هذا الشيء المعتاد معترضاً ولو بالتزمر الشخصي ومنكراً إلي متي؟! السيارة تتوقف بي تماماً في بحار من السيارات تملأ ميدان التحرير وإلي آخر مد البصر في الشوارع التي تتفرع منه، لقد وصلنا إلي هنا من الدقي ثم كوبري الجلاء ثم كوبري قصر النيل عبر أكثر من عنق زجاجة، وتوقفنا في كل عنق زجاجة طويلاً هذا مألوف، لكن هذا التكدس في ميدان التحرير، بهذا الشكل غير مألوف، وأنظر من مكاني إلي أول شارع طلعت حرب، وفي أول عمارة فيه توجد عيادة الطبيب الذي ضرب لي موعداً ورغم نزولي مبكراً فقد فات الميعاد، ولكن لا بأس من الوصول، ولو متأخراً، فالتأخر عن المواعيد صار جزءاً من حياتنا، وأفكر في النزول وعبور الميدان مترجلاً، لكنني أري المشاة في موقف اتعس من موقفي، نساء وأطفال، والكل يحاول التسلل بين تلاصق السيارات! وانظر حولي وأتصور أن هذه اللحظة ربما كان هناك خمسون ألف سيارة في أنحاء القاهرة وحدها في حالة توقف، وموتوراتها تدور دون انقطاع!! خمسون ألف محرك سيارة تدور كلها في وقت واحد ولها طنين متصل والأهم أنها تستهلك من البنزين ما لا أعلم من الجالونات خمسون ألف محرك تستهلك الطاقة وتسد الشوارع، وينبهني صاحبي إلي أنه لا شيء غير عادي فهذا ما نواجهه كل يوم! في كل مكان من المدينة الكبري، كلنا نمارس هذا الجنون الجماعي، كلنا نحرق هذه الطاقة الهائلة، ومعظم هذه المحركات يخدم فيها المحرك شخصاً واحداً، نادرة السيارة التي فيها أكثر من راكب، ما أبهظ التنقل بالسيارة علي المواطن وعلي الدولة والمجتمع! أكثر من عشر مقالات تناول فيها الأستاذ «بهاء» مناقشة بواخة الفوضي المرورية بجدية وعمق واتزان - وبلا شعارات وكلام أجوف - لكن مقالاته قوبلت بالصمت الذي هو أقرب إلي «البواخة». رحل «بهاء» ولم ترحل غالبية المشاكل التي كان يكتب عنها بوعي فنحن نؤمن بشعار جميل مؤداه، إنهم يكتبون.. ماذا يكتبون؟ دعهم يكتبون!! ولو غني «شعبولا» هذه الكلمات لابد وأن يختمها بحكمته الرائعة المروعة: اييه.. اييه!!