«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هنا عدة فصول من السيرة الذاتية »الجزء الثالث« للفنان الراحل خصنا بها قبل رحيله.
الحياة تستحق الحياة
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 09 - 2010

منذ ما يقرب من ربع قرن أو يزيد كتبت الغالية عايدة رزق بصحيفة الأهرام مقالا عن أعمالي اختارت له بذكاء ولماحية هذا العنوان، انتقته من كلمات قلتها في حديثي معها، لكن اختيارها للكلمات ونزعها من الموضوع أعطاها الكثير، وأثري ما قلت، ومن يومها وأنا أستخدم تلك العبارة في أحاديثي حينما أتجادل وخاصة مع هؤلاء الذين يجيدون فن الاكتئاب، ويمارسونه علي أنفسهم، وعلينا، وعلي المجتمع بقدر عال من الابتزاز أو في أحسن الأحوال بقدر من الكسل والتلذذ بالبلادة، ويا حبذا لو صاحب ذلك قدر من السخرية والقدرة علي الاضحاك السخيف، وكنت دائما وأبدا أهرب من هؤلاء ومنتدياتهم تاركا لهم الملعب يعيثون فيه فسادا.
هل معني ذلك أنني أري الدنيا بخير!؟
هل معني ذلك أنني لا أشاهد المأساة!؟
هل معني ذلك أنني ساذج وعر!؟
لا... لا ثم لا.. أنا أري ما صار إليه العالم بفضل إستشراء لا ثالث لهما، وأري فيهم أسس البلاء والكوارث والازراء التي يعيشها العالم الآن:
1- قوة المال.
2- قوة السلاح.
وبتركيز، وفي كلمات أصبح لرأس المال استقلاله وقوته في حد ذاته تعمل في بلاطه حكومات ورؤساء وكبار كلهم موظوفون صغار مهما تصور البعض أنهم هم من يديرون ويتحكمون ويخططون. هذا وهم!. ما هم إلا »مذيعو النشرة« كما يحلو لي القول دائما - لكن كاتبها الأوحد هو رأس المال، والجميع في خدمته.
2- وبتركيز أيضا أقول بأن السلاح القاتل والفتاك والمتطور أبدا، ودون توقف أو انقطاع له شروطه وأسباب تواجده. فالجديد لابد من تجربته علي رؤوس المارقين وستطلق عليهم الأسماء وهي أصحبت كلاسيكية في الأدب السياسي
- إن جاز التعبير - تطلق علي هؤلاء وشعوبهم وأحد الأسباب هو تجربة السلاح. بمرور السنوات تتكدس الأسلحة وتصبح غير ذات جدوي في بقائها بالمخازن بعد أن جبها الجديد وتجاوزها. هنا لابد من حروب تستنفد فيه الأسلحة، وتباع ويقبض الثمن وينتعش الشريك الأعظم رأس المال والذي يعتمد علي أخلص خلصائه السلاح.
أنا أري كل هذا وهو ما أطلق عليه »وعي الفنان« والذي دونه لن يستطيع الفنان ابن عصره، أو لحظته التاريخيه، ولكن هل العمل السياسي شرط للوجود، أم أن للعمل السياسي جماعة، وللعلم جماعة، وللفكر جماعة، وللابداع جماعة، وللرياضة جماعة، ويجب ألا يستشري أحد بالساحة مثلما هو حادث الآن، فالسياسة أصبحت خبز الأيام ترتع علي موائدنا »صبح مساء« دون رحمة، وبفضل اعلام لايسعي إلي حل بل إلي اثارة، فتارة هي نفاق وتبرير وكذب ومخادعة، وإثارة هي فضح وتشهير والصاق تهم صحيحة وكاذبة لافرق طالما أن العنوان مثير، والنميمة لها جاذبيتها.. إلخ ذلك الخواء.
من هنا أخترت لنفسي بعد سنوات قلائل من بداية حياتي المهنية أن أتفرغ لمهنتي، دون أن أخالطها بمهنة أخري، واذا أزعجني وأقض مضجعي الطاغية أحاربه فنا ومن يريد أن يتأكد فليقرأ، القط يحب الغناء.. في سلسلة حكايات لعلي رزق الله والناشر نهضة مصر، واذا أقض مضجعي العزوف عن الحياة، فاقروا! قصة »أم الظل« في نفس السلسلة، وأذا غاب العدل وأخذ البعض أكثر مما يستحقون وحرم البعض من أقل القليل فلنقرأ »الفانوس والألوان«، واذا أذاقني الموت مرارته وفجعني فأهديكم »الورقة الأخيرة«.
حملت حكايات عدلي رزق الله دائما اسئلة وجود وحب وتلمس إجابات وهنا يحلو لي بأن أقول أن هذا هو دور الفنان المنحاز للناس لكن للعمل السياسي المباشر رجاله، ولكل ما قدر له، واختلاط الأوراق ضار بالجميع من وجهة نظري.
كانت الأمثلة التي أخترتها حتي الآن من حكاياتي للأطفال، هل معني ذلك أن اللوحة تخلو من الهموم، أو هذه النوعية من الهموم!؟.. هذا سؤال يدعونا لأفراد فصل كامل عنه فاسمحوا بارجائه لحين.
الحرية والفنان
لايوجد طريق واحد للفن أو للفنان، تتعدد الطرق والطرائق الفنية بتعدد الفنانين، وأنا هنا أتحدث عن القامات الكبيرة المؤثرة والتي تترك بصمات علي الفن والابداع.
يري البعض أن في الاقتراب من السلطة اضافة قدرة ضرورية للفنان كي ينتشر ويؤثر، وكان لهذا المنطق دعاته الذين يروجون له أمثال الدكتور غالي شكري، أو أن يقدر جابر عصفور أن يحقق مشروع الترجمة القومي أحد أهم إنجازاتنا الثقافية في الحقبة الأخيرة. ويري البعض وأنا منهم - وهم قلة - أن الاقتراب من السلطة يفقد الفنان قدرا من صدقه وقدرا من حريته. ولنرجع إلي الوراء قليلا لنستمع إلي أم كلثوم تغني للملك - الليلة عيد - في عيد ميلاده أو جلوسه ثم تغني لعبدالناصر ما غنت، وكان هذا هو موقف عبدالوهاب أيضا. هنا يصبح الفن »حرفة« أو »مهنة« تتوازي مع حرف »الترزية« و »النجارين« ،.. ومع احترامي لكل المهن لكن المهنة شيء والفن شيء آخر. المشاريع تحتاج مؤسسات لكن الفنان الفرد يحتاج إلي أجنحة حريته، يحلق بها دون حسابات أو موازنات. وكان هذا هو طريقي الذي أخترته لنفسي دون تصغير أو تحقير لأدوار واختيارات أخري فالعبرة بالنتيجة والمعيار الوحيد للحكم هو الانتاج الفني نفسه وليس الاختيارات التي قد تكون أخلاقية في المقام الأول.
تكمن في كلمة »حرية« كل اختياراتي، فأنا لا أستطيع الاستكانة في خدمة المؤسسة، فالمؤسسة توفر الأمان وتسرق الحرية. وعشقي للحرية جعلني أهرب من جنة المؤسسة أو جحيمها. سمها ما شئت وفق موقفك وهذا يشرح ببساطة لماذا لم أرتح واستكين إلي بعض الوظائف التي شغلتها وكانت إما استثئاءات لمدد قصيرة وإما اضطرارا معذبا مثلما حدث مع دار الهلال في بداية حياتي، وأصبحت لاتأتي المشهورة دليل حياة.
لا للأحزاب
لا للتنظيمات
لا للمؤسسات
لا للجماعات
و
نعم الحرية والابداع
العودة إلي الذات
عندما تزاحمني اسئلة من هذا النوع، تفسد أيامي، وأفقد توازني، وأميل إلي الحزن والاكتئاب، ولما كنت قد عشت الاكتئاب أعوام الثمانينيات التي تلت الهزيمة، أعرف معرفة اليقين مدي بشاعة هذا المرض، وخطره علي الحياة. ولما كان عنوان هذا الكتاب، وعنوان حياتي هو »الحياة تستحق الحياة« لابد من إغلاق تلك الصفحات، والعودة الي الذات وفتح صفحة جديدة لا تتسم بمثل هذه الاسئلة. أجلس في جنة بيت المائيات. شمس مارس التي تتسلل إلي بشرة الجسد تمارس اشعتها تدفئه الجلد وأحس بالاستمتاع. مواء المعزة »غاوية الأزمية« والتي تنطح بقرونها الأخريات. عزلناها وحدها علها تفهم سبب العزل.
عراك الديكة التي لاتحب التشارك في الدجاجات فوجب الذبح. البط في حاجة الي ذكر لابد من شراؤه. الحمام يطير ويحلق في سماء الحديقة وهو الشيء الوحيد بالاضافة الي العصافير القادرين علي الطيران. أفكاري كذلك تحلق بعد ان طاردت الاسئلة التي تراكمت علي صدري وأثقلت تنفسي. الفول الحراتي يواجهني باغراء لايقاوم ويدعوني الي اكلة لذيذة مع الجبنة البيضاء الطرية. أنظر الي الزهور البيضاء الصغيرة المتحركة بفضل الهواء كأنها آلاف الفراشات البيضاء زهور المشمشة ابيض مشوب بأحمر باهت أحيانا قرمزي أحيانا أخري. ثمرات البشملة الخضراء تنفض عن نفسها أوراقها القديمة، مقدمة علي نضج سيجعلها برتقالية تعصر سكرها فيأتي ملاكة أبن أختي الذي يعشقها ويمنعني من خلع الشتلات الصغيرة التي تملأ الحديقة. مواء القططة التي لاتشبع ابدا تتلاصق وتتزاحم علي أقدامي حتي أعطيها لتسكت عني. حتي الحيوانات تعرف معني الإلحاح. هديل الحمام وثغاء النعجة. هدوء يسمع للأذن بالسمع ماعدا في أوقات قليلة جدا يمكن احتمالها. »ملك للمالك«، وطبيعة ساحرة تدعوك لأن تحب الحياة سواء قامت وزارة الثقافة بدورها أو لم تقم. نباح الكلب »بطاطا« يقول لي: لاتنسوني موعد غذاءئي، وله كل الحق.
وعدت الي نفسي، وعادت الي نفسي. والتأم شمل الروح والجسد.
ذات الفنان وفردية الفنان
بعد كل هذا الاستعراض للسلطة. أي سلطة! نجد ان الارتطام قائم ابدا، والصدام واقع لامحالة، والغريب انني اكتشفت هذا مبكرا حين ارتطمت طفولتي بصفاقة الجدة، وعدم اهتمامها بالعدل، وايثارها لأبناء الابن علي حساب براءة مشاعر طفل السابعة كانت الصدمة قاتلة.. ولم يحدث.
كانت الصدمة مدمرة.. ولم يحدث.
كانت الصدمة باعث علي توليد العنف والتحطيم في عقل وقلب الطفل.. ولم يحدث
كانت الصدمة مولدة لطاقة رفض بعمق الجريمة.
لا رد فعل للفعل.. بل فعل في اتجاه آخر، لا يلتقي مع الآخرين. فعل في طريق الأدب والفن والابداع بعيدا عن عيون »السلطة« اللاهية بالتفوق الزائف والمجد الكاذب، وأصبح الفعل الثقافي الابداعي فعل نقاء وشفافية. الفن بدلا من الواقع المريض والزائف بتقاليده المبنية علي تمشية الأمور، والتزلف للأقوي. وكان في الاختيار قدر لافكاك منه. واصبحت السلطة ترادف القهر، واصبحت الوحدة ترادف الحرية. وكان الموقف المتكرر ابدا.
لا رد فعل.
لا صدام مجاني.
لا تبني لقانون المعتدي، بل »دع الموتي يدفون موتاهم«.
وكان كل الوقت لقراءة الأدب
ففي الأدب جروح البشر وآلامهم واسئلة الحياري.
حينئذ تتباعد الوحدة، وتأتنس الروح.
وكان كل الوقت للفن دراسة.
ثم إبداعا.
ففي الفن حياتي وفي اللوحة وجودي.
وفي كتاب الطفل طفولتي وتجربة حياتي.
وفي كتب الطفل مشروعي التعليمي لإيماني بأن في المعرفة طريق حرية وانعتاق النفس البشرية.
من هنا كان كل اقتراب مع مشروع مؤسسي محكوم عليه بالانتهاء.
وهذا قد حدث مع دار الهلال في البداية التي طالت لعشر سنوات.
وهذا قد حدث مع دار الفتي العربي.. وتصادمت حرية الفنان مع وهم السلطة لدي البعض، والايمان بالفكر لا المؤسسة وهذا قد حدث مع المركز الثقافي المصري بباريس رغم الانجازات في فترة لم تستمر أكثر من عشرة أشهر، والتناقص التدريجي في القدرة علي تحمل المؤسسة طبيعي، وهو نتيجة الخبرة المكتسبة بالتجربة.
وجعلت الحرية هدفا ونتيجة لا ثمن للحرية، وكذب من قالوا بأن لكل ثمن صغر أو كبر، بل هناك فرسان علي مدي تاريخ الفن المصري قالوا: لا. لا جميلة.. لا واضحة لا متألقة
ولنتذكر معا كمال خليفة.
ولنتذكر معا حامد عبدالله
ولتذكروني معهم ان حافظت علي البقية الباقية من العمر وأنا أعد بذلك.
الشابة بأن جمهور الفن قليل وكأنها بديهية مسلم بها لن تتغير أما مسئولة قطاع الفنون المشاركة في الصالون فقد اسهمت في الحيث عن جمهور متحف »محمود خليل« وجمهوره العريض، وتحدثت عن السفير الذي كان يزور المعرض شهريا.
هناك بعض الحقائق التي يجب طرحها في هذا الموضع.
يتوجه الجمهور الي من يتوجه اليه.
سألت نفسي حين قررت العرض في القاهرة عام 0891 بعد عشرة أعوام من الاقامة والعرض في باريس. سئلت نفسي.
أنا أعرض لمن؟
الزملائي الفنانين.. أبدا. فالأليق بنا أن نتزاور في مراسمنا، ونتحدث حديث المتخصصين أحيانا، والمحبين أحيانا، ونتجنب الأحاسيس السلبية وأمراضها التي تزدهر في أوساط أبناء المهنة الواحدة.
2- للنقاد.. ابدا، فالنقد والنقاد في بلادنا له ظروفه الخاصة فأغلب من توجهوا للكتابة عن الفن، خاصة منذ الستينيات ماهم إلا فنانين يكتبون سطورا تطبع باسمائهم حينئذ يقال عنهم النقاد. سألت احدهم ان يختار لي بعض سطوره المكتوبة عني علي شرط ألا تكون عدد اللوحات المعروضة، ومكان العرض والجملة المستهلكة عن شفافية الوان الماء ورهافتها. وحين كتب عني الأديب ادوار الخراط اضطر ان يبدأ كلامه بهذه المقولة »أنه فنان عنيف« حتي يكسر موجة الاستسهال. حينما اكتب في الفن اقول »هذه رؤية فنان، ليس ناقدا لانه لايملك ادوات النقد، وليس مؤرخا لانه لايملك امكانياته واهم كتاب كتب في الفن المصري حتي الان هو كتاب ايمي آذار الذي تفرغ للنقد والتاريخ، ومنذ ذاك التاريخ لم يتحفنا احد بنقد جاد والنقد الجيد يفسر للجمهور ما قد يكون غامضا لديه حيث ان احد شروط الفن هو الجدة، كما انه مسئول أمام جمهوره عن وضع ايديهم علي مواطن الجمال في العمل الفني وغيبة النقد تؤثر تأثيرا سلبيا علي حجم جمهور الفن التشكيلي.
3- للإعلام.. نعم
لأن الإعلام مها، وبدونه لن يدري الجمهور بأن هناك عرضا لكي يراه، وهنا يجب أن أقول بأن نقطة الانطلاق في تكوين جمهوري بدأت من هنا. وسأتحدث تفصيليا بعد ان أذكر النقطة الرابعة في الموضوع وهي الأهم.
4- الجمهور.. نعم.. نعم.. نعم.. نعم.. نعم وإلي مالا نهاية فالعرض أولا وأخيرا يخصص للجمهور. حتي الاقتناء هو أسهل في مراسمنا.
راهنت علي الجمهور. طلبته نفسي. به تحيا لوحاتي. المناخ في مصر آنذاك غريب. يهمس صديقي المرحوم عوني هيكل ناصحا: أحد المراكز الثقافية. ويضيف معهد جوته، أو صالة المركز الثقافي الفرنسي. وأضحك قائلا: سأعرض في أتلييه القاهرة. يهز رأسه: »مطفي، مفيش جمهور«. واجيب »نولعه بلوحاتي، أريد أن أضع لوحتي في نفس مكان لوحة رمسيس يونان وفؤاد كامل وراغب عياد وحامد عبدالله و..«. يشير إلي قائلا: كفاية. عنيد، ويضحك قائلا: صعيدي حتي باريس لم تغيرك.
كان كل ما يحيط بي يشير الي استحالة ما أفكر في تحقيقه، لكن يقين قلبي كان يقول شيئا آخر. كنت أري جمهورا يملأ قاعة العرض، وعملت من أجل ان يتحقق هذا. فأحد شروط أن تحقق »المستحيل« أن تعمل بالحد الأقصي، وأن تفكر لتغطية كل ما يجب ان يكون، وأن تتسلح بذكاء حاد، وأن يتسلح بالعقل في وقت كانت تعتبر الثقافة عيبا في الفنان، وأنا لا أنسي يوم أن سمعتها من استاذ أجله حين قال عن رمسيس يونان بقدر من الأزدراء: إنه مثقف.
وأن يتسلح من تطلب لوحته جمهورا بخيال جامح ورؤية. واتكلت علي الفن ولوحتي وبدأت العمل.
علمتني اقامتي في باريس ان العرض الفني ليس وضع لوحات علي الحوائط، وتركها هي ونصيبها، وحينما لايحضر الجمهور يطأطأ الفنان رأسه حزينا، ويمارس حس الضحية، ويستعذبه أحيانا لأننا في حالات كثيرة نستعذب الألم وهو أحد شروط المازوكية. للعرض الفني سيناريو ومخطط فكيف ابدا.
أ. الدعوة.
كانت دعوة المعارض تطبع بالأبيض والأسود مجرد كلام عن اسم الفنان، ومكان المعرض، ومن سيفتتح المعرض- بالمناسبة كان اسمه أكبر من اسم الفنان في كثير من الأحيان- لاتوجد لوحة حتي بالأبيض والأسود.
صممت دعوة تحتوي أولا علي أكثر من لوحة من لوحات المعرض. لايوجد بها اسم يعلو علي اسم الفنان أو يكبره. طباعة جيدة تبرز جمال اللوحة، فالطباعة الرديئة تشوهها 0002 دعوة ضحك الزملاء قائلين: نحن لانوزع اكثر من 001 دعوة. صيغة الدعوة تدل علي ان المدعو هو وحده المعني بالدعوة، لايشاركه فيها تشريف او تكريم من أحد عليه، والداعي هو الفنان مباشرة.
الملصق
ملصق للمعرض ضرورة لايمكن تجنبها. غير مألوف التفكير هكذا، لكنني قلت لنفسي اذا طبعت ملصقا استطيع استخدامه كمستنسخ فني. يقتنيه الجمهور بقروش قليلة ليصبح في بيوت جمهوري صورة للوحة بدلا من اللوحة فالجمهور عادة لايستطيع اقتناء الأصل. هنا يجب ذكر فضل »عزيز المصري«، مهندس الرتوش أيام كانت الطباعة تحتاج الي رتوش يدوية. اعطيته لوحة لكي تطبع غلافا لمجلة صباح الخير، اقرضني افلامها اياما. طبعتها الف نسخة 002 للملصق، ثم حذفت كلام الملصق فأصبح لدي 008 مستنسخ يعني 008 شخص يستطيعون الحصول علي الملصق ب05 قرشا فقط لاغير، وثلاث كروت كانوا في الدعوة، يباع الواحد ب52 قرشا. فرح الجمهور، وفرح الشباب وعرفوا انني اتوجه اليهم. كانوا ابطال العرض لايوجد مسئول كبير، يصبح هو وحاشيته جمهور الدرجة الأولي، ويلتف الفنانون حول بعضهم البعض يرطنون مصطلحات فنية، حينئذ يخاف الجمهور المتطلع للمعرفة وينزوي بعيدا. في معرضي انتفي كل هذا. كم شابا بعد ذلك قالوا لي لقد اقتنينا مستنسخاتك واطرناها وازدانت حجراتنا بها.
وتحدثت القاهرة عن هذا العرض والتف الجمهور وسعدت لوعتي به كان زملائي قد غضبوا حين قلت ارجو من الفنانين التشكيليين الا يحضروا افتتاح معارضي ولهم جزيل الشكر. كنت اريد ان ينفرد الجمهور بالفنان، وينفرد الفنان بالجمهور. وشرحت لمن اراد الاستماع الي منهجي قائلا اذا غنت ام كلثوم يجب الا يكون غيرها من المطربين والمطربات في القاعة والا تشتت انتباه الجمهور، كنت اضيف يجب ان يكون الفنان عروس الليلة الوحيد، وفي تقاليد اعراسنا لاتلبس الطرحة البيضاء الا العروس، لاتجلس علي الكرسي الذهبي الا العروس، لاتتزين زينة كاملة الا العروس فاتركوا عروس الليلة لجمهوره. كل هذا كان يصل الي ما اطلقت عليه جمهوري. صحيح انه ليس جمهور لاعب الكرة، لكنه جمهور ملأ حياتي وملأت حياته.
واعتناء به بدأت ادعو الشعراء والكتاب والموسيقيين لاقامة ليالي في معرضي، تؤنس اعمالهم لوحاتي، وتأتنس بهم ومعهم. ويصبح المعرض عرضا لتزواج الفنون. سمعت شعراء السبعينيات المولودين في غيابي. كتبوا القصائد لمائياتي، واهديتهم مائياتي- وغيرهم وهكذا كان الجمهور لمن يريده ما يحترمه، يتوجه اليه، يعطيه لايتعالي عليه، يقيم الندوات لتطوير التلقي، واسفر كل هذا الحوار القائم في معارضي عن سلسلة سأتحدث عنها كثيرا »اقرأ.. اقرأ.. اقرأ.. وتعلم في سلسلة عدلي رزق الله التشكيلية« عاونتني وتعاوني فيها الباحثة تمر عدلي رزق الله. هذا هو كان طريقي الي الجمهور واذا كان الكتاب يطبع خمسة الاف نسخة فأنا يدخل معرضي مثل هذا الرقم. اذن جمهورنا ليس جمهور كلمة فقط بل جمهور صورة ايضا.
كمال الملاخ وأنا
كان كمال الملاخ رجلل اعلام ودعاية من الطراز الأول. اطلق عليّ حين شاهد معرضي الأول شاعر الفن التشكيلي. اراد لي ان تقوم بيننا علاقة خاصة، يقوم هو بتقديري علي الحركة التشكيلية مستخدما بخطه المائل المشهور آنذاك المقولات الآتية:
أول مصري يعلم الفن لأبناء عاصمة النور.
الفنان الصعيدي.
الفنان رزق الله.
كانت الأول تعني العالمية كما قال لي
وكانت الثانية ستجند خلفي أبناء الصعيد
أما الثالثة فلا تعليق مني
وعلي الفور حذرته قائلا له لو انتظرت قليلا لعرفت انني احارب مقولة الفنان العالمي وستقرأ هذا في روزاليوسف مع عادل حمودة، حديث. نشر علي 6 صفحات كاملة. تعجب الرجل وقال لي ان مايكل انجلو، ورقائييل ما كانا يرفضا ما اعرضه عليك ضحكت وقلت انا لست مايكل ولا دفائييل ولكني عدلي رزق الله.
حكاية في السياق تروي: كان علي أمين -رحمه الله- يقول اعطني جريدة وحمارا وانا اجعل الناس ينتخبون الحمار. وكنت اقول وبعد قليل عندما يكتشفون الخديعة سيقولون عنك انك أل...
من هنا كان ايماني بان الأعلام ضرورة، لكنه يجب ان يكون في خدمة الناس حقيقيا صادقا ليس الا.
واعتبرت حديثي مع عادل حمودة »مانيفستو« نشرته بعد خمس سنوات في احد كتالوجات معارضي، وسانشره هذه الأيام خلال احتفالي بالسبعين فنا. مرة اخري بتلخيص ظالم ومخل- لكن لا يمكن تجنبه- كان موقف منير عامر رافضا للحداثة، مؤثرا، بل ومطالبا ان يمس الفن شغاف القلب حتي يعترف به فنا، وكان موقف د. اسماعيل سراج الدين راعيا للتفتح علي الجديد ودلل بذلك علي الرفض الذي قوبلت به اعمال بيكاسو أو سيزان او غيرهما في بدايات القرن العشرين، وبعد ذلك اثبت الزمن ان هذا هو الفن الحقيقي. تكلم عن دو شامب. ومبوله الشهيرة. وبالطبع كنت متفقا مع الدعوة التي يبثها اسماعييل سراج الدين، ولكن لدي ايضا تحفظ اشرت به علي »التقليد« بلا وعي لما يراه بعض الفنانين في معارض الغرب وينقلوه نقلا، ويقلدوه تقليدا والتقليد يؤدي بنا دائما وفي كل الأحوال الي قتل الفن. لكن الانفتاح علي الفن في الغرب منذ عصر النهضة حتي الآن ضرورة لاغني عنها. وهضم كل هذا التراث ضرورة ايضا. ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين، وتركنا القرن العشرين وراء ظهورنا. اليس كذلك
الأجيال والجديد
طالما ان هناك اجيالا جديدة، وزمنا جديدا سيضاف الي الفن الجديد، وأي تصور بان الجديد كله رديء ولا معني له هو تصور اقل ما يوصف به انه ساذج، وسطحي وينقصه الفهم والساحة مليئة بمثل هذه الأراء سواء في المسرح أو السينما أو الأغاني أو الشعر أو.. أو.. في كل شيء نفس كانت الجدية زمان. كان الشعر زمان.. كان الفن زمان.. كل هذا غير صحيح. لكن ايضا وبنفس القدر ليس كل جديد صحيحا. والحكم الوحيد علي ذلك هو التاريخ. الزمن كفيل بالغربلة، وما سيبقي هو الجيد. وما سيلمع هو العبقري، ولكل جيل عباقرته، ولكل جيل ادعياؤه. لذا موقفي وبملء فمي ما يثير في احاسيس فنية احييه واتحدث عنه واحاول الاشارة اليه. وما لا اهضمه افكر فيه، اتركه لعل وعسي في يوم ما ينفتح علي أبواب للتلقي كانت مغلقة. وهذا قد حدث علي مدي تطورنا الفني. كلما انفتحت ابواب كانت مغلقة تطور تلقينا. وهنا قانون يلمع متألقا، وقد تكون صياغته تأتي الي قلمي لأول مرة:
التلقي مثله مثل أي نشاط انساني يجود ويتطور بالممارسة!
وبالثقافة أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.