للعلامة عبد الرحمن بن خلدون عبارة عبقرية ذائعة، تفسر العلاقات بين الحضارات الناشئة والحضارات الراحلة، أو بين القوي الظاهرة والقوي المغلوبة يقول فيها "ولذلك تري المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه؛ في اتخاذها وأشكالها، بل في سائر أحواله، وانظر ذلك في الآباء مع أبنائهم كيف تجد المتشبهين بهم دائماً؛ وما ذلك إلا اعتقادهم الكمال فيهم".. وعلي الرغم من انطباق هذه العبارة علي كثير من العلاقات بين الشعوب الغالبة والشعوب المغلوبة في أماكن وفترات عديدة، فإنها لم تصدق علي مصر، ولم تخضع لمصر لهذا القانون الاجتماعي.. وانظر إلي التاريخ لتري كيف تأثر الغالبون بثقافة المغلوبين في مصر! في العصور القديمة، غزا الاسكندر الأكبر مصر، وأنشأ إمبراطوريته العظيمة، ونشر الثقافة الهيلينية.. غير أنه وهو الغالب قد وقع في هوي المغلوبين، فتأثر بهم، وقلدهم في ملبسهم وفي مأكلهم.. وتحكي كثير من الكتب التاريخية أن الاسكندر قد لبس الملابس المصرية، وتقرب إلي آلهتهم، ومارس طقوسهم، وتحدث المقربون منه بلغة المصريين. وعندما غزا بطليموس مصر، وقع في حب كليوباترا.. وأصبح الغالب أسيراً في يد مغلوبيه، وأصبح خاتماً في يدها.. وبدلاً من أن تصبح كليوباترا جارية له في روما، أصبح بطليموس عبداً لها في مصر! وعندما دخلت المسيحية مصر في القرن الثالث الميلادي أصبح لها شكل خاص، وأصبح لها كنيسة خاصة، لا تزال طقوسها وتعاليمها مستقلة ومتميزة عن بقية الكنائس المسيحية في العالم. ولما دخل الإسلام إلي مصر، لم يجد أوراقاً بيضاء ليكتب عليها، بل وجدها كتاباً مليئاً بعبق التاريخ، وبحكمة الزمن، فتفاعل الإسلام في مصر، وتفاعل أهل مصر مع الإسلام، وخرج لنا إسلام وسطي له روحه المميزة، ولأهله طريقة تدينهم السمحة.. حتي إن الشافعي عندما حل علي مصر وكان قد كتب مذهبه في العراق، غير كثيراً من الأحكام والقواعد حتي تنطبق علي مصر، وأصبح له مذهبان: قديم في العراق، وحديث في مصر، وكلاهما للشخص نفسه. ولما غزا نابليون مصر بجيوشه في نهاية القرن الثامن عشر (1798) انبهر بها، وبأهلها.. ويقال إنه بدأ يتقرب إلي أهلها زياً وعقائد.. وكان القائد مينو أكثر جرأة منه إذ أشهر إسلامه وتزوج من غادة رشيد. وعلي عكس البلاد المحتلة جميعاً والتي تدين للغة الدولة التي تحتلها، خرجت مصر من هذا القانون، وانتشرت اللغة الفرنسية في مصر في ثقافة الخاصة وفي لغة الحياة اليومية كما لم تنتشر لغة المحتلين الإنجليز.. وكانت اللغة الفرنسية وسيلة لمقاومة المحتل. في هذه الأيام.. هل تتخذ العلاقة بين الغالب والمغلوب شكلاً جديداً، أم أن القانون لا يزال علي حاله في مصر؟ (للحديث بقية)