استطاع مهرجان أبوظبي أن يخترق الخطوط الحمراء ويقتحم حدود القضايا السياسية الشائكة التي يتهرب منها بعض المهرجانات العالمية، فقد وضع مهرجان أبوظبي العالم كله أمام القضية الفلسطينية وما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي من تجاوزات، بالإضافة إلي إحراج الإدارة الأمريكية ومطالبتها بوضع حد لما يحدث في العراق، ما جعل المهرجان يقدم رؤية بديلة لثقافة التسلية الهوليوودية ويفتح الأعين العربية علي حقائق الأشياء. فرضت السياسة نفسها علي أجواء الأفلام المشاركة في مهرجان أبوظبي السينمائي ومثلت حضورا طاغيا.. إذ قدم معظم الأفلام أخطر القضايا التي تمس مصائر الشعوب سواء في العالم الثالث الذي يضم فلسطين والعراق ولبنان، أو دول أخري تعرضت لتحولات وصدمات سياسية أثرت علي مسيرتها في جميع الأحوال. ولا يمكن التعرض لأفلام المهرجان دون التطرق لتيمة «الحرب» التي سيطرت بقوة علي أفكار المخرجين، وجعلتهم يستخدمون السينما كورقة عمل وجدل وإثبات ضد جميع التجاوزات التي ارتكبت في حق البشرية، فمثلا فيلم «اللعبة العادلة» للمخرج دوج ليمان هو فيلم يكشف بوضوح أبعاد فضيحة «بلايم جيت» وأهم خيوط الأكذوبة التي نسجتها الإدارة الأمريكية لإقناع العالم بأن العراق يمتلك أسلحة نووية، لكن سفير أمريكا في النيجر «جوزف ولسون» يكشف زيف هذا الادعاء. الفيلم صرخة سياسية تم إبداعها بعناية من أجل إدراك أسرار اللعبة السياسية التي ينتهجها السياسيون لخداع الشعوب وتدبير المؤامرات، ومفاجأة الفيلم أنه صدي حقيقي لموقف صناعه من الإدارة الأمريكية بدءاً من المخرج «دوج ليمان»، والممثل «شون بين» المناهض لسياسية «جورج بوش» الابن منذ توليه مقاليد الحكم في أمريكا، وقد شارك «خالد النبوي» في الفيلم وأدي دور «حامد» وهو عالم نووي اضطرته الظروف إلي التعامل مع عملية «السي أي إيه» التي حاولت انتزاع اعترافات منه بتورط العراق في إنتاج أسلحة نووية مقابل تأمين خروجه من العراق قبل الهجوم علي بغداد. وقد نال الفيلم قدرا كبيرا من الاهتمام، لدرجة أن سفير مصر في الإمارات حضر العرض الخاص به وظل متواجدا في القاعة ليتعرف عن قرب علي ردود فعل المشاهدين وآراء النقاد، وأجمل ما في الفيلم هو جرأته غير المعهودة، فهو محاكمة علنية لجريمة حرب تم ارتكابها في حق شعب العراق الذي ذاق مرارة القصف بآلاف الأطنان من اليورانيوم المشع، والفيلم لا يقدم تقارير سياسية صماء، أو سرداً وثائقياً وإنما يقدم ردود الفعل الإنسانية تجاه ما كان دون استدراج الأحداث إلي التحليلات السياسية الفجة، وإنما تتكشف خيوط اللعبة السياسية شيئا فشيئا لنصل في النهاية إلي حجم المأساة. أما بالنسبة لدور خالد النبوي فقد تم بتره، لأنك تظل تترقب ظهوره طوال الفيلم فلا تجده، وأغلب الظن أن مشاهده قرب النهاية تم استبعادها في المونتاج، وبغض النظر عن الجزء الأول من الفيلم الذي تسيطر عليه الايقاعات البطيئة فإن الفيلم سرعان ما يزودنا بحقائق متلاحقة ومواقف صادمة تثري الأحداث. ولم يكن ذلك هو الفيلم الوحيد عن العراق بل هناك فيلم «كرنتينه» الذي يعكس بروحه الوثائقية آلية صناعة الدمار والخراب علي أرض العراق نتيجة الاحتلال الأمريكي الذي بدأ عام 2003، والظروف السيئة التي تواجه أبناء العراق، وهذا الفيلم الوثائقي للمخرج «عدي رشيد» يعد مكملا لفيلم «اللعبة العادلة» لأن رشيد نفسه عمل مصورا للفيلم الثاني مع «دوج ليمان». «شتي يا دنيا».. عندما يتقاتل الأشقاء طائفيًا في لبنان ومن العراق إلي لبنان.. تقف الحرب حاضرة علي شاشة السينما في عدة أفلام، بدءا من فيلم «مملكة النساء» الذي يرصد معاناة اللبنانيين والفلسطينيين من الاجتياح الإسرائيلي للبنان واعتقال جميع الرجال في مخيم «عين الحلوة» لتعيد النساء بناء المخيم وزراعة الأشجار، والفيلم يفيض بالمرارة التي حرصت علي تقديمها المخرجة اللبنانية «دانا أبورحمة»، فهو يقدم شهادات حية علي الروح الصلبة التي تمتلكها المرأة العربية في مواجهة الاحتلال، ومن هذا الفيلم إلي فيلم آخر هو «شتي يا دنيا»، الذي يتعرض لفظائع الحرب الأهلية في لبنان وجرائم البشر ضد بعضهم بعضا حسب الأهواء الطائفية، وانعكاس ذلك سينمائيا بمنتهي الاتقان. النرويجية «فيبكة لوتبرج» تبكي الفلسطينيين في «دموع غزة» وعلي نفس الخط السياسي تقدم المخرجة «سوزان بيير» فيلم «في عالم أفضل»، بينما فيلم «دموع في غزة» للمخرجة النرويجية «فيبكة لوتبرج» هو إدانة صريحة بالصوت والصورة لممارسات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة من خلال مجموعة من الأطفال يحكون آلامهم ومشاعرهم من جراء القصف، وتسجل المخرجة صرخة احتجاج قوية ضد جميع الانتهاكات، وتعتبر ما يحدث جنوناً كاملاً. محاكمة سينمائية لضمير العالم السياسي السياسة استطاعت أن تضفي علي المهرجان نوعا من الحراك والجدل الذي يعيد تقييم الأمور وينقل الفيلم السينمائي إلي حدود الثورة، بل وتسليط سهام الانتقاد في محاولة لإعادة وتصحيح مسار البشرية برؤي جديدة، تمتلك الكثير من الثراء، ومن الواضح أن هذا التوجه السياسي الرامي لخدمة القضايا القومية وتأييد الشعوب العربية في نضالها من أجل التحرر كان هدفاً واضحاً للجنة إعداد المهرجان، ويرجع الفضل في اختيار هذه الافلام للسينمائي انتشال التميمي. الفن يؤدي دورًا سياسياً فاعلاً في الحياة، إذ تواجه به الشعوب العربية موجات الاحتلال وتسريبات القوي الطامعة -ومنها إيران- في إثبات دورها السياسي في المنطقة علي حساب العرب.