نعيش هذه الأيام ذكري الانتصار العظيم في السادس من أكتوبر (العاشر من رمضان). وفيه تشدنا الذكريات إلي تلك اللحظات المجيدة الرائعة. لحظات يعجز الزمان عن استيعاب أحداثها وتعجز الأقلام عن وصفها. إنها أشبه بلحظات «الوجد الصوفي»: اتصالاً وحبا وهياما وشفافية، لا يحس بها إلا من عايشها، وكابد مشقتها، وتشرب قيمها: إيماناً ووطنية، وبطولة قام بها «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضي نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً» إنها اللحظات التي كان الاستشهاد فيها أقرب للإنسان من طرفة عينه، وفيها تجسدت معاني الوطنية وشموخ التاريخ وأصالة الشعب الذي يتغني بالأمجاد ويصنعها، والإيمان بالله وبالحق الذي ندافع عنه، وكان العبور والانتصار، والذي جسدته الصرخة القوية «الله أكبر» نطلقها فنحس برعشة كهربية تسري في أجسادنا. فتخلع من القلب كل ما يثنيه عن الهدف، وتكسوه رداء من حديد يتقدم وثاباً، لا يخشي أحدًا ولا يثنيه عن العزم حب الحياة. الله أكبر استلهمنا منها العزة، والإيمان العميق بأن الحق لابد غالب. ذكريات قضي فيها زهرة شباب مصر أجمل سنوات عمرهم وتحملوا من أجل مصر قوة الحياة وضراوة المعركة. وهي ذكريات مليئة بالدروس والعبر، وفي القلب منها ذلك التلاحم والانصهار بين المقاتلين، بين الضباط والجنود، بين المسلم والمسيحي، بعبارة أخري: لم نكن نعرف يومها من هو الضابط ومن هو الجندي، من هو المسلم ومن هو المسيحي، فالكل يذوب حباً وهياماً لتراب وطنه، والكل يذود عنه، ويختلط الصليب مع الهلال، والانجيل مع القرآن. وبهذه اللحظات وفي هذه الذكريات - نحن في أشد الحاجة إلي مواجهة هؤلاء البلهاء والأغبياء من مثيري الفتن الطائفية، نقول لهم: أين كنتم يومها؟ يوم أن اختلط دم المسلم بدم المسيحي. وأين كان محرضوكم، ومن تعملون وفق أجندتهم، يوم أن هربتم وهرب كباركم إلي بلاد البترو دولار، والحياة المترفة. لقد عشنا معاً: مسلمين ومسيحيين حرب الاستنزاف، وغارات العدو بطائرات الفانتوم الأمريكية، وعشنا لحظة العبور، وتشاء الظروف أن يعيش كاتب هذه السطور أنبل اللحظات والمواقف مع أخوة السلاح من المسيحيين: جنوداً كانوا أم صف ضباط، أو قادة، فكان «إميل» عريف الجماعة، والذي استشهد مع العريف «الشيخ مؤمن» ووجدناهما محتضنين وكأن كل منهما كان يريد حماية الآخر، ولكن كان الاستشهاد لهما. وكان «قزمان» رقيب السرية والذي كان يوقظ الجنود عند أذان الفجر للصلاة، أما قائد الكتيبة فكان المقدم «كمال يوسف» الذي كان يطمئن بنفسه علي الجنود وقت السحور ليطمئن علي حصولهم علي الوجبة. أما البطل المغوار اللواء «فؤاد غالي» قائد الجيش الثاني، فحدث عنه ولا حرج، فكان أول من عبر في هذه الحرب، حرب العزة والكرامة، وبعبوره رفع العلم المصري فوق حصون خط بارليف، وركع أمامه جنود الصهاينة زلة وخضوعاً عندما سيطر علي الموقع وتم أسرهم، ولكنه وبالروح المصرية الأصيلة، وشهامة القادة تعامل معهم بالحسني، وبما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء. حدث هذا من مسيحيي مصر، ولعل فيما حدث الدروس المستفادة، والرصاصة القاتلة بإذن الله لكل مثيري الفتن الطائفية، من يعملون وفق أجندات خارجية كانوا من المحسوبين زوراً وبهتانا علي المسيحية أو الإسلام، ونحمد الله أن هؤلاء قد انكشف أمرهم وما يضمرونه لمصر، ذات التاريخ العريق. ونحمد الله أيضاً أن كبار رجال الدين من المسلمين والمسيحيين قد تبرأوا من هؤلاء وأولئك، بل وطالبوا بضرورة المواجهة والضرب بيد من حديد علي كل مثيري الفتن الطائفية، وتأتي توجيهات الرئيس مبارك وكبار مثقفي مصر للعمل وفوراً علي القضاء علي الفتنة في مهدها، فمصر بالجميع وللجميع، وتعيش فينا قبل أن نعيش فيها علي حد تعبير رأس الكنيسة البابا شنودة ولمثيري الفتن الطائفية نقول «موتوا بغيظكم». فمصر أكبر من كل الفتن مهما كان غيظكم وحقدكم. وعاشت مصر