كيف تحول الفن إلي سلعة ولوحات الرسامين إلي شهادات استثمار في أسواق المال واستراتيجيات شركات إدارة رؤوس الأموال؟ كان الفن وبالذات الرسم هو شاغلي الأكبر بين سن الثانية عشرة وحتي الثامنة عشرة. لم يكن هناك متحف للرسم في أي مكان في أوروبا في مأمن مني، حيث أذهب مهما كانت صعوبة السفر لأري لوحات عظماء الفن الحديث «MODERN ART» في ذلك الوقت مثل بيكاسو ورينوار وموناه وتولوزلونزك. كان ولعي بالفن الحديث الذي لم يكن له مكان حقيقي إلا في الدول المتقدمة والثرية سببه الحقيقي سهولة تقليده، لا يحتاج الشخص إلي تدريب أو «صنعة» لكي يقلد لوحة شبيهة بلوحات بيكاسو التكعيبية أو موندريان التجريدية. الفكرة والحس والإبداع هو المهم وليس المهارة أو الحرفنة أو ما يسمي بالإنجليزية التكنيك. بهرت بقول بيكاسو إنه قضي عمره كله لكي يتعلم كيف يرسم مثل الطفل. التلقائية، والصدق والبساطة الفن الحقيقي شعرت أن هذا هو كل ما أريد من الحياة كنت لا أريد سوي الصدق والبساطة التي تدخل مباشرة إلي قلب العقل. باختصار كنت أريد أن يكون الفن منهجي ومحور حياتي وتعلمت أن ذلك لا يكون إلا من خلال المقدرة علي الحب فأصبح الفن والحب كلمتاين بنفس المعني في القاموس اللغوي الخاص بي ولذلك غاليت في هذه الفترة المهمة من حياتي في الذاتية والانفرادية ولم يعتدل الأمر إلا فيما بعد في مرحلة غلب فيها الحس السياسي والعلمي علي الحس الفني والأدبي. دارت في رأسي كل هذه الأفكار والذكريات عندما قرأت عن سرقة لوحة فنسنت فان جوخ من متحف محمد محمود خليل.. دعوني قبل أن أسترسل في حديث ذكريات شديدة الخصوصية وأفكار فلسفية ليس لها جدوي إلا لمن مر بتجارب مشابهة دعوني أذكر بعض الحقائق والاقتراحات التي قد يكون لها فائدة ولو غير مباشرة أولا: أنا أشك أن اللوحة فعلا من ريشة فان جوخ لأن رجل الدولة المصرية العظيم كان يشتري لوحاته عن طريق أصدقاء أجانب ليسوا جميعا فوق الشبهات ولأن احتراف تزوير اللوحات وصل حتي في زمن ليوناردو دافنشي إلي مستوي يفوق التصور ولا يمكن التأكد من حقيقة لوحة بدون تحاليل كميائية واختبارات بالأشعة ودراسة مضنية لخصوصيات تكتيك الفنان المعني في الرسم قد تستغرق سنين بالإضافة إلي التكلفة المادية لمثل هذه الاختبارات التي لم يكن من الممكن القيام بها من مائة عام مضت ولذلك أعتقد أن هذه الخسارة المادية الكبيرة يمكن أن تعود علي المتحف ومصر بخير كبير إذا أمكن إثبات أن هذه اللوحة هي فعلا لوحة بيد فان جوخ وأن تستغل هذه الدعاية ليذيع صيت المتحف ويصبح هدفا للسائحين المهتمين بفن الرسم الحديث ليحضروا خصيصا لمشاهدته لقد شاهدت عددًا كبيرًا من اللوحات تنسب إلي فنانين لا يقلون كثيرًا عن فان جوخ في هذا المتحف عندما زرته من خمس سنوات لأول مرة وأعتقد أن الوزير الفنان فاروق حسني قادر علي تحويل هذه الخسارة إلي مكسب بالدعاية إلي مشاهدة جميع اللوحات الأخري في هذا المتحف الذي لا يوجد مثيل له في جميع البلدان العربية بما في ذلك مصر كما قلت لعائلتي عندما شاهدت هذا المعرض. أتذكر أيضا أنه عندما كان يزورني في القاهرة صديقي الأستاذ الدكتور جراردوس تهوفت عالم الطبيعة النظرية الهولندي والحائز علي جائزة نوبل في الطبيعة عام 1999م قلت له لا بد أن تشاهد رسومات مواطن هولندي آخر ألا وهو فان جوخ في القاهرة وبدا علي صديقي العالم الاندهاش خصوصا لأنه كان لا يكف طوال زيارته عن وصف قباحة كثير من الشوارع التي تمر بها في القاهرة إلي جانب وجهات المنازل المتآكلة علي كورنيش الإسكندرية فكان هذا المتحف بمثابة دليل حي أن لمصر مزاجًا آخر وتاريخًا معاصرًا يثبت أننا نمر فقط في محنة جمالية عابرة سوف نعود بعدها قريبا إن شاء الله إلي ما عرف عنا عندما كانت القاهرة أنظف من لندنوالإسكندرية عروس البحر وأرقي وبدون شك أجمل من مارسيليا في فرنسا.. ونكمل غدا